منطقة الأمازون تحتاج إلى آلاف السنين لاستعادة عافيتها
تباينت الآراء داخل لبنان حول أسباب حرائق الغابات التى اندلعت فى أشجارها وحراجها، خاصة فى مناطق جبل لبنان ومحافظات الشمال وعكار والدامور والجنوب ، وأدت إلى خسائر فادحة، فقدت فيها مساحات شاسعة جدا منها، بالإضافة للمنازل والمنشآت والممتلكات والسيارات وأشجار الصنوبر فى الشمال، فالمتخصصون فى مجالات الزراعة والحراج والبيئة والتنمية أرجعوها لأسباب طبيعية ومناخية ، مؤكدين أن شأنها شأن جميع الحرائق التى سبقتها فى خلال أشهر هذا الصيف، فى الكثير من دول العالم مثل الولايات المتحدة الأمريكية والأمازون البرازيلية وغيرها ، والغريب أن تلك الأسباب الطبيعية كانت معلومة للجميع منذ فترات طويلة ، أما بعض السياسيين اللبنانيين فأشاروا بأصابع الاتهام لعوامل بشرية وبفعل فاعل، موزعين الاتهامات فى اتجاهات شتي، أما شبكات التواصل الاجتماعى فأفرزت اتهامات عرقية وأحيانا طائفية ودينية، ليبقى فى النهاية الرأى الأكثر إنصافا واعتدالا هو رأى الخبراء البيئيين والتنمويين، والذى أفصح عنه وأعلنه قبل وقوع الكارثة بأيام قليلة، خبير البيئة والتنمية اللبنانى العالمى الدكتور نجيب صعب رئيس المنتدى العربى للبيئة والتنمية ( أفد - AFED) الذى تواصلت « الأهرام » معه فى حوار عبر الهاتف وكعادته رد على أسئلتنا بصراحته المعهودة
ماهى تلك العوامل الطبيعية التى أعلنت أنها يمكن أن تتسبب فى مثل تلك الحرائق التى شهدتها لبنان مؤخرا؟
أسباب تلك الحرائق طبيعية تدحض كل الاتهامات التى يروجها البعض بأنها حرائق مفتعلة، ومفادها أن الحرائق اندلعت فى مناطق ولم تندلع فى مناطق أخري، ودليلنا أنها طبيعية، أنها اندلعت وانتشرت فى المناطق ذات الكثافة الأكثر من الأشجار المتلاصقة والغابات الكثيفة، وهى ذات الأماكن التى اشتدت فيها الرياح ودرجات الحرارة وقلت فيها الرطوبة أكثر من غيرها ، أى أن لها صلة وثيقة بالطقس والمناخ ، فكل الحرائق التى حدثت فى لبنان ومثيلتها فى دول العالم الأخرى تخضع لمعادلة رياضية طبيعية هى ( 30 ـ 30 ـ 30 ) أعلنت عنها من قبل حيث يجتمع عبر أطرافها ثلاثة عوامل تتضافر معا متسببة فى تلك الحرائق، وهى درجة حرارة تزيد على 30 درجة وعندنا تخطت تلك الدرجة، وسرعة رياح تفوق 30 كيلو مترا فى الساعة وقد تجاوزتها، ومستوى رطوبة ينخفض على 30% ، واجتماعها معا متجاوزة الحدود التى ذكرناها ، فأضرمت النيران التى تأججت فى غابات لبنان وحراجها ، وهو ماتكرر أيضا فى ذات التوقيت فى الغابات السورية الشمالية، خصوصا فى اللاذقية ، فهذا الصيف شهد ارتفاعات بدرجات غير مسبوقة فى درجات الحرارة، فى وقت شهد زيادة فى سرعة الرياح وزيادة الجفاف ودرجات الرطوبة ، أى أن العوامل الطبيعية هى السبب الأساسى والأكثر تأثيرا فى اندلاع الحرائق الطبيعية فى الغابات ، من الصعب بل ليس فى الإمكان منعها فى كل الظروف ، ولكن من الممكن السيطرة عليها والتقليل من حدتها وخسائرها وآثارها الناجمة ، وهذا لا يعنى تبرئة الأنشطة البشرية من وقوع مثل تلك الحرائق أو المساعدة فى انتشارها فى بعض الحالات التى يتم اللجوء فيها إلى حرق الأعشاب أو أى أنشطة بشرية أخرى تتسبب فى ذلك
وفى تعقيبه على حجم الخسائر التى تسببت فيها حرائق الغابات اللبنانية يقول رئيس «أفد» : وفقا لبيان غرفة العمليات المركزية، هناك أكثر من 140 حريقا تم تسجيلها فى يومين، وبالطبع كان العدد فى تزايد ، وإذا كانت الحرائق على الصعيد المحلى داخل الحدود اللبنانية قد نبهت لضرورة أن تكون هناك احتياطات واستعدادات وتوفير إمكانات وتقنيات ضرورية تكون على أهبة الاستعداد وفى حالة طوارئ فى الأوقات التى تكون فيها أطراف تلك المعادلة كاملة ، فهى تضع كل الجهات والهيئات والمؤسسات الحكومية كل فى موقع مسئوليته، طبقا للدور المخول له ، كما أنها كشفت أواصر تعاون دولى رائع من الدول الصديقة والشقيقة عكسته استجابة المملكة الأردنية الهاشمية بإرسال طوافتين (طائرتى إطفاء) ومثيلتيها من قبرص، ثم تفعيلا لآلية عمل الاتحاد الأوروبى تم ارسال 4 طائرات من إيطاليا واليونان ، وجهزت مصر طائرتين تحت طلب لبنان، ونفس الاستعداد لبريطانيا وفرنسا وسويسرا، وتم تزويد الجيش اللبنانى بطائرة اطفاء حرائق وعدد من الآليات من اليونيفيل.
ولكن كيف يتم تأهيل الغابات المحترقة ؟
هناك سبل وطرق فنية ومهنية متعارف عليها للتعامل مع تلك الظروف الطارئة ، ففى حالة حدوث حرائق الغابات يتم تأهيل الأشجار بالتخلص أولا من الأغصان اليابسة بقطعها وجمعها مع جميع الأغصان اليابسة الأخري، ونقلها لمناطق بعيدة عن الغابات ومناطق التشجير لمعالجتها ، كما يجب مراجعة كثافة أشجار الغابات لإيجاد توازن طبيعى بينها ، ولتصبح ذات كثافة معتدلة وأن لاتكون بمعدلات أعلى تسهم فى الانتشار السريع للحرائق ، والاعتدال فى الكثافة يجب مراجعته بصفة دورية والتخلص من أى زيادات فى الأشجار الملتصقة ببعضها البعض ، لأن ذلك أحد أهم أسباب انتشار وامتداد تلك الحرائق، كما يجب بل من الضرورى فى المناطق الحرجية الشاسعة، أن يتم ترك مساحات خالية تماما من الأشجار، وهذا سيحصر الحرائق فى مساحة محدودة يسهل التعامل معها ويحول دون انتقالها لمناطق الغابات الأخرى المتاخمة لها أو أى مناطق أخرى بفعل الرياح، كما أن إدارة الغابات ليس مهمتها الأساسية فقط التشجير وزراعة المزيد والمزيد من الأشجار، بل الاهتمام والعناية بماهو قائم وموجود بتقليم وقطع الأجزاء اليابسة منها والمحافظة على توازن كثافة الأشجار، بإزالة الأشجار الزائدة التى يتسبب وجودها فى خلل هذا التوازن ، ونقدر وجود مجهودات للتشجير وزيادة المساحات الخضراء، وذلك لابد أن يكون رهن دراسات وبحوث علمية دقيقة تحفظ التوازن البيئى ، لأن الكثير من مشروعات التشجير يتم من خلال استيراد شتول (شتلات ) من مناطق مختلفة من دول العالم تختلف فى طبيعتها عن البيئة والطبيعة اللبنانية ، وتفتقد للأعداء الطبيعيين فى التربة اللبنانية، وهذا له سلبياته المستقبلية ، ومن هنا يجب أن تعتمد مشروعات التشجير على شتلات محلية لبنانية تتوافق مع بيئتها وطبيعتها ودون أضرار مستقبلية.
وهل يعنى ذلك أن هذا التوازن ووجود المساحات الخالية من الأشجار هو كل ما يجب من احتياطات داخل نطاق الغابات حتى لاتتكرر الحرائق ؟
على قمة متطلبات الوقاية داخل نطاق الغابات والمواقع الشجرية ضرورة وجود وإنشاء البحيرات الصناعية والبرك ونشرها بتوازن داخلها وستسهم تلك البحيرات والبرك كمناطق تجميع للمياه فى اصطياد الثلوج ومياه الأمطار التى تتساقط وتهطل خلال فصل الشتاء ، وهذه المياه يمكن تعظيم الفائدة منها فى شتى المجالات منها الزراعة وكأساس كمصادر مياه قريبة للإنقاذ عند اندلاع الحرائق فى الغابات والأشجار
ويشرح رئيس «أفد» بالتفصيل تغيرات الطقس والمناخ المؤثرة أن لغة الأرقام تؤكد أن صيف هذا العام (2019) شهد 75 ألف حريق فى حوض الأمازون بالبرازيل، وهو رقم لم تشهده الكرة الأرضية من قبل وتم تسجيله بواسطة وكالة الفضاء البرازيلية ذاتها ، وإن كانت حرائق الأمازون هى الأكثر فداحة والأوسع انتشارا ، فإن الحرائق انتشرت فى الكثير من ربوع الدول الأخرى ومنها لبنان وسوريا وإيطاليا ولوكسمبورج وألمانيا وهولندا وغيرها، ولها تأثيراتها السلبية وإسهاماتها فى فداحة الخسائر أيضا ، وعموما أى إحصائيات ومقارنات وأرقام تؤكد عدة حقائق مهمة يجب وضعها فى الحسبان مع أى إجراء أو تحرك عالمى للحد من احتراق الغابات والحراج ، فعلى الرغم من أن تغير المناخ يزيد من هطول الأمطار فى بعض المناطق فإن الرطوبة الزائدة قد لاتكون كافية لتوازن الارتفاع فى درجات الحرارة ، وهذا ما أكدته إحدى الدراسات الكندية التى تم نشرها عام 2015 ومفادها أن تعويض المخاطر الناجمة عن حريق بفعل ارتفاع درجة الحرارة درجة واحدة، يتطلب زيادة 15 % فى معدل هطول الأمطار، وحتى تقرير الاحترار العالمى الذى صدر عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتغيرات المناخية عام 2018، أكد أن الاحترار العالمى بمقدار 1.5 درجة مئوية تسبب فى المزيد من الحرائق التى شهدتها منطقة «التندرا» فى القطب الشمالي، والتى واكبها زيادة العواصف وتفشى الآفات ، كما تواجه العديد من المناطق فى الأمريكتين الجنوبية والوسطى والبحر المتوسط وجنوبى استراليا وإفريقيا زيادة مخاطر الجفاف الناجمة عن تغيرات المناخ.
وهل يعنى هذا ضرورة وجود استراتيجيات عالمية موحدة للتغلب على تلك الحرائق ؟
التخفيف من حدة التغيرات المناخية والاحترار العالمى مطلب عالمى يجب أن تنصاع له كل الدول، لأن الخطر على الجميع ، فالأدلة تؤكد أن هناك علاقة وثيقة بين تلك الزيادة فى درجات الحرارة وحرائق الغابات فى أمريكا الشمالية، خاصة فى غرب الولايات المتحدة ، والتغير المناخى الناجم أصلا عن النشاط البشرى خلال 20 سنة السابقة لعام 2015، والتى تضاعفت فيها تلك الحرائق عما كان متوقعا فى حالة غياب تلك التغيرات المناخية ،ومن هنا يجب التعامل بأسلوب إدارة متطور يعالج الأسباب والأعراض من بدايتها ، وللحد من وقوع الحرائق فى مهدها، لأن الزيادة فى حجم حرائق الغابات والحراج بنسبة 15 % يتطلب زيادة ميزانيات مكافحة الحرائق بأكثر من الضعف.
ويختتم صعب حواره بالقول إن الغابات مهمة لكل كائن حى على سطح كوكب الأرض، بل سلامة الكوكب نفسه ، فهى مخازن لثانى أكسيد الكربون ورئة الأكسجين التى تتنفس منها البشرية ، علاوة على أنها مصادر أرزاق مليار ونصف مليار مواطن من سكان الكرة الأرضية ، وتمثل نظما طبيعية ثرية بالتنوع الحيوى واحتراقها سواء بعوامل طبيعية كالطقس والتغيرات المناخية التى تلعب الأنشطة البشرية فيها أدوارا رئيسية ، أو بأنشطة غير مباشرة، فإن الخسارة الفادحة ستحل بكل البشر ، وهى هدر لحقوق الإنسان فى جميع أرجاء الكوكب ، ومن هنا أصبح تضافر جهود العالم من أجل حماية الغابات والاحراج ضرورة قصوى ، فضرر حرق الغابات أيا كان موقعها من خريطة العالم ستعانى منه البشرية فى أى نقطة على سطح الأرض ، فحرائق غابات الأمازون لاتتوقف أضرارها عند تحرير الكربون الذى كانت الأشجار مخازن لها أو حرمان البشرية من كميات الأكسجين الهائلة التى تهديها للهواء، بل هناك كارثة أخرى وهى أن الأشجار التى نجت من الحرائق ستموت خلال ثمانى سنوات فقط ، ومنطقة الأمازون تحتاج آلاف السنين لاستعادة عافيتها وقدرتها على تخزين الكربون ، والأبحاث والدراسات التى أجرتها الجامعات الأمريكية والبريطانية والبرازيلية تؤكد أن شجرة معمرة واحدة من أشجار الأمازون لها القدرة على اختزان 4.4 طن من ثانى أكسيد الكربون، وباحتراق تلك الشجرة وموتها ينطلق كل هذا الكربون فى الهواء ، وهذا بالطبع يسهم فى تغيرات المناخ ، وحتى الأجيال التالية من الأشجار التى ستتم زراعتها مستقبلا فى المناطق المحترقة لن تكون على نفس الكفاءة ولن تمتص نفس القدر من ثانى أكسيد الكربون ، وأغرب الأرقام فى هذا الصدد هى أنه لو تم زرع شجرة سريعة النمو فإنها ستحتاج 4 آلاف سنة لامتصاص نفس الكمية التى تمتصها الشجرة المعمرة المحترقة فى الأمازون، وهذه أدلة توضح مدى فداحة الخسارة التى تكبدتها البشرية جراء حرائق الغابات وستعانيها مستقبلا.
رابط دائم: