اعتادت شقيقتى رشيدة أن تعزف ألحان حياتها فى هارمونية متناسقة تحقق لها التواؤم مع المجتمع والحياة. كان من الطبيعى أن تنقل فلسفتها وتجربتها الى ابنتها الوحيدة أمنية باعتبارها الابنة والصديقة وقرة العين. لذلك لم تخف عنها أمنية شيئا من تجاربها أو خواطرها أو أمانيها، فهما يحلمان معا ويفكران معا دون أن تسلب الأم شخصية ابنتها، فكان أن جعلت منها مثالا جميلا لفتاة جامعية عصرية متدينة سوية النفس محبة للكون والناس والحياة.
من المؤكد أن هذا يحسب بقوة لرشيدة، فقلما تتواجد فتاة بمواصفات أمنية فى ظروف الزمان والمكان الحاليين، ومن الصعب أن تستطيع فتاة فى ظروف بلادنا المعاصرة أن تحظى بمثل هذا القدر من الاتزان والتناغم مع الحياة، فالمناخ العام لايسفر إلا عن صنع شخصيات إما مأزومة أو مقهورة أو معقدة أو متسلطة أو انهزامية أو متعصبة متشددة أو مغتربة عن عالمها المحيط بها، وقليلة هى الشخصيات التى تستطيع أن تكون بمنجى عن هذه الآفات النفسية والاجتماعية.
ولما كانت رشيدة على وعى شديد بنجاحها الساحق فى تربيتها لابنتها، فإنها كانت غير واثقة تماما فى امكانية الحصول على الزوج المناسب لها والجدير بالارتباط بشخصها عن استحقاق.
ذات ليلة بينما كانت أمنية تتأهب للخروج مع صديقتها سوزان، سألتهما رشيدة فى مودة وحذر:
الى أين تذهب العروستان الجميلتان؟
نحن ذاهبتان الى صديقتنا التوأم نهى يا أمى.
وهل تبقيان بمنزلها أم تذهبان الى النادى معا؟
سارعت سوزان بالاجابة:
لقد سئمنا من النادى ياطانط رشيدة
لعلكما تفكران فى الذهاب الى المسرح مثلا
بل سنذهب أنا وسوزان بصحبة نهى لزيارة صديقة لها فى منزلها
أى صديقة؟ سهام ام نادية أم سميرة أم من؟
فى مرح ممزوج بحسرة قالت سوزان:
ليت أمى كانت مثلك ياطانط، فأنت تعرفين كل شيء عن صديقات ابنتك، لكن أمى لاتعرف عن صديقاتى شيئا ولا تسأل ولا تهتم.
ان صديقات أمنية هن صديقاتى، وكلهن يفضين الى بأدق أسرارهن كما لو كنت أمهن جميعا
قالت أمنية مخفية فرحتها بأمها:
هل تعلمين ياسوزان اننى أشعر أحيانا أن أمى تتعامل معى كما لو كانت ضابطة مباحث، حتى اننى كثيرا ما أشعر بالضيق من ذلك؟!
لو كنت مكانك لحمدت الله كثيرا على هذه النعمة يا امنية.
تساءلت الأم مرة ثانية فى توجس:
لم أعرف من الصديقة الجديدة حتى الآن!
باقتضاب أجابت أمنية وقد شعرت بقلق أمها المعتاد:
اسمها رجاء يا أمى
أهى زميلتكما فى الكلية؟
كانت زميلتنا ولكنها تخرجت وتزوجت وطلقت
بفزع شديد صاحت رشيدة:
ماذا تقولين؟..طلقت؟!!
نعم يا أمى، وما الغريب فى ذلك مادام يحدث كل يوم؟
ليس فى الأمر غرابة، لكن مادامت مطلقة، فلا ينبغى أن تتجاوز الزيارة منزلها بأى حال
بعد فترة صمت صادمة، واصلت الأم:
يجب ان يكون هناك تجانس بين ظروف الأصدقاء والصديقات.. فتجربة صديقتكما مريرة ولم يحن الوقت بعد أن تطلعا على أسرارها.ان ظروفها ومشاكلها واهتماماتها الآن تختلف كثيرا عن ظروفكما ومشاكلكما واهتماماتكما.
أفهم من كلامك يا أمى أن نقاطعها
لم أقل ذلك، ولكن مجتمعنا لايرحم هذه الفئة من النساء، فما ذنبكما أن تؤخذا بجريرتها وأمنية ستزف الى عريسها بعد شهر، وأنت لم ترتبطى بعد يا سوزان. لماذا تعرضان نفسيكما للقيل والقال بلا داع؟
>{>
نهى كانت تعزف لحنا آخر مخالفا. فرغم حسن تربيتها إلا أنها كانت تتمتع بقدر من التحرر يضفى عليها انسانية أكثر ومحبة للناس أكثر وتعاطفا معهم بلا قيود من أى نوع. أحلام أمنية ترتع فى حدائق أشبه بحدائق سويسرا الشديدة التحديد والقطع والنظام ذى الإحداثيات الهندسية رغم جمالها الفريد. أما أحلام نهى فحدائقها أشبه بالحدائق الأوروبية والأمريكية، شديدة التنوع والتناثر والتلون والامتداد بلا قطع حاد أو حواف مدببة..وصاحب العين المدركة للجمال لا يستطيع مقاومة الوقوع فى غرام الجمال الحر غير المحدود..لذلك صدمت نهى فى قرار رشيدة، وحين لاحظت التزام صديقتيها بنصيحة رشيدة والتى كانت فى الواقع أشبه بالأمر الصريح، قالت لصديقتيها بنبرة مفعمة بالحزن:
أنا أتعجب منكما.مافائدة التعليم والثقافة إذن مادمنا نساير القيم المتخلفة فى مجتمعنا كشأن العامة والجهلاء؟!
قالت سوزان محاولة انهاء المشكلة:
ياأمنية لاينبغى أن نخلق بيننا أزمة بلا داع، فعمر صداقتنا طويل، ونحن الأبقى لبعضنا من رجاء. وأنت حرة فى علاقتك بها، لكن لانقبل فرض صداقتها علينا.
قالت نهى بحماس مخلص:
آه لو تعلمان كم أحبتكما رجاء منذ عقدت بينكن التعارف، لقد حجزت لنا جميعا تذاكر السينما اليوم على نفقتها، فضلا عن دعوتنا للعشاء فى مطعم فاخر بعد انتهاء العرض.
وافقت أمنية على الزيارة لكنها قالت انها ستتعلل بمرض أمها واضطرارها الى السهر عليها، حتى لاتذهب بصحبتهما الى السينما أو المطعم، أما سوزان فقد كانت أكثر ملكية من الملك.اعتذرت عن الزيارة من أساسها وقالت لصديقتيها:
قولا لها انى أشعر بألم شديد فى القولون
وفى تحد جميل قالت نهى بنبرات تفيض شهامة:
أما أنا فلن أعبأ بكما، وسأمضى الليلة معها فى أى مكان تريد الذهاب إليه.
>{>
أعتقد أن أحدا لايختلف معى حول طبيعة الانحدار العام فى المناخ السياسى والاجتماعى والاقتصادى الذى يتسم به واقعنا المعاصر، والذى أدى الى كوارث عديدة من أبرزها ارتفاع نسبة العنوسة الى درجة خطيرة.أصبح العثور على عريس «لقطة»- بلغة النساء- فى هذا الزمن أشبه بمعجزة كونية. لذلك كانت فرحة شقيقتى رشيدة فوق الوصف بارتباط ابنتها بشاب على درجة عالية من دماثة الخلق والوسامة، يحمل شهادة الدكتوراه فى تخصص علمى نادر، ويمتلك شقة فاخرة فى أفخم أحياء المدينة. ولشدة فرحتها بالعريس اللقطة، فيبدو أنها تخلت كثيرا عن حرصها المعهود فتعجلت اجراءات عقد القران بلا تحفظ.
>{>
كان قلب رشيدة يعتصر حزنا وهى تخاطب ابنتها التى تلقت صدمة العمر الأولى:
لاتبك يا أمنية، بل احمدى الله على اننا اكتشفنا الكارثة قبل وقوعها
لكنها وقعت يا أمى وانتهى الأمر.
أعلم يا ابنتى ولكنها ارادة الله، وكما يقول المثل «قضا أخف من قضا».
الخائن الكذاب. متزوج وله أولاد ونحن لاندرى؟!!!
الغلطة غلطة أبيك. كان ينبغى أن يتقصى الأمر ويتحرى عنه جيدا قبل عقد القران
وما ذنبه أنه حسن النية تجاه الناس ويصدق كل ما يقولون؟
يابنتى ان نغمة الصدق فى حياتنا أصبحت نغمة نشاز.
>{>
من الواضح أن جوده كان قد انساق أكثر من زوجته - وراء فكرة اقتناص هذا الشاب لابنته قبل أن يضيع منه، ويصعب بل يكاد يستحيل إيجاد مثيل له أو بديل عنه فى ظروف البلاد التعسة فى لهفة سألت رشيدة زوجها بعد عودته من لقاء العريس المخادع:
هل اعترف لك بنفسه؟
نعم وبكل بجاحة!
ولكن بماذا برر كذبه علينا وإخفاءه هذه الحقيقة؟
قال ان الشرع يبيح تعدد الزوجات
المجرم..وهل يبيح الشرع له خداع الناس وتشويه سمعة بناتهم؟
الأدهى من ذلك انه يملى شروطه بقوة وثقة، بأن نتنازل له عن جميع حقوق البنت الشرعية، وأن نعيد إليه كل الهدايا التى جلبها إليها
وما كنا لنفعل غير ذلك حتى لو لم يطلب بنفسه، المهم أن نتخلص منه
وأنا لم أنتظر حتى يطلب، فقد أعدت له كل هداياه، واتفقنا على أن نلتقى غدا بمكتب المأذون ليتم الطلاق.
>{>
كانت سوزان قد حصلت على لقب العانس بين قريناتها عن جدارة. توالى عليها الخطاب دون أن يحالفها التوفيق مرة واحدة. قليلا ما كان الرفض من جانبها وكثيرا ما كان من جانب الخطاب دون ذكر سبب محدد. سوزان هى أجمل صديقاتها وأكثرهن ذكاء ومرحا. هى الوحيدة بينهن التى تجيد شئون الطهى وتتقن صناعة الحلوى. تدعو الله باكية فى صلاتها أن يفك كربها ويعوض صبرها خيرا وينشلها من سوء الحظ الذى يلازمها بلا سبب معروف، مما أثار حيرة الأهل والأصدقاء والأقارب.
عندما بلغت الخامسة والثلاثين من العمر يئست سوزان تماما واستسلمت لقدرها، وراحت تؤهل نفسها للحياة وحيدة بقية العمر بلا شريك. غير أن القدر أتحفها بخبيئته حين أذن الله بالتوقيت، فكانت فرحة العمر بالعريس اللقطة فوق الوصف، حتى أنها لم تصدق ما حدث فجأة وعلى غير انتظار وكأنها كانت تحلم.
تمت الخطوبة فى تكتم شديد من جانب الأهل خشية الحسد، لكن سوزان لم تستطع كتمان فرحتها فعرف الجميع بالنبأ السعيد.
قالت لها أمنية:
انى أحذرك بشدة ياسوزان من عقد القران قبل التحرى الدقيق عن حياة خطيبك حتى لاتكررين مأساتى
اطمئنى فقد قام أبى وأمى باللازم تماما.
آخر ما كنت أتوقع حدوثه قد حدث لى
كفاك اجترارا لهذه التجربة السخيفة واحمدى الله على النجاة قبل اتمام الدخلة
الحمد لله..تعالى بنا نذهب الى النادى بدلا من مجلس البيت الممل
ترددت سوزان وارتبكت وتلعثمت وهى تتساءل:
هه؟؟..النادى؟!..
نعم..ماذا بك؟..هل هناك مكان أفضل منه لنقضى وقتنا فى أمان؟
بنفس الارتباك والتلعثم أجابت سوزان:
- لا..لست أقصد..ولكنى....
مندهشة مصدومة ذاهلة تساءلت أمنية:
لكنك ماذا يا سوزان؟!!!!
لكنى بحاجة الى تغيير ملابسى.. أقول لك الحق..ان أمى مريضة وبحاجة الى وجودى بجانبها و السهر عليها!
رابط دائم: