رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

وجوه على لافته زجاجية

نهى صبحى;

جلستُ متكئة على نصف ذراع لمقعد أعرج كسرتُ رجله أثناء أدائى حركة بهلاونية فى طفولتى الشغوبة، ورغم أن عمرى أصبح تسعة عشر عامًا فإننى ما زلت أتذكر تفاصيل المشهد كاملًا، لم أشعر وقتها حياله بأى ذنب؛ وجلست عليه دون أن أزيل الغبار عنه، وفى حالة استسلام بعد جرعة خذلان مكثفة التقطتُ أنفاسى منهكة يائسة عقب خروجى من حرب الجدل مرارًا وتكرارًا والتعبير عن غضبى بطرق شتى، إلى أن رضختُ أمام رغبة أبى مرغمة ألا أُكمل تعليمى الجامعى، وأتفرغ لإدارة متجره العتيق الذى أجلس على أعتابه اللزجة استنشق فى يأس رائحة الموت المنبعثة من تحت قدميّ اللتين استقرتا ببركة ماء قاحلة.

كلما مرت سيارة على الطريق تحاصرنى رعشة قدمى الكئيبة بحقائق لا مفر منها، مثلًا أن أبى ليس مريضًا وإنّما يتمارض لإبعادى عن ساحة المنزل، وأننى هنا الآن كى يحظى هو بقضاء وقت ممتع مع زوجته اللعوب التى لم ينتظر انقضاء فترة الحداد على أمى كى يتزوجها، فصوت أمى لا يزال صداه بين جدران المنزل يروى القصص والحكايات، وآثار قدميها لا تزال محفورة على الأرض، وعرقُها الذى سالَ فى مشقة تحضيرات استقبال أبى فى ليلة صيفية لم يجف بعد من على ياقة قميصه البرجوازى، قُبلتها اليومية موشومة على جبينى ومطبوعة على كفى، وباقية خجولة على وجنة أبى ومختبئة أسفل عنقه، وعطرُها يفوح من بين الأرفف والمناشف كلما فتحتُ خزانتها الموصدة.

كانت الوسادةُ أكثر إخلاصًا لأمى حين احتفظتْ ببؤرة حنون لطالما احتضنتْ رأسها وأحلامها ورفضتْ الاستجابة لمحاولات الحسناء المدللة بمحوها، بعدما اخفتْ منحنياتِ جسدِ أمى الدافئة من فوق فراشها، وأعادتْ رسمَ جسدٍ جديدٍ بألوانٍ باهتةٍ تشبه ألوانَ اللافتةَ المعلقةَ على باب المتجر التى دفعتنى للخروج من قفص الذكريات.

أطيح برأسى الخاوية بثقلٍ فى دورات متتالية يمينًا ويسارًا كبندول ساعة قديمة تدق فى قبو قصر مهجور أصبح مأوى للأرواح الشريرة والعناكب السامة، دقتتُ النظرَ بين فراغات الألوان على الزجاج، لعليّ أعثر بينها على بصمة كفى الصغير الذى طبعته عليها منذ زمن، فى أولى محاولاتى للطيران بين أيادى أبى، وأضواء المتاجر المجاورة تسطع، مع صوت ضحكة طفولية تدعو الجميع للمشاركة فى الاحتفال.

أثناء جولتى فى البحث عن أثر طفولتى، عثرتُ على انعكاس الشارع الخلفى على اللافتة، كان المشهد ينعكس أمامى كاملًا بوضوح شاشة سينما صيفية من الدرجة الثالثة، الجميع داخل الشاشة، الباعة الجائلون بالسوق، البضائع المقلدة على الطاولات المحطمة، المارة والمتبضعون والمتاجر الخالية التى انطفأت أضواؤها وبهتت ألوانها، المخابز والمطاعم، السيارات المخالفة، الأرصفة المكتظة بالقمامة.

من بين الزحام توقفت فتاة فى مستوى عمرى تقريبًا أمام المرآة المكسورة المسنودة على الرصيف، تعيد وضع مساحيق التجميل التى ذابت من شدة الحر، مؤكد أن أحمر الشفاه دليل على أن الله يُحبنا ويُريدنا أن نكون سعداء، وإن ظلت القاعدة هنا «الجمال يجلب المشاكل». تُهندم ملابسها الأنيقة، وتعيد ترتيب حزمة من الأوراق وبعض الكتب الجامعية وتحتضنها وتختفى.

سرعان ما يتبدل المشهد لتنعكس أمامى صورة شيخ بملابس مهلهلة وحذاء مهترئ، غزاه المشيبُ من رأسه إلى أخمص قدميه، وسكنت العناكب بين حاجبيه، يخفى الغبار أغلب ملامحه، جلس على الرصيف مصفر الوجه ترتعش أطرافه على نحو ملحوظ، أعتقد أنها حالة مرضية، يمسك بكيس بلاستيكى ويضعه أمامه، قبل أن يفتش داخله بيدٍ تهتز، يُخرج زجاجة دواء فارغة، يبحث داخلها عن قطرات راقدة فيعثر على خيبته، ينظر فى أسى وتهوى يده بالزجاجة استسلامًا، ويطير الكيس ليحطّ تحت عجلات السيارات التى لا تيأس من دهسه.

يدخل إلى المشهد شاب وفتاة متشابكا الأيدى، تكسو وجوههما ملامح الولع، يستقران بجوار المُسن لكنهما لا ينتبهان له، يتبادلان النظرات، فى خلسةٍ يتحسس الشابُ خصرَ زميلته فى حركات مترددة مختطفة، وهما يراقبان المارة فينتشلهما من حالة الحب صوتُ الشيخ المهزوم، يتبادلان نظرات الشفقة على حالته، يجلسان بجواره فى محاولة لمعرفة سر همه فيرفض البوح، مع إلحاح منهما أظهرته حركات الأيدى وتعابير الوجه، يستسلم ويبوح بألمه، يبدو من ملامحه ومحاولاتهما المتكررة لإرضائه أن القصة مؤلمة، يأخذ الشاب زجاجة الدواء الفارغة من يد الشيخ بعد مقاومة ضعيفة، ويترك الفتاة فى أمانة المسن وينطلق.

غريبةُ الأطوار أنا، أعيشُ فى أقصى درجات الهوس والحالة المزاجية المتقلبة، ليس هناك حل وسط. ذات ليلة سمعت فى فيلم أجنبى طبيبًا ينصح مدمنًا للكحول برؤية نفسه أثناء الشرب، أعجبتنى اللعبة فاعتدتُ أن أشاهد الآخرين على زجاج السيارات واللافتات وأى سطح قابل لانعكاس الصور. وأنا صغيرة، كلما شاهدتُ فيلمًا كنتُ أعيدُ روايته بطريقة مختلفة، اللافت أن الناس كانت تفضل حكايتى.

كمشهد يوميّ اعتيادى غير واضح كليًا، تَدخل طفلةٌ فى السابعة من عمرها إلى الصورة، تقف على الجانب الآخر من الطريق تحمل بين يديها سلة خبز، تحاول عبور الشارع مترددة مرات عدة، فى كل مرة تعود للخلف خشيةً من سرعة السيارات التى تفزعها وتنفس الوقود المحترق برئتيها والأتربة فى عينيها، يظهر على سطح اللافتة صبى فى عمر الفتاة تقريبًا، بيده بقايا أطعمة ليست جيدة على أيّ حال، نظر للفتاة الصغيرة بشفقة، وكقرد مُدرب قفز إليها ليساعدها بخفة على قطع الطريق، ويحصل على قطعة خبز طازجة مع ابتسامة دافئة مكافأة منها له، تدفعه إلى إلقاء ما بيديه من طعام، ويطير فى الهواء فرحًا بابتسامتها تاركًا إياها فى مأمنٍ لتكمل طريقها ويختفى.

تكتظ اللافتة من على بعد بمجموعة من الرجال المختلفة أعمارهم، بعدما نشبت بينهم مشاجرة كبيرة أصابت الناس بالذعر، واختفت الفتاة مع الشيخ الكبير من فوق الرصيف! يبدو أنهما يختبئان فى زاوية ما، تفرق الباعة الجائلون والمارة، البعض يركض بطاولته وجماعة تهرب ببضائعها، تتداخل أصوات تساقط الأوانى والأقمشة والأطعمة ولعب الأطفال، وتخبط أجنحة الطيور الهاربة بين نغمات مختلفة من صرخات متفرقة فى الأرجاء عقب ظهور أسلحة بدائية الصنع والسكاكين والآلات الحادة؛ ليكمل بكاء الأطفال والرضع العزف بين أذرع الأمهات الفارات من رشق السكاكين وتساقط الحجارة.

بعض الوجوه تبدو لى واضحة، كهذا الرجل الذى أكاد أرى بلعومه الشائك من على بعد وهو يجهر بصوته وسط الجموع، وثانى كادت شرايينه أن تنفجر من شدة الضغط، وثالث لم أر منه إلا عينيه الحادتين وعقدة حاجبيه وخطوط جبهته العريضة وهذا السكين الحاد الذى يرفعه عاليًا، وعامل المصلحة الذى لا يشغله إلا كيفية وصوله إلى منزله سالمًا وهو يتسلل فى محاولة لتجنب المجزرة، يحتمى بالسور إلى أن يصل لوجهته ثم يختفى، وأنا أتساءل هل حقًا وصل أم أصابه هدف غير دقيق؟

ينعكس على سطح اللافتة، شاب مستغلًا الفوضى، يلقى بسيدة عجوز فى زاوية بجوار جدارٍ مائل ويختفى بين الحشود. للحيطان آذان تسمع وألسنة تتكلم، تُذكرنى أحاديثها بيوم أن شاهدت العرافة تُلقى على جدار طلسمًا وتُخفى بعض الأحجبة بين شقوقه وترسم عليه الجماجم التى طالما لاحقتنى فى كوابيسى. الخبيرات بأمور النسوة وألاعيبهن أدركن أنّ العرافة تحيك الخطط مع امرأة لمنع زوجها من برّ أمه واتباع أوامرها، وأن يصير خاتمًا فى إصبع الزوجة ويشبع جوعها ويزكى غرائزها، وحين تمعنتُ النظر علمتُ جيدًا لما ألقى الشاب بجوار هذا الجدار الملعون هذه العجوز، من المؤكد أنها أمه وجاء يُعيد غلق الدائرة ولو بعد سنوات.

عاودتُ للمتابعة، كان المشهد يقترب أكثر فأكثر إلى أن خرجت الفتاة التى كانت بجوار الشيخ من بين الجموع تركض فى هلع وملابسها ممزقة حتى اختفت عن الأنظار، عاد صديقها للمشهد بزجاجة الدواء يبحث عن الشيخ والفتاة بعدما شاهد انتشار الفوضى فى كل مكان. اقترب الخطر وأصاب اللافتة حجرٌ، فتبعثرت شظايا المشهد على الأرض، أصابتنى جروح أجبرتنى على الحراك، أمسكتُ بالمقعد الأعرج فى محاولة للهروب به داخل المتجر، لتظهر زوجة أبى تمسك بذراعى فى تعنيف، وتتناول كرسيّ بحجة ألا أفقده، ركضتُ وراءها فارتطمتْ قدمى بجسد الشيخ وبقايا زجاجة الدواء وطيف المقعد.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق