اختار الأديب أحمد جمال الدين موسي، لروايته «ملك التنشين»، التى صدرت مؤخرا عن الهيئة المصرية للكتاب، عندما نشرها أولًا على حلقات على موقع التواصل الاجتماعى «فيسبوك»، عنوانا جانبيا هو «انعكاس الشفق»، وكلاهما عنوان دال فى حد ذاته، فبينما يعبر العنوان الأول عن الشخصية الرئيسية بتركيبها الدرامى الذى يعكس التركيب السردى للرواية كلها، يعبر العنوان الثانى عن مآل العنوان الأول، أى عن نهاية البطل، ونهاية الرواية، وزيف القوانين التى أنتجت الشخصية وزيف المجتمع الذى أنتج هذه الشخصية.
وهكذا يدخل موسى إلى عالم الرواية من بوابة التجريب الكبري، على مستوى التلقى والتأويل، لكى يقدم روايته الثالثة، بعد «فتاة هايدلبرج الأمريكية» و«لقاء فى واحة الحنين»، إن «انعكاس الشفق» الذى عبر عنه صراحة فى الفقرة الأخيرة من الرواية، يتضمن كلمة «انعكاس» وهو الارتداد إلى مركز المرسل، إلى قلبه. والشفق هو آخر ما يظهر من الشمس، وانعكاس الشفق هو الجمال غير الحقيقي، والضوء غير الأصيل، واللون الناتج عن تشتت أشعة الشمس، وقصر عمر كل هذا، إذا لا يبقى الشفق ولا انعكاسه أكثر من 12 دقيقة. ومن يقرأ الرواية سوف يفهم كيف ينطبق هذا على حالة البطل، وكيف أن غروب الشمس أو شروقها لا يحددان بداية الظلام أو نهايته، وإنما يعكسان «انخفاض الأفق». لقد ضاق الأفق على «غريب» حتى أنه لم يستطع أن يختار لنفسه مستقبلا غير الموت.
وغريب هو شخصية أقرب إلى نمطية شخصيات محجوب عبدالدايم ولكنه أكثر شرفا وغيرة على عرضه، ومحفوظ عجب، ولكنه أكثر شرفا فى خصومته، أو أنه شخصية جديدة ابتدعها الكاتب من خلال تجربته الخاصة فى العوالم التى عاشها، طالبا وباحثا ومبتعثا ومحاضرا ومسئولا، وفى تأمله للواقع المنتهى أمام عينيه. ونستدل من اسمه على أنه «غريب»، ليس بمعنى الغربة، رغم أنه عاش مغتربا منذ التحاقه بالجامعة بعيدا عن بيته، وإنما بمعنى الاغتراب، الذى سوف نكتشف أنه واقع متجاوز للواقعية التى نعرفها والتى تعالج الواقع فى الأدب معالجة فنية، وأننا أحيانا، وفى فترات متقطعة من حياتنا، نصبح مغتربين مثل غريب، عندما تواجهنا نفس المساحات الرمادية التى أغرت البطل على ممارسة الفساد المقنع المبرر بالمنطق الخاص للشخصية.
ويقودنا هذا بالضرورة إلى مناقشة عنصر السيرة الذاتية فى الرواية، والتى كانت سببا فى أن يتصور البعض، وأنا منهم، عند نشر الحلقات الأولى من الرواية، أن المؤلف سوف يكتب مذكراته، أو سيرته الذاتية، لنقاط التماس الكثيرة بين المؤلف والشخصية، من حيث أنه دارس للحقوق، وأنه ريفى الأصل، وأنه حصل على الدكتوراه من الخارج، وهذا الاضطراب الأولى سارع المؤلف ونفاه تماما فى تفاعله البديع مع قرائه للرواية عند نشرها على أحد مواقع التواصل الاجتماعي.
ويمكن وصف هذه الرواية بأنها «سيرة غير ذاتية»، سيرة البطل التراجيدى غريب التى تتماس مع حياته وحياتنا، على الأقل فى تركيبة الشخصية التى نراها أمامنا متكونة، ولكننا لا نعرف كيف، إلا من خلال التحليل النفسى/الاجتماعى الذى قدمه المؤلف لها. فضلا عن عناصر كثيرة أخرى لا تخطئها عين الناقد الحصيف، مثل الزمان والمكان، وبنية الرواية التى أقر البطل نفسه أنه روى فيها حياته، حتى دقائقها التى ربما يعتبرها البعض غير مهمة، وهو يتمنى أن تكون ذاكرته قد أسعفته فى ذكر كل شيء دون خوف أو تردد، ودون أن يضع فى اعتباره ككاتب سيرة ذاتية ردودالأفعال، فقد قدر بطل الرواية أن «قصة حياته» سوف تنشر بعد ثلاثين عاما، حينما تكون الأمور قد تغيرت، وعندما يصبح المجتمع أكثر قدرة على القبول والتسامح.
إننا أمام شخصية لا يمكن الحكم عليها بالخير أو بالشر، بالحكمة أو بالرعونة، بالانتهازية أو بالاجتهاد. ما يحكمها هو ولاؤها لطموحها، وأمام شخصيات فى الرواية قد تحكم عليها بالعجز، أو بالمثالية المفرطة، ولكنها مبررة إذا نظرنا إلى الرواية على أنها «مسح» فنى أدبى لطبقة اجتماعية لها خصوصيتها، الطبقة البرجوازية «الصغيرة» التى تعانى عدم القدرة على اتخاذ مواقف حدية قد تضر بوضعها الطبقى وتشكل خطرا عليه. وهكذا نجد الأستاذ المشرف على رسالته العلمية مساندا لما تصور أنه امتداد له ولطبقته، حتى وإن اقتصرت العلاقة معه على توجيهه للاستفادة من علمه ومواهبه، وابتعدت عن تشجيعه على الفساد. وعموما لا نجد فى شخصية الدكتور حافظ شكرى أى ملامح خاصة تقربنا منه، فنحن لا نعرف عنه غير علاقته بغريب، وباقى حياته لابد أن فيها ما فيها، وأنها طبيعية إلى حد كبير، أو هكذا نتخيل.
ورغم ما نلمحه من انفراد غريب بالسرد، وأنه ليس هو المؤلف، وإنما الشخصية الرئيسية، وهو ما يجعل الرواية أشبه بالمونولوج الطويل، ومن ثم فهى أقرب إلى الأسلوب الذاتى فى التعبير، والذى يساعدنا كثيرا فى تحليل شخصيته، وكأنه على «شزلونج» الطبيب النفسي، يجتر أحداث حياته، وكلها مربوطة بخيط دقيق جدا سوف نتبينه تدريجيا. وإذا كان لنا أن نصنفها فيمكننا أن نضعها ضمن «الرواية النفسية» ونطبق عليها نظريات فرويد فى التحليل النفسي، ونبعد بها عن تدفق الوعى الذى يتميز أساسا بفقدان الخيط الرابط بين الأحداث على نحو ما نجده فى روايات فرجينيا وولف، والتى تعتبر من أهم ممثلى مدرسة تيار الوعي. إننا فى هذه الرواية أمام ثلاثى فرويدى بامتياز: الأنا والرغبة والأنا العليا. هذا الخيط الدقيق الذى يربط الرواية معا، والذى لا تستعصى رؤيته على أى قارئ ولو عابر، هو ما أسلفت الإشارة إليه فى أن العنوان يعكس تركيبة الرواية، أى أن «ملك التنشين» يحدد بدقة شخصية غريب، والتنشين فى حد ذاته «رياضة» تمارس فى الموالد بكثرة، ومن يكسب فيها يفوز بهدية، وأقول «رياضة» تجاوزا، فالحقيقة أن البطل فى هذه الحالة يمارس مع نفسه «سباقا» ضد الزمن، وضد المجتمع، وضد أخيه «دينى التكوين» وفى الوقت نفسه «انتهازى السلوك»، وضد أى شىء يمكنه أن يجعله يخسر سباقه للانعتاق من وضعه الطبقى الذى لا يوافق طموحه.
إن «غريب» بورجوازى صغير دخل سباقا لا تستطيع إمكانياته ومواهبه وقدراته الخاصة أن تساعده على الصمود فيه، ومن ثم فإنه يُلقى فى النهاية «منديل» الاستسلام للهزيمة، هزيمة بالنقاط وليس بالضربة القاضية. وهو أيضا مسئول عن أفعاله فى تراجيديا ليس فيها أخطاء نبيلة، ولكن فيها أخطاء كارثية تتطلب منا جميعا الانتباه والوعي، والتربية والتعليم، وكلها مسئوليات مجتمع يعكسها شفق غريب، بطل الرواية.
> أستاذ الأدب الإيطالى
عميد كلية اللغات والترجمة بجامعة بدر
رابط دائم: