ترددت كثيرا فى كتابة قصتي المأساوية التي أعيشها منذ أكثر من أربعين عاما، حيث أن لدىّ ثلاثة أولاد وبنت واحدة هى الصغرى، وفى سن الثامنة عشر عانى الأولاد الثلاثة أمراضا بدأت بأعراض متدرجة انتهت بتخلف عقلى مصحوب باضطراب في الجهاز الحركي لا يفارق أجسادهم، وغياب عن الحضور الذهني متفاوت في مظاهره، فهم ينامون خلال ساعات النهار، ويستيقظون فى أثناء الليل، وكنت أظن أن هذه الأعراض تنتظر شقيقتهم، ولكن الأقدار كانت تخبئ لنا شيئا آخر بخلاف الظنون، حيث لم تظهر أى من الأعراض التي ظهرت لدى أشقائها، وانتهت بما انتهت إليه، وهذا من لطف الله سبحانه وتعالى.
إن حالات أنجالي شبه مستقرة، وقد عرفت أنها وراثية - تظهر عند مرحلة عمرية معينة، ولها تاريخ مرضي فى العائلة، وقد وجدتني بعد زواج منذ منتصف السبعينات أخوض هذه التجربة، والحقيقة أننى لم أشعر بندم على ارتباطى بزوجى، ولا أعرف إن كان هذا المرض وراثيا من عائلتى أو عائلته، فلقد أدركت أن إرادة الخالق هي الغالبة، وأننى لابد أن أخوض غمار هذه التجربة دون كلل، وهكذا أكملت رحلتي مع أبنائى، وهم يبادلونني مشاعر الحب والود ولغة الكلام.. نعم.. لقد تقبلت الأمر دون البحث في مكنون الأسباب التي لا يعرفها سوى رب العباد، وإننى أتبادل مع زوجى كل الاحترام والمودة، وهي مشاعر طبيعية، حيث أيقنا أنه لا يملك كائن أن يقرر مصير ومشوار حياته خاصة على مستوى الرزق والإنجاب كهبة من رب العباد.
لقد توقف أولادى عند مرحلة الدراسة المتوسطة، ولم يستطع أى منهم بطبيعة الحال استكمال تعليمه الجامعى، حيث ظهرت الأعراض عليهم، وأعاقتهم عن الاستمرار فى الدراسة، وإن كان والدهم قد تمنى أن يكملوا مشوار التعليم الذى يعتبره أمرا مهما في حياة الإنسان، إذ يساهم في بلورة شخصيته، فزوجي حاصل على دراسات عليا فى مجاله، وقد تعرفت عليه فى أثناء إجراءات تسجيله الماجستير، حيث كنت أعمل مديرة مكتب للتعليم ما بعد الجامعي، وأبدى إعجابه بى، ورغبته في الزواج مني، وخلال عام تقريبا كنت في بيت الزوجية بإحدى الضواحي التابعة لشرق الدلتا.
لقد منحنى الله طاقة إيمانية ساعدتنى على تجاوز الآلام النفسية التى انتابتنى لما حدث لأولادى الذكور، وعندما قاربت ابنتى الوحيدة على هذه السن، خشيت أن تتعرض للمصير نفسه، لكنها لم تتقاعس، ولم تفكر فيما يمكن أن تتعرض له، وانضمت إلى ناد، فكان فاتحة خير عليها، وطاقة نور ارتبطت بمصيرها، حيث أشار عليها القائمون على لعبة السلة أن تلعب ضمن الفريق، وحققت فيها نجاحا كبيرا لخفة وزنها ورشاقتها، ولفتت أنظار الجميع بمهارتها، وتعرّف عليها كابتن فريق السلة بالنادى، وتقدم إليها، ووافقنا عليه، وهكذا عوضني الله عما أصابني في فلذات أكبادى الذكور، وتغيّر المشهد المثير للشفقة، وصارت ابنتى محط إعجاب الجميع، وعوضنى الله بها، والحقيقة أن الله حبانى بحماية وطاقات إيمانية.
وفي أقل من عام تزوجت كريمتي بالقرب من البيت الذي نشأت فيه، ويشاء العلي القدير أن ترزق بمولود ارتبطت ملامحة بشقيقها الأكبر، وكأن أبواب السماء قد أعطتني زوجا لكريمتي وحفيدا، وتلاقت أقدار السماء مع فرحتي التي جاءت بمثابة همزة الوصل بين أوضاع كانت وأخرى أعيشها أتلمس معناها ومغزاها، وأصبحت المحنة مشاعر نور على الطريق لأجد نفسي وكأن شيئا لم يكن، حيث تحولت الكآبة على وجه أنجالي إلى ابتسامات لا تفارق شفاهم وهم يلاحظون شقيقتهم مع زوجها والتي شاءت الأقدار أن تكون رحلة زواجها كالحلم جاءت خطوات إتمامه سريعة.
إنها إرادة السماء أن تتغير أحوالنا، وتتبدل أوضاعنا، وأن يهبنا الله طاقة إيمانية كملاذ للعبور إلى آفاق المستقبل.
إننا لا نملك من أمورنا شيئا في الحياة، وعلينا أن نرضى بأقدارنا، وسوف يوفقنا الله لما يحبه ويرضاه لنا.
> ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
لقد استوقفتنى رسالتك كثيرا، ووجدتنى أردد قول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَا يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ، وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ وَلا أذىً وَلا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلا كَفَّرَ اللهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ»
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قالَ: أتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ، وَهُوَ يُوعَكُ وَعْكاً شَدِيداً، وَقُلْتُ: إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكاً شَدِيداً، قُلْتُ: إِنَّ ذَاكَ بِأنَّ لَكَ أجْرَيْنِ؟ قال: أجَلْ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أذىً إِلا حَاتَّ اللهُ عَنْهُ خَطَايَاهُ، كَمَا تَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ»
وقال الله تعالى: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» (البقرة:155- 157)
إن هذه العقيدة إذا رسختْ في النفس وقرَّت في الضميرِ صارتْ البليةُ عطيةً، والمِحْنةُ مِنْحةً، وكلُّ الوقائع جوائز وأوسمةً (ومن يُرِدِ اللهُ به خيراً يُصِبْ منه) فلا يصيبُك قلقٌ من مرضٍ، فإنَّ الباري قد قدَّر والقضاءُ قد حلَّ، والاختيارُ هكذا، والخيرةُ للهِ، وهنيئا لك صبرك ورضاك عن الآخذِ، المعطي، القابضِ، الباسط، «لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ».
وعلى كل منا أن يستسلم للقدر قبْل أن يطوّق بالسُّخْط والتذمُّر والعويل، وأن يعترفْ بالقضاءِ قبْل أن يدهمه سيْلُ النَّدمِ، إذن فليهدأ بالُه إذا فعل الأسباب، وبذل الحِيل، ثم وقع ما كان يحذرُ، فهذا هو الذي كان ينبغي أن يقع، ولا يقُلْ (لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا)، ولكن يقول: «قدَّر اللهُ وما شاء فعلْ»، وليعلم كل منا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، فليبشَّر الليل بصبح صادق يطاردُهُ على رؤِوسِ الجبال، ومسارب الأوديةِ، ويبشِّر المهمومَ بِفرجٍ مفاجئ يصِلُ في سرعةِ الضَّوْءِ، ولمُحِ البصرِ، ويبشِّرِ المنكوب بلطف خفيٍّ، وكفٍ حانيةٍ وادعةٍ .
إن رسالتك تحمل معانى سامية، وعلى كل منا ألا يضيق ذرعا فمن المُحالِ دوامُ الحالِ، وأفضلُ العبادِة انتظارُ الفرجِ، الأيامُ دُولٌ، والدهرُ قُلّبٌ، والليالي حُبَالى، والغيبُ مستورٌ، والحكيمُ كلَّ يوم هو في شأنٍ، ولعلَّ الله يُحْدِثُ بعد ذلك أمرا، وإن مع العُسْرِ يُسْراً، إن مع العُسْرِ يُسْراً. إننا مطالبون بالصبر وما أحلاه، فمعه يتحقق الفرج.
رابط دائم: