تمثل حرب أكتوبر وانتصار المصريين لحظة تاريخية، ليس على المستوى الإقليمى والمحلى فحسب، وإنما أيضا على المستوى الدولى بما قدمته من دروس فى العبقرية العسكرية كانت ولا تزال درسا مهما فى مناهج الأكاديميات العسكرية العالمية.
الدكتور محمد كمال إمام، أستاذ الشريعة والقانون بجامعة الإسكندرية، أحد الذين شهدوا أوقات الحرب العصيبة وشارك فيها جنديا، يروى ذكرياته وانطباعاته عن هذه الملحمة قائلا: ندرك نحن المصريين مدى الإحساس بصعوبة الموقف الذى عشناه بعد ما حدث فى 67 الذى أدى إلى انكسار المشروع القومى واهتزاز الثقة فى قدراتنا على المستويات كافة. وكان الألم كبيرا ليس فقط فى حجم الشهداء، وإنما فى الوزن التاريخى لمصر التى كانت ولا تزال هى الدولة المركزية التى بانكسارها ينكسر العرب ويتراجع المسلمون، وبقوتها وانتصارها ينتصر العرب والمسلمون.
وأضاف: كانت الحرب للذى عاش أحداثها مثلى فى ميدان القتال إعدادا نفسيا وتفكيرا متجددا فى الجسور التى نستطيع بها أن نعبر من اليأس إلى الأمل، ومن الانكسار إلى الانتصار، ومن إحساس المغلوب إلى استعادة الثقة بالنفس بالنسبة للمنتصر، وكان متابعو التاريخ فى لحظة صدق مع أنفسهم عندما قالوا إن «أكتوبر» هى الحرب الوحيدة التى جسدت انتصارا مدويا للعرب يعترف به العالم كله، والانتصار على النفس فى عملية الإعداد ومرآة للتلاحم بين أبناء الشعب الذى عرف طريقه الصحيح فى مرحلة الإعداد. ويواصل: كان الشباب من جميع الفئات. الفلاحون الذين جاءوا من أرضهم وقراهم، والعمال الذين تركوا بيوتهم ومصانعهم، والذين تخرجوا من كل الجامعات: أطباء ومهندسين ومحامين وأساتذة، كل هؤلاء كانت لهم بصمتهم فى كتابة «ملحمة أكتوبر»، من استشهد منهم فاز بالشهادة والنصر، ومن بقى منهم حمل من الذكريات ما يرويها لجيله ولأبنائه ليكتب به سفرا خالدا فى حياة الأمة المصرية، فـ«أكتوبر» كانت مثل «المزرعة النبيلة» التى تذوق حلاوة ثمارها كل المصريين والعرب والمسلمين وكل الشرفاء فى العالم.
وأردف كمال إمام قائلا: كنت مع زملائى جنديا فترة فى السويس، وفترة فى جنوب سيناء، وأخرى فى شمالها، وغرب القناة وشمالها وجنوبها.. كان القائد يحس أنه واحد من الجنود ويغرس فيهم معنى القيادة، وأن العسكرية تقتضى توزيع المهام، وتحديد المسئوليات والتبصير بالخطط، ورصد الاتجاهات، فقد امتلأت قلوب هؤلاء الشباب وعقولهم بكلمتين لا ثالث لهما «النصر أو الشهادة».. استعادة الأرض والعرض أو الدفاع عنهما حتى اللحظة الأخيرة. وكان إيمانهم بالوطن جزءا من إيمانهم بالله فكان شعارهم المرفوع دائما «الله والوطن».
ويتذكر: كلفنى قائد الكتيبة بأن أقوم بمهمة التوجيه المعنوي: محاضرات يومية فى سرايا الكتيبة وبقية السرايا التى تنتمى لنفس السلاح.. كنت أقول لهم إننا فى رباط، وكان بعضهم يقول لي: إننا فى انتظار الأمر بالهجوم، كانت الحرب بالنسبة لهم ليست الحياة والموت، ولكنها الدفاع عن الأرض والوطن والعرض.. يتساوى فى ذلك الجندى البسيط مع الشاب المثقف مع القائد المسئول، ولأن الهدف كان واحدا فقد كان كل الجنود والقادة فى معركة السادس من أكتوبر أبطالا بغير استثناء.. الواحد فيهم يمثل أمة فى ذاته بل هم يعبرون عن أمتهم فى كل ما تريده عبر تاريخها الطويل الممتد.
ويضيف كمال أمام: لم تكن البطولة فى حرب أكتوبر فردية ولكنها بطولة جيش عظيم جعل هدفه الأول والأخير تحرير الوطن، وبطولة شعب عظيم آمن بأن انتصاره سيكون له شواخص على الطريق تبدأ بالإيمان بالله، والثقة فى النفس، وتلاحم الأفراد والقيادة، وتماسك الشعب مع هدف التحرير وغاياته، وهذه هى جوانب الشخصية المصرية وعبقريتها فى أكبر حدث عاشته فى القرنين الأخيرين. لقد انكسرت الروح المعنوية فى ساعات ست وعادت بعد سنوات ستة لتعطى دروسا للعالم فى العسكرية والمقاومة والانتصار فى سبيل المبدأ والدفاع عن الوطن، وما قدمه الشعب والجيش معا يمثل نموذجا رائعا فى تماسك أبناء الوطن الواحد، فالجميع شعب والجميع قادة. وهناك فى حرب السادس من أكتوبر ما يمكن أن يسمى اللحظات الفارقة فى تضميد جراحات الأمة، فتراجعت الانتماءات الطائفية، واختفت النظريات والأيديولوجيات أمام هذا التدفق البشرى الذى يمثل صورة من فيضان نيل مصر خصوبة وعطاء وبذلا وتضحية.
ويقول إمام: بعد حرب أكتوبر تغيرت مفاهيم الجميع، وترابطت أفكارهم، وتماسكت حيواتهم؛ لأن مصر أصبحت هى الأم والأب ومصدر الفخر والعزة، لقد أصبحنا روحا واحدة فى أجساد كل المصريين.
وقد وجب علينا عندما تأتى ذكرى هذا الحدث الكبير فى حياتنا، أن نتذكر معها عطاءات المصريين بشهدائهم ومشروعاتهم وقياداتهم العسكرية.
ويستخلص الدكتور محمد إمام فى ذكرى هذا اليوم العظيم، دروسا مهمة، أولها: الإيمان بالله فلا عمل ينجح إلا به، الدرس الثاني: أهمية الوطن الذى لا بديل للإنسان عنه وهو ليس مجرد جغرافيا وتاريخ ولكنه ولاء وانتماء. الدرس الثالث: التماسك هو طريق الانتصار، تماسك بالمعنى المادى ويظهر فى تلاحم المجتمع كله فى المشاعر التى تتدفق فى قلب القائد نحو جنوده، وفى إحساس كل واحد من هؤلاء أنه من أجل الوطن يريد أن يكون أول الشهداء.. تسابق فى فعل الخيرات، مما يعطى أسبقية فى الانتصارات. الدرس الرابع: أن الهزائم فى مسيرة الأمم هى جمل اعتراضية أهميتها فى مراجعة الذات، ومحاسبة النفس، ومعرفة العلل والأسباب حتى تستعيد الأمة عافيتها العسكرية والاقتصادية والروحية، وتعود إلى سيرتها الأولى باعتبارها أمة مقاومة. وآخر الدروس أن الذكريات تعيد للإنسان جزءا من طاقته، وقد تكون ناقوسا يعلمه بأن اليقظة ضرورة، ولكن القيمة الحقيقية للذكريات تتمثل فى استعادة الثقة والطاقة والاستفادة بخبرات دافعة تضيء الحاضر وتنظر للمستقبل، فحياة الأمم ليست أغنية تؤثر فى النفس ولكنها تجارب تعاش، وخطوات تمارس، وتاريخ يكتب.
رابط دائم: