بعد انقضاء الدورة الثالثة لمهرجان الجونة السينمائى والذى عقد فى الفترة من «19 سبتمبر وحتى 28 من الشهر نفسه» علينا أن نتوقف عند جملة «تذهب الأجواء المهرجانية وتبقى الأفلام»، وهى الجملة التى تحمل الكثير من الحقيقة، وتحتاج إلى التأمل خصوصا لمن لا يرون فى المهرجانات السينمائية سوى السجادة الحمراء وإطلالات الفنانات والحفلات التى تقام على هامش فاعليات وأنشطة المهرجانات السينمائية، زاوية الرؤية تلك تحمل ظلما للكثير من الأنشطة المهمة المتعلقة بالندوات والورش السينمائية، والمنصات التى تقدم دعما لمشروعات السينمائيين العرب والذين يبحثون عن منفذ لتحقيق أحلامهم، والأهم الكثير من الإنتاجات السينمائية القصيرة والوثائقية والروائية وهى الإنتاجات التى تحمل عوالم مختلفة من الرؤى لمشاكلات حياتية واجتماعية، وتعكس أيضا الكثير من الثقافات المتباينة، ولكن فى النهاية كل يبحث عن الرواية التى تهمه وتعنيه، وهذا ليس عيبا فمن يبحث عن الأفلام سيجدها ومن يبحث عن الحوارات والمقابلات السينمائية مع النجوم سيجريها، ومن لا تشغله سوى الإطلالات سيجد أيضا الكثير من الحكاوى المصاحبة لها.
لذلك سيكون السؤال المهم الذى علينا طرحه ماهى الظواهر السينمائية التى تستحق التوقف عند القراءة والبحث فى أوراق الدورة الثالثة لمهرجان الجونة السينمائى، أهمها تميز الكثير من الأعمال السينمائية المشاركة، عرض معظم الأفلام المهمة التى شاركت فى كبريات المهرجانات مثل «كان وبرلين وفينسيا وتورنتو» ومنها الفيلم الفرنسى «البؤساء» Les Misérables، الذى عُرض فى قسم الاختيار الرسمى خارج المسابقة، ولم يفت مخرجه التنويه، على لسان أبطاله، إلى «بؤساء» فيكتور هوجو، لكنه قدم معالجة مختلفة، وناضجة، للرواية، وهناك أفلام تحمل توقيع كبار المخرجين مثل الإسبانى ألمو دوفار «فيلمه ألم ومجد» وهو الأمر الذى يراهن عليه دائما مهرجان الجونة السينمائى منذ انطلاق دورته الأولى.
ولكن اللافت حقا هو التجارب الأولى للمخرجين حيث ضمت المسابقة الرسمية ما يقرب من تسعة أعمال تعد تجارب أولى لمخرجيها وأيضا المستوى المتميز الذى ظهرت عليه السينما العربية فى أفلام مثل المغربى «آدم»، والتونسى «حلم نورا»، واللبنانى القصير «أمى»، والأردنى «سلام» فى مقابل انحسار السينما المصرية.
صحوة سودانية.. يا حبيبى عود لى تانى
تستحق هذه الدورة من الجونة السينمائى أن نطلق عليها دورة بملامح سودانية، ليس بسبب أن ذهبية الجونة فى الروائى والتسجيلى قد ذهبت إلى فيلمين سودانيين وهو الروائى الطويل «ستموت فى العشرين» التجربة الروائية الأولى للمخرج أمجد أبو العلاء والذى سبق واقتنص أسد المستقبل الذهبى بمهرجان فينسيا السينمائى فى دورته الـ 67، وفيلم « حديث عن الأشجار» الوثائقى للمخرج صهيب قسم البارى والذى سبق أيضا وحصل على أفضل فيلم وثائقى بقسم البانوراما فى مهرجان برلين السينمائى الدولى فى دورته الماضية، ولكن لأن الروح التى عكستها تلك الأفلام هى روح شابة حاولت صناعة المستحيل فى ظل الظرف السياسى المرتبك الذى تعيشه السودان، وأيضا لأن تلك التجارب الوليدة هى بمثابة عودة الروح للسينما السودانية، خصوصا وأن تلك التجارب تجعلنا نعيد التساؤل عن السينما السودانية والتى كانت غائبة عن المشهد منذ عقود، ليس ذلك فقط بل إن تلك الانتاجات المتميزة ستجعلنا نبحث عن السينما السودانية وتاريخها، حيث عرفت السودان السينما قديما عندما أقيم أول عرض للسينما فى السودان بحسب الكثير من الدراسات فى عام 1910، أى ما يزيد على قرن من الزمان، وعندما استقل السودان عام 1956م كان عدد دور العرض 30 دارا، وفى مطلع سبعينيات القرن الماضي؛ وصل عدد دور العرض إلى 55 دارا.
ومنها سينما «كليزيوم» التى افتتحت فى عام 1937م وتقع فى وسط العاصمة الخرطوم، تقف شاهدة على هذا الإرث الفنى العظيم، ولعلها سميت على جدتها العتيقة فى روما، وكذلك ينتشر عدد من دور السينما بأحياء العاصمة مثل سينما كوبر وبانت والوطنية، وعددا من مدن الولايات؛ مثل سينما «كادقلى والأبيض وعطبرة ومدنى»، لكنها لا تغدو الآن سوى مبان أثرية.
إلا أن السينما فى السودان قد شهدت انحسارا وركودا كبيرا فى نهاية تسعينيات القرن الماضى وبداية الألفية الجديدة، وذلك بعد ثورة الإنقاذ الوطنى، قفلت فيه دور السينما أبوابها وأصبح الحراك السينمائى ضعيفا إلى أن وصل عدد دور العرض بالسودان إلى سبعة فقط، مقابل 40 مليون نسمة فى عام 2009، وأصبحت دور العرض المتبقية تبث أفلاماً هندية فقط.
ولكن ما يعيشه الحراك السنيمائى فى السودان فى السنوات الخمسة الأخيرة بحماس وطاقة الشباب، يدعو للاحتفاء، ويحق لصهيب قسم البارى وأمجد أبو العلاء الفخر بما أنجزاه هذا العام للسينما السودانية على مستوى العالم من تواجد وحضور وحصد للجوائز.
وعن وضع السينما السودانية يعلق المخرج أمجد أبو العلاء موضحا «مؤخرا الحياة السياسة أصبحت أكثر انفتاحا بوجود نظام جديد نأمل أن يتطلع للأحسن، وسأطالب مع شباب السينمائيين فى السودان بتقديم تمويل ثابت سنوى يمنح لأفلام تقدم سيناريوهاتها، وأن يؤسس معهد سينما يخرج أجيال ومواهب موجودة،وفتح باب الحرية للفن بعيدا عن أى وصاية، ولابد من فتح الباب لحرية التعبير وأن تترك الرقابة الذاتية لصانع الفيلم، خصوصا وأن إهمال الفن يؤدى لنتائج سيئة على المدى البعيد.
أما عن تجربة فيلمه «ستموت فى العشرين» والذى حصد جائزة الجونة الذهبية قال المخرج السودانى أمجد أبو العلاء، إن فكرة فيلم «ستموت فى العشرين» فى مخيلته منذ عام 2001، وقت إخراجه لأول فيلم له وكان عمره 19 عاما، حتى وقعت فى يده قصة الكاتب السودانى حمور زيادة «الموت عند قدمى الجبل» وتأثر بها بشكل كبير خصوصا، وأنه كان يمر بفترة عصيبة فى حياته وهى فترة وفاة جدته وأقرب أصدقائـه، مما جعله يدخل فى نوبة اكتئاب منعته من الكلام لمدة ثلاثة أشهر، وهذا ما جعله يناقش فكرة الموت عند السودانيين فى فيلم روائى طويل، أحداثه مستوحاة من رواية للكاتب السودانى المتميز حمور زيادة، و هو الفيلم الذى يقارب النبوءة، فى غموضه، وطزاجته، وأحداثه التى تحكى مأساة الطفل «مُزمل»، الذى يُولد فى قرية سودانية، بولاية الجزيرة، التى يسيطر عليها التيار الصوفى، الذى يفتى أحد رموزه، بأن الطفل سيموت عندما يبلغ سن العشرين، وهى النبوءة التى تُكدر صفو العائلة، فيهجر الأب القرية للعمل فى أديس أبابا ثم ليبيا والسنغال، ولا يعود، وتعيش الأم سكينة تنعى حالها، وحظها، بينما يعيش «مُزمل»، الغربة داخل نفسه، وهواجسه، وسخرية أقرانه، منتظراً الموت، الكل يصدق فى تلك اللعنة التى تقلب. حياة الأسرة، المكوّنة من الوالدين والمولود الجديد فقط، رأسًا على عقب. حيث ينهار كلّ شىء.
الأم سكينة تجسدها «إسلام مبارك» هى شخصية قوية، على نقيض الأب الذى يشعر بعدم القدرة على مواجهة تلك اللعنة فيُغادر سريعًا ويختفى، بحجّة العمل قبل عودته مساء اليوم المقدر أن يموت فيه المزمل طبقا لنبوءة الشيخ الصوفى، تلك الحالة الخاصة جدا والتى تحفل بالغيبيات وتعكس قدرة وسيطرة مشايخ السلف أو الصوفيين فى السودان نقلها المخرج بحرفية عالية ومن خلال صور سينمائية شديدة التميز بصريا، خصوصا وأنه هو ما أضفى بعدا شديد الجمالية، إضافة إلى توظيف مفردات تلك البيئة فى شريط الصوت واختيار السكون أو حفيف ثوب مزمل على الرمال فى كثير من المشاهد، وتحديدا مشاهد مزمل «معتصم راشد فى الصغر، ومصطفى شحادة فى المراهقة والشباب»، والذى يبدو لمن حوله أنه يعيش حياة طبيعية فى حين أن ملامحه وأداءه ونظرة عيونه لا يعكسان إلا روح تنتظر الموت فهو يواجِه تحدّيات كثيرة تحول دون عيشه حياةً عادية، رغم انصرافه إلى مسائل طبيعية ويومية. فأبناء جيله يسخرون منه، مُطلقين عليه لقب «ابن الموت»، وبعضهم يضعه فى صندوق ويُقفل عليه للتأكّد من مسألة الموت المرتبط به؛ والناس حوله قلقون فهو منذور للرحيل، والموت قاسٍ دائمًا،و مع ظهور «سليمان»، المصور السينمائى المخضرم، فى حياته، وقصة الحب التى يعيشها سليمان و«نعيمة»، يُقبل على الحياة قليلاً، لكنه لا يفارق سلبيته، وعدميته، وتشاؤمه، وخشيته من المصير الذى ينتظره، عالم مزمل المغلق والذى يحتفى بعوالم الغيبيات ويسير بكل تفاصيله نحو الموت، فى مقابل عالم سليمان المليء بالحياة والتحرر وكسر كل ما هو مألوف، عالم من السكون القاتل للروح والحياة الصاخبة التى تضج بالمتناقضات.. وهو ما أجاد أمجد أبو العلاء رسمه فمن أجمل مشاهد الفيلم بصريا والتى عكست الكثير من الشاعرية فى تنفيذها سواء مشاهد خارجية اعتمد مدير التصوير فيها على الإضاءة الطبيعية، و ومشاهد داخلية شهدت توظيفا للظل والنور بدقة وتناغم وهو ما منح الفيلم وحدة بصرية لافتة «سكينة وهى ترتدى السواد ومن حولها المتصوفة بالأبيض والطرابيش الحمراء، مشهد مزمل وهو فى داخل الممر بإضاءة خافتة _ تذكرنا بمشهد أحمد مرعى فى المومياء، غرفة ذات مدخل ضيّق وطويل، ولون شمعة ينعكس على جدران معتمة، وأرقام محفورة على تلك الجدران بقلم الفحم، ومتاهات تذهب بعيدًا فى إضفاء مزيدٍ من الألم المتوقع لفراق الابن وهى الأرقام التى قامت سكينة بحفرها حيث تحصى الأيام والسنون فى انتظار اليوم الموعود مشهد وفاة سليمان السينمائى والمثقف على كرسيه».
فيلم «ستموت فى العشرين» لأمجد أبو العلاء والذى قام ببطولته ممثلين سودانيين غير محترفين قامت بتدريبهم النجمة المصرية سلوى محمد على سيظل واحدا من أجمل الأفلام العربية عن ثنائية الحياة والموت، ولا تزال هناك الكثير من الأفلام التى تستحق التوقف عندها.
رابط دائم: