شهدت موقعة كبريت العديد من البطولات التى قدمها أبطال فوق العادة.. لم تكن لحظات الصمود التى امتدت الى ما بعد وقف إطلاق النار واستمرت حتى شهر فبراير من عام 1974 إلا صفحة من أروع صفحات التاريخ العسكرى المصرى.
..........................
كان الأبطال فى موقعة كبريت يصارعون كل شىء بداية من عدم وجود إمدادات للصمود تحت الحصار.. مرورا بمشكلة المياه وعدم توافرها وصولا لندرة كل شىء يساعد على الاستمرار فى الصمود.. حصار.. قاس.. بكل ما تعنيه كلمة قسوة من معان وكان الصمود فى حد ذاته ملحمة كتب سطورها أبطال موقعة كبريت حتى أشاد بهم العدو احتراما وتقديرا لصمود هؤلاء الأبطال فى ظل الظروف التى تم الحصار خلالها.
البطل هذه المرة هو الملازم أول احتياط محمد نور الدين أحد أبطال موقعة كبريت التى صمد رجالها حتى النهاية والحاصل على نوط الشجاعة من الطبقة الأولى فى حرب أكتوبر المجيدة من الرئيس السادات ودرع التفوق العسكرى من الرئيس عبدالفتاح السيسى وهوالخبير الدولى بالأمم المتحدة.
يقول.. كنت فى موقعة كبريت قائدا لسرية مدافع مضادة للدبابات وموقعى فى الكتيبة 603 التابعة للواء 130 مشاة أسطول وكانت له مهمة محددة تتمثل فى صد احتياطيات العدو. وقد صدر لنا الامر بالدخول الى كبريت يوم الثامن من اكتوبر1973.
واشتد القتال على امتداد ساعات النهار من الصباح الباكر وحتى المساء وكنا نقوم بالتصدى للهجمات وحدث الحصار وكان بجوارنا الفرقة السابعة بقيادة العميد احمد بدوى وتم الاتصال به وعرف اننا موجودون وكانت مشكلتنا تتمثل فى كيفية توفير جهاز لاسلكى وقتها، فى هذه الأثناء كانت تدور محادثات الكيلو 101 وكان اللواء الجمسى يردد كلمة لن أنساها، كان يقول «أنتم تعطوننا القوة».
وكنا نرفض الاستسلام ونتمسك بالموقع.. ثم يرجع لليهود لاستكمال المفاوضات.. ثم يعود الينا مرة أخرى ونرفض التنازل عن حبة رمال واحدة من الموقع.
وكيف تم التغلب على صعوبات الحصار فى ظل وجود إمكانات ضعيفة للبقاء على قيد الحياة؟
فى ظل الحصار وصلنا الى أنه لم يكن لدينا الامداد الكافى للبقاء على قيد الحياة الإنسان يمكن أن يعيش تحت أى ظروف لفترة معينة لكن الصمود تحت الحصار لفترة طويلة.. كان بالنسبة لنا الخيار الوحيد الذى لا بديل عنه حتى نستكمل استرداد ارض الوطن بعد ملحمة العبور التى تمت يوم السادس من اكتوبر عام 73.
و أكثر المصاعب لم تكن فى الطعام بل كانت فى توفير الماء الذى لا غنى عنه للإنسان واذكر فى ذلك موقفا فى أثناء مرورى على الكتيبة حيث سألنى صديقى كيف وأنت مهندس كيمياء وعلوم لم تتوصل إلى فكرة نوفر بها الماء خاصة وأن مياه القناة أمامنا ونحن نفتقد للمياه بسبب ملوحته؟
وكانت هذه العبارة سببا مباشرا للتفكير العلمى فى كيفية الاستفادة من مياه القناة وعمل تقطير لها وفقا للإمكانات المتاحة لدينا.
الفكرة كفيلة بإشعال الحماس فى نفوس جميع أفراد الكتيبة وجمعنا كل الأدوات المتاحة لعمل التقطير وتم إشعال النيران ووضعت المياه حتى تتم عملية التسخين ثم التبخير ثم تكثيف البخار.. وفى هذه الأثناء كان يقوم بالمرور على أفراد الوحدة الشهيد ابراهيم عبدالتواب وسألنى بتعمل ايه يا نور.؟. قلت أحاول تقطير المياه.. قال لى ربنا معاك.
وبعد الانتهاء من العملية فتح أحد الجنود المياه ليشرب واذا بخيبة الأمل تتجسد أمامنا..وجدنا طعم الملح لا يزال موجودا.. بالماء.. والسبب ببساطة ان كميه المياه كانت زائدة عن الحد المطلوب مما تسبب فى بقاء ذرات الملح.. وتمت إعادة التجربة مرة أخرى مع خفض حجم الماء ونجحت التجربة وكانت فرحة لا توصف للجميع.
لن انسى مقولة الشهيد ابراهيم عبدالتواب بعد نجاح تجربة تقطير المياه حيث قال بالحرف الواحد عبارة محفورة فى وجدانى لليوم.. « مش ح ياخدوا حبة رمل من أرضك يا سينا».
ويضيف الدكتور محمد نور الدين صاحب فكرة تقطير المياه ان الفكرة اتخذت بعدا آخر حيث لم تتوقف عند هذا الحد بل حاولنا نستفيد منها على نطاق اوسع وبدلا من استخدام اناء صغير الحجم استخدمنا «تنك دبابة» لتقطير كميه أكبر من الماء فى وقت قصير.
وبدأ قائد الفرقة الشهيد ابراهيم عبدالتواب فى تنظيم وتوزيع استخدام المياه تحت اشرافه خوفا من ضربها وكان نصيب الفرد زمزمية كل يوم للشرب، كما كانت له زمزمية أسبوعيا للاستحمام.
أذكر أنه فى شهر ديسمبر 1973 هطلت الأمطار، فكنا نجمع مياه الأمطار فى مشمع بلاستيك حتى نشربها.
ماهو المشهد الذى لا يزال محفورا فى الذاكرة حتى اليوم من حصار كبريت؟
لا انسى مشهد نقل الجرحى والمصابين..كنا نتسابق على الفوز بدورية نقل الجرحى وكنا نسير وسط جنود العدو ونرجع مرة اخرى لموقع الحصار وكنا على يقين اننا يمكن ان نذهب بلا عودة.
كما اتذكر انه منذ استشهاد المقدم ابراهيم عبدالتواب فى 14 يناير 1974 لم تطلق على الموقع رصاصة واحدة وهو ما يؤكد اننا اجبرنا العدو على احترام شجاعة وبسالة الجندى المصرى.
كيف كانت رحلة العودة من الحصار؟
كانت فى يوم 18 فبراير 1974 ذهبنا الى السويس اولا.. ثم الاسكندرية ولن انسى مشهد الجنود اليهود حينما وقفوا احتراما لبطولة الصمود تحت الحصار واطلقوا طلقات تحية و سلام سلاح وادوا لنا التحية العسكرية تقديرا لابطال موقعة كبريت الذين صمدوا تحت الحصار134 يوما دون ان تلين قواهم.
رابط دائم: