تظل «شبه جزيرة القرم» إحدى أهم العقبات التى تحول دون تسوية العلاقات بين روسيا وأوكرانيا، فى توقيت يحتدم فيه الجدل حول مدى أحقية أوكرانيا فى المطالبة باستعادة شبه الجزيرة التى طالما ولا تزال روسيا تعدها أرضا روسية. وها هى هذه القضية تعود لتقفز إلى صدارة اهتمامات الرئيس الأوكرانى فلاديمير زيلينسكى الذى أعلن القرم إحدى أهم قضيتين مع الدونباس فى جنوب شرق أوكرانيا، خلال مباحثاته الأخيرة مع الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، مؤكدا أنه لا بد من تسويتهما مع روسيا لكونهما سبيلا إلى تطبيع العلاقات بين البلدين وعودتهما إلى سابق عهدهما من حسن الجوار. فما هى أبعاد هذه القضية وما هو تاريخ المشكلة؟
اندلعت الأزمة الأوكرانية فى فبراير 2014 وتجاوزت أصداؤها حدود الجمهورية لتصل إلى الكرملين فى موسكو تحذيرا من احتمالات التوسع إلى ما هو أبعد . وجاء تعالى لهيب المشكلة ليوقظ روح التحدى لدى قيادات الكرملين لمواجهة مخططات الناتو والاتحاد الأوروبى وفضح حقيقة أن قائمة أحلامهما المؤجلة لا تقتصر على جورجيا وأوكرانيا، وإنما تستهدف أيضا تقويض أمن واستقرار روسيا والصين، على غرار ما حدث مع الاتحاد السوفييتى السابق.
ذلك ما أوجزه الرئيس فلاديمير بوتين تفسيراً لقراره حول ضرورة استباق الناتو واستعادة كامل السيطرة الروسية على شبه جزيرة القرم وميناء سيفاستوبول القاعدة الرئيسية التاريخية لأسطول البحر الأسود، وإن فعل ذلك دون إعلان أنه اتخذ قراره من منظور أن شبه جزيرة القرم كانت جزءا من الأراضى الروسية منذ نجاح قوات الإمبراطورية الروسية فى ضمها بعد عدد من الحروب الضروس مع الإمبراطورية العثمانية منذ القرن الخامس عشر، وحتى انتصار القوات الروسية واستيلائها على شبه الجزيرة فيما سميت بحرب القرم 1768-1774، وما أعقبها من جهود الإمبراطورة كاتيرينا الثانية التى أعلنت ضم القرم نهائيا إلى روسيا مع نهاية القرن الثامن عشر. وكانت شبه جزيرة القرم عادت لتسقط فى شرك النزاعات والحروب ومنها ما جرى مع نهاية سنوات الحرب العالمية الأولي، وحتى بسط البلاشفة عليها سلطتهم مع حلول عام 1921. وفى 18 أكتوبر 1921 جرى إعلان تأسيس «جمهورية القرم الاشتراكية السوفيتية ذات الحكم الذاتي» فى إطار حدود شبه الجزيرة التابعة لجمهورية روسيا الاتحادية بأغلبية سكانية روسية، تليها من حيث التعداد، القومية التتارية ثم الأوكرانية ثم التركية واليونانية والبلغارية والألمانية والأرمينية. وكانت أحداث الحرب العالمية الثانية قد أسهمت إلى حد كبير فى إعادة رسم الخريطة الديموغرافية لشبه جزيرة القرم لاسيما بعد قرار الزعيم السوفييتى ستالين حول ترحيل تتار القرم إلى خارج شبه الجزيرة ونفيهم إلى قزخستان مع كل ممثلى القومية الألمانية بسبب اتهامهم بالتعاون مع النازية الهتلرية. وتقول الأرقام ان مثل هذه الإجراءات أسهمت فى تقليص تعداد أبناء شبه الجزيرة من 379 نسمة فى عام 1939 قبيل اندلاع الحرب، إلى 126.426 ألفا فى عام 1944. كما اتخذ مجلس السوفييت الأعلى لروسيا الاتحادية (البرلمان) قراره بإعادة تشكيل «جمهورية القرم الاشتراكية السوفيتية ذات الحكم الذاتي» وتحويلها إلى «مقاطعة القرم» ضمن مقاطعات وأقاليم جمهورية روسيا الاتحادية. وعادت القرم لتستعيد الكثير من مواقعها الاقتصادية والثقافية ضمن إطار روسيا الاتحادية بما فى ذلك ربطها بشبكة الطرق والمواصلات بما فى ذلك السكك الحديدية التى تربطها بالعاصمة موسكو.
ولم يمض من الزمن الكثير حتى فاجأ الزعيم السوفييتى نيكيتا خروشوف رفاقه فى المكتب السياسى للحزب الشيوعى السوفييتى (الأوكرانى الأصل) بفكرة تحويل التبعية الإدارية للقرم من روسيا الاتحادية إلى أوكرانيا، وإحالة الأمر إلى السوفييت الأعلى لروسيا الاتحادية للتصديق عليه.
وفيما قالوا إن القرار الذى اتخذه الأمين الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعى السوفييتى خروشوف إنه كان هديته إلى الشعب الأوكرانى بمناسبة الذكرى الثلاثمائة لانضمام أوكرانيا طواعية إلى الإمبراطورية الروسية، أشارت هيئة رئاسة السوفييت الأعلى فى مبررات مرسومها بتحويل تبعية القرم من روسيا الاتحادية إلى أوكرانيا إلى أن القرار اقتضته «ضرورات الوحدة الاقتصادية والقرب الجغرافى والعلاقات المعيشية والثقافية الوثيقة بين الإقليم وجمهورية أوكرانيا السوفيتية الاشتراكية».
وعن مناسبة الذكرى الثلاثمائة لانضمام أوكرانيا إلى الإمبراطورية القيصرية، تقول الأدبيات الروسية والأوكرانية ان بوجدان خميلنيتسكى البطل الأوكرانى القومى وقائد ما كان يسمى بقوات قوزاق زابوروجيه وبعد إحرازه النصر على القوات البولندية تقدم إلى القيصر الروسى ألكسى رومانوف بخطاب يطلب فيه «انضواء قواته تحت راية القيصرية الروسية والدخول فى جنسيتها»، وكان قد تقدم بمثل هذا الطلب عدة مرات قبل ذلك بدءا من عام 1591. وبعيدا عن التفاصيل التى نسجت مفردات تلك الملحمة التاريخية على مدى سنوات عديدة قبل وبعد الثامن من يناير 1654، نشير إلى أن طلب الدخول فى الجنسية الروسية والانضواء تحت راية الإمبراطورية كان يعنى أداء قيادات ومواطنى المناطق التابعة له قسم الولاء للقيصر وإعلان تبعية الأراضى التى يقطنونها إلى الإمبراطورية، ولم تكن أكثر من عدة أقاليم غربى أوكرانيا الحالية مع كييف القديمة عاصمة «روسيا الكييفية» أو الدولة الروسية القديمة «دريفنايا روس» والتى كانت تحكمها أسرة ريوريكوفيتش، وتجمع تحت رايتها الشعوب السلافية الشرقية وشعوب فنلندا والأوجور من منطقة الاورال التى انحدر منها الشعب المجري. لكن تضاريس التاريخ وجغرافيا تحركات وانتقالات القبائل والشعوب التى استمر تحاربها على مر عقود طويلة، تحول فى تقرير أو مقال، دون اجتزائها أو احتسابها القول الفصل فى تاريخ الإمبراطورية الروسية والمناطق المجاورة لها.
ولذا فاننا وبعد هذه العجالة التنويرية لتاريخ مناسبة الذكرى الثلاثمائة لانضمام أوكرانيا إلى الإمبراطورية الروسية، نكتفى بهذا القدر، لنعود إلى العصر الحديث وتاريخ تحويل تبعية القرم إلى أوكرانيا، لنقول ان مجلس هيئة رئاسة السوفييت الأعلى لروسيا الاتحادية وافق على هذا القرار بالإجماع فى 19 فبراير 1954، وهو ما أقره وصدق عليه المجلس فى 26 ابريل من نفس العام. لكن المصادر الروسية تقول اليوم بعدم مشروعية القرار، بسبب تجاوزات دستورية كثيرة، ( نظراً لأنه جرى التصديق عليه دون استيفائه النصاب القانونى لدى التصويت عليه، بسبب غياب ما يزيد على عدد أعضاء هيئة رئاسة المجلس، وهو ما يعنى قانونيا وعمليا بطلان القرار، فضلا عما قيل حول عدم مشروعية طرحه من الأساس على التصويت بسبب عدم مناقشته على مستوى السوفييت الأعلى للجمهورية، فضلا عن تجاوزه لما تنص عليه المادة 49 من دستور الاتحاد السوفييتي، والذى يقول أيضا فى مادتيه رقم 14 و31 إن تغيير حدود الجمهوريات من صميم صلاحيات السوفييت الأعلى للاتحاد السوفييتي، وليس السوفييت الأعلى للجمهوريات الاتحادية، إلى جانب مواد دستورية أخرى تنظم هذه العملية. اما فى أوكرانيا فهناك من يقول بأن مثل تلك الأساليب «غير الدستورية» كانت آنذاك نمط حياة. وقد أجرى السوفييت الأعلى لروسيا الاتحادية بموجبها فى عام 1940 نقل تبعية جمهورية كاريليا السوفيتية الاشتراكية ذات الحكم الذاتى من روسيا الاتحادية الى جمهورية كاريليا - فنلندا السوفيتية الاشتراكية. ولتفسير هذه النقطة نشير الى أن هذه الأراضى كانت تعود إلى روسيا بموجب معاهدة تخليها عن فنلندا التى كانت تابعة للإمبراطورية الروسية، بعد ثورة 1917).
لكن ماذا عن واقع ومفردات تلك الحقبة الزمنية التاريخية؟
كانت الخريطة الديموغرافية لشبه جزيرة القرم لدى إعلان تحويل تبعية القرم إلى أوكرانيا فى 1954 تقول بأغلبية سكانية روسية هائلة تبلغ ما يقرب من مليون وربع مليون روسى أى ما يزيد على 70% من سكان شبه الجزيرة ، مقابل 22% لممثلى القومية الأوكرانية، قبل إصدار مرسوم إعادة الاعتبار لتتار القرم والسماح للكثيرين منهم بالعودة إلى مواطنهم الأصلية فى شبه الجزيرة ولم يكونوا يشكلون أكثر من نسبة تقترب من 2% من إجمالى عدد السكان. ورغم ذلك فان هناك فى أوكرانيا ومنهم ليونيد كرافتشوك الرئيس الأوكرانى الأسبق الذى تزعم مسيرة الانفصال عن الاتحاد السوفييتي، (وتولى أعباء مرحلة فك الارتباط مع التراث السوفييتى وروسيا الاتحادية فى عقب انهيار الاتحاد السوفييتى فى نهاية عام 1991، يقولون ان السبب الرئيسى لنقل تبعية القرم الى أوكرانيا كان اقتصاديا بالدرجة الأولي). وعزا ذلك إلى تدهور الاقتصاد والأوضاع المعيشية لسكان القرم. وأستند فى حديثه إلى مذكرة ألكسى كيريتشينكو سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعى الأوكرانى آنذاك المؤرخة فى 4 يناير 1954 حول حالة الزراعة فى «مقاطعة القرم»، والتى حرص فيها على الاستشهاد بالأرقام والإحصائيات على تأكيد أن أوضاعها تدهورت كثيرا عن المستوى الذى كانت عليه فى عام 1940. كما يستشهد الأوكرانيون أيضا بما قاله ألكسى أدجوبى الرئيس الأسبق لتحرير صحيفة «إزفيستيا» صهر الزعيم السوفييتى خروشوف، حول «إنهما قاما فى أكتوبر 1954 بزيارة شبه جزيرة القرم ليجداها لا تزال تعيش تبعات وآثار الحرب العالمية الثانية، حيث انتشر على جانبى الطريق حطام المدافع والدبابات، والأحجار التى حرص العسكريون على تجميعها فى «أكوام» متراصة فى ذكرى رفاقهم من شهداء الحرب، بينما بدت قراها وعزب التتار خاوية على عروشها مقفرة من سكانها»، الذين كان الزعيم السوفييتى ستالين أمر بترحيلهم إلى خارج شبه جزيرة القرم فى سهوب قزخستان.
لكن المصادر الروسية، ومنها صحف ومواقع إلكترونية مثل «لينتا.رو» عادت لتقول إن ذلك لا يمكن أن يكون القول الفصل، لأسباب عديدة ومنها ما أشارت إليه مذكرات أدجوبى صهر خروشوف التى نُشِرَت فى عام 1990 أى قبيل انهيار الاتحاد السوفييتى فى توقيت كانت «الحرب» فيها على أشُدٍها ضد التراث السوفييتي، بينما كانت القيادة «الديمقراطية الجديدة» بزعامة بوريس يلتسين تحاول خطب ود أوكرانيا للانضمام إلى حملتها الرامية إلى الإطاحة بميخائيل جورباتشوف والانفصال عن الاتحاد السوفييتي. وقالت بـ «عبثية» ما قاله السكرتير الأول للحزب الشيوعى الأوكرانى وما أورده من أرقام وتصريحات حول تدهور الاقتصاد والزراعة فى شبه جزيرة القرم، فيما اعدت ذلك أقرب إلى «الأكاذيب»، نظرا لأن القرم كانت لا تزال تابعة لروسيا الاتحادية، ومن ثم فانه من غير المنطقى أن يزورها مسئول حزبى لجمهورية مجاورة على مستوى كيريتشينكو، ليتفقد شئونها ويصل إلى مثل ما وصل من استنتاجات وأرقام. وأضاف هؤلاء ان الواقع يقول أيضا بأن خروشوف ودون استشارة أى من رفاقه فى النسق الأعلى للقيادة السوفيتية (وكانوا من أبرز رجالات الدولة السوفيتية ومنهم مولوتوف وميكويان وقائد القوات السوفيتية فى الحرب العالمية الثانية المارشال جوكوف وآخرون كثيرون،) تعجل اتخاذ ذلك القرار الذى لا يتسق فى أى من مفرداته مع المواد رقم 16، و19، و22، و23 من دستور روسيا الاتحادية الصادر فى عام 1937 ، ويتناقض مع المادة 18 فى دستور الاتحاد السوفييتي، فى محاولة من جانبه للحصول على دعم الرفاق فى قيادة أوكرانيا وهى ثانية أكبر جمهوريات الاتحاد السوفييتى فى حملته ضد ستالين، خلال مسيرته التى انفرد بعدها تقريبا بالسلطة فى قمة هرم القيادة السوفيتية. وكان الباحثون والخبراء الأوكرانيون قد اتفقوا مع كل هذه الأسانيد بشكل غير مباشر، حين اعترفوا بان ذلك كله تطلب فى يونيو 1954 إجراء عدد من التعديلات فى دستور روسيا الاتحادية. وفى هذا الصدد أشاروا إلى أن خروشوف كان يبتغى فى ذلك الحصول على دعم قيادات أوكرانيا ثانى أكبر الجمهوريات السوفييتية بعد روسيا الاتحادية، استعدادا لمعركته التى قادها بعد ذلك ضد ممارسات ستالين رغم انه كان إحدى آلياتها، وتمهيداً للإطاحة بكل هذه القيادات البارزة.
على أن الأمر لم يقتصر على ما ارتكبته القيادة السوفيتية من تجاوزات دستورية وتشريعية، والتى هبت شعوب شبه جزيرة القرم لمحاولة تصحيحها والرجوع عن فكرة ضمها إلى أوكرانيا. وكانت رفضت فى أكثر من مناسبة محاولة «أكرنتها» أى فرض كل ما هو أوكرانى عليها. كما أن أبناء القرم وفى مقدمتهم الغالبية الناطقة بالروسية كانوا رفضوا أكثر من مرة ذلك الواقع ، من خلال تكرار محاولات استعادة وضعيتهم الدستورية السابقة فى إطار «جمهورية القرم ذات الحكم الذاتي». وفى 12 فبراير 1991 وبموجب نتائج الاستفتاء الشعبى الذى أجرى آنذاك تحولت مقاطعة القرم»، إلى «جمهورية القرم الاشتراكية السوفيتية ذات الحكم الذاتي». وفى أول أكتوبر من نفس العام أصدرت هيئة رئاسة السوفييت الأعلى للقرم بيانا وصفت فيه عملية تحويل تبعية القرم إلى أوكرانيا فى عام 1954 بأنه إجراء جرى اتخاذه «بدون مراعاة لرأى الشعب». وإذ أشار البيان إلى انه وفى ظل الظروف الراهنة فان « القرم لا ترى مبرراً لطرح موضوع إعادة النظر بشأن ترسيم الحدود»، دعا إلى احترام حق أبناء القرم فى بناء شكل دولتهن على أساس استفتاء، إذا ما تطلب تغيير الأوضاع السياسية ذلك». وفى 22 نوفمبر 1991 تقدم برلمان القرم إلى ميخائيل جورباتشوف رئيس الاتحاد السوفييتى آنذاك بطلب إلغاء مرسوم هيئة رئاسة السوفييت الأعلى للاتحاد السوفييتى الصادر فى عام 1954 حول نقل تبعية القرم إلى أوكرانيا، إلا أن أحدا لم ينظر آنذاك فى هذا الطلب أو يأخذ به.
ومع ذلك فقد أقر السوفييت الأعلى لروسيا الاتحادية فى 21 مايو عام 1992 أى بعد انهيار الاتحاد السوفييتى وإعلان رسمياً زواله فى ديسمبر عام 1991، مرسوما ينص على وصف «مرسوم هيئة رئاسة السوفييت الأعلى لروسيا الاتحادية فى الخامس من فبراير 1954 حول نقل تبعية القرم إلى أوكرانيا، بأنه منعدم القوة القانونية من لحظة إقراره». كما أقر السوفييت الأعلى لروسيا الاتحادية سلسلة من القرارات التى كانت تلزم الحكومة الروسية بضرورة اتخاذ ما يلزم من إجراءات لإلغاء التبعات القانونية لكل المراسيم السابقة التى تنص على نقل تبعية شبه الجزيرة، والعمل من أجل عودتها إلى أحضان الوطن بما فى ذلك إدخال التعديلات الدستورية اللازمة لإعادة إدراج «جمهورية القرم ذات الحكم الذاتي» ضمن جمهوريات الاتحاد الروسى نزولا على إرادة مواطنى شبه الجزيرة. غير أن الرئيس الأسبق بوريس يلتسين كان قد قطع شوطا طويلا على طريق التنازلات والتفريط فى حقوق روسيا التاريخية ومكانتها على خريطة السياسة الإقليمية والدولية، ولم يكن فى مقدوره مواجهة تمسك وإصرار أوكرانيا على عدم التفريط فى شبه الجزيرة. بل مضى إلى ما هو أبعد بتوقيعه معاهدة الصداقة والتعاون معها فى 31 مايو عام 1997 والتى تنص ضمنا على الاعتراف بما سبق التوقيع عليه من أسس ومبادئ للحفاظ على علاقات حسن الجوار مع بلدان الاتحاد السوفييتى السابق ومنها المعاهدة الثنائية التى وقعها مع أوكرانيا فى 19 نوفمبر 1990 وتنص على عدم وجود أى إدعاءات بين الطرفين تخص الأراضى أو الحدود، فى إطار محاولته استمالة أوكرانيا إلى جانبه فى صراعه على السلطة مع غريمه التاريخى ميخائيل جورباتشوف الذى كان فى صدارة أسباب انهيار الدولة السوفيتية. وقد ظلت الأوضاع عند هذا الحال حتى بعد تقلد الرئيس بوتين مقاليد السلطة فى الكرملين مع مطلع عام 2000 وما بعد ذلك بسنوات طوال، لم يستطع خلالها التوصل إلى ما من شأنه تغيير أى من جوانبها، بما فى ذلك المسائل المتعلقة بميناء سيفاستوبول القاعدة الرئيسية التاريخية لأسطول البحر الأسود.
وفى هذا الصدد نتوقف لنقول ان ميناء سيفاستوبول القاعدة الرئيسية لأسطول البحر الأسود والواقع فى شبه الجزيرة كان يتمتع بوضعية خاصة بدءا من أكتوبر 1948 بموجب قرار هيئة رئاسة السوفييت الأعلى لروسيا الاتحادية الذى أعلنه «وحدة إدارية خاصة» تابعة مباشرة إلى مركز الجمهورية، وليس إلى قيادة المقاطعة، أو الجمهورية ذات الحكم الذاتي. وبذا يكون الميناء الواقع فى شبه جزيرة القرم غير تابع إلى سلطات شبه الجزيرة. ولذا فقد سارعت أوكرانيا وبناء على طلب من قياداتها العسكرية إلى محاولة الاستيلاء على هذا الأسطول استنادا إلى أن جمهورية أوكرانيا المستقلة تملك كل الحق فى كل ما هو يقع أو موجود على أراضيها وفى مياهها الإقليمية، رغم وجود الاتفاق مع روسيا الاتحادية على اعتبار الميناء قاعدة لأسطولها فى البحر الأسود. وتوصل الجانبان إلى تسوية الأمر بموجب اتفاقية تنص على تأجير روسيا للميناء لمدة زمنية محددة وقيمة إيجاريه تبلغ مائة مليون دولار سنويا. (ويذكر ليونيد كرافتشوك الرئيس الأوكرانى الأسبق انه كان استجاب لطلب القيادات العسكرية الأوكرانية وأصدر أمره إلى إحدى القطع البحرية الأوكرانية بالتوجه إلى الميناء لبحث ما يتعلق بتسليمه مع كل السفن والقطع البحرية الموجودة هناك على أساس أن أوكرانيا تملك كل ما هو موجود على أراضيها وفى مياهها الإقليمية، وهو ما رد عليه الرئيس الروسى يلتسين بأوامر مضادة بإطلاق النار رداً على أى محاولة من هذا القبيل. وأعترف كرافتشوك بأنه أضطر إلى التراجع، وتسوية الأمر من خلال الموافقة على تأجير الميناء وهو ما واصله خلفه ليونيد كوتشما مع القيادات الروسية بتوقيع اتفاقية بين البلدين لمدة عشرين عاما حتى عام 2017، على ان يجرى مد فترة صلاحيتها كل خمس سنوات بموافقة الطرفين.) وكانت الاتفاقية تنص ضمنا على عدد القوات التقليدية وكانت فى حدود 30-40 ألفا من الجنود والضباط، بكل احتياجاتهم من أسلحة ومعدات عسكرية. وبالمناسبة فقد ساهمت هذه الاتفاقية فى توفير الغطاء العسكرى القانونى لحماية شبه الجزيرة والتصدى لمحاولة سفن الأسطول السادس الأمريكى التى كانت فى طريقها إلى احتلال ميناء سيفاستوبول قبيل إعلان برلمان شبه جزيرة القرم نتائج الاستفتاء الشعبى الذى أقر بغالبية تزيد على 95% من الأصوات استقلالها عن أوكرانيا ما كان لاحقا مقدمة للتقدم بطلب الانضمام إلى روسيا الاتحادية فى مارس 2014.
تلك فى عجالة هى المحاور الرئيسية للمشكلة القائمة، والتى كان يمكن ألا تندلع لو لم تندفع القيادة الأوكرانية السابقة صوب القطيعة والعداء مع روسيا، بإيعاز وتحريض من جانب الولايات المتحدة التى وقفت ولا تزال وراء «الثورة البرتقالية»، وأنفقت حسب اعتراف رئيسها السابق باراك أوباما خمسة مليارات دولار لتمويل «الحركة الديمقراطية الأوكرانية» والإطاحة بالرئيس السابق فيكتور يانوكوفيتش وإيصال الأمور هناك إلى ما صارت عليه فى مواجهة مباشرة مع رفاق الأمس.
رابط دائم: