حفل مهرجان الجونة السينمائى فى دورته الثالثة بالعديد من الإنتاجات العربية المتميزة، وهو ما انعكس بشكل واضح على الجوائز، حيث انتصرت لجنة التحكيم برئاسة المخرج المبدع خيرى بشارة للسينما العربية التى حصلت على نصيب الأسد من إجمالى جوائز الدورة الثالثة سواء فى مسابقة الأفلام الروائية أو الوثائقية. ومن الأفلام اللافتة للنظر والتى عرضت فى إطار المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة، الفيلم المغربى «آدم» للمخرجة مريم توزانى والحاصل على النجمة البرونزية.
«آدم» هو الفيلم الأول الذى تخرجه الممثلة المغربية مريم توزانى. وكتب له السيناريو وأنتجه زوجها المخرج المغربى المعروف نبيل عيوش، والذى يقدم سينما مختلفة تماما عن النوع الذى تبنى إنتاجه وهو المعروف بقدرته على إثارة الجدل منذ أن قدم تجربته الروائية الأولى «على زاوا» وصولا إلى «مكتوب والغازية» و«يا خيل الله» و«الزين اللى فيك» وهو ينتمى إلى مدرسة الصدمة والمواجهة ونقل الواقع دون مواربة، فى حين أن مشروع توزانى والذى تبناه عيوش إنتاجيا مغاير تماما، فالفيلم الذى من الممكن تصنيفه بأنه فيلم نسائى، يعالج قضية نسائية، وتدور أحداثه فى عوالم المرأة وهمومها، وأخرجته امرأة وشاركت أيضا فى الصياغة الدرامية، يبدو للمشاهدين فيلما شديد البساطة، حكاية أو لنكن أكثر دقة حكايتين من السهل أن تتم روايتهما سرديا بشكل تقليدى، إلا أنه لا يخلو من عمق إنساني، وأجمل ما فيه أنه يرصد شخصيتين نسائيتين رغم القهر والوجع إلا أنهما شديدتى القوة فى مواجهة العالم المخيف، وقيود العادات والتقاليد التى دائما تقهر المرأة.,كل ذلك بعيدا عن «الكليشهات» المعتادة فى الأفلام التى يروق للبعض تصنيفها بالأفلام النسوية، والتى عادة ما تلجأ إلى التنميط، بمعنى أن الرجال جميعهم وحوش، والنساء ضحايا. فيلم «آدم» تخلص بذكاء من تلك «الكليشهات» أو الصور النمطية المتعارف عليها، فالمرأة ليست بالضرورة ضحية رجل بل من الممكن أن يكون هناك ظرف أكبر منهما هما الاثنين، وهذا أحد أسرار تميز البناء الدرامى فى فيلم «آدم»
يدور الفيلم فى الحى القديم «يسمونه عادة المدينة القديمة» بمدينة الدار البيضاء. وهو الحى الذى يبدو شديد التقليدية والمحافظة، تدخله امرأة شابة فى مرحلة متقدمة من الحمل، «تجسدها نسرين آرادى» تطرق الأبواب باحثة عن فرصة عمل تعول بها نفسها وطفلها، تحاصرها نظرات الفضول من كل جانب وهو المشهد الذى صورته المخرجة بحرفية عالية كأن الكاميرا نفسها تتلصص على تلك المرأة الشابة التى تسير بصعوبة ويبدو عليها الإرهاق حاملة كيسا بلاستيكيا يبدو أنه يضم قطع ملابسها، ولا تتركها الكاميرا لحظة حتى وهى تحاول التقاط أنفاسها، وفى نهاية المطاف تجد المرأة الشابة نفسها فى مواجهة امرأة أخرى تطل من نافذة صغيرة من شباك منزلها استطاعت أن تحولها إلى منفذ لبيع الخبز وبعض المعجنات، وهى النافذة التى تطل منها على الحياة والشارع الذى عادة ما يضج بالزحام والبشر فقط تبيع وتراقب دون أن تتكلم ولا تتبادل سوى كلمات قليلة متعلقة بعملية البيع والشراء فقط، وترفضها تلك المرأة مثل البقية، ولكنها فى نفس الوقت لا تمنع نفسها عن مراقبتها من وراء نافذتها، خصوصا عندما تجد الليل قد حل ولم تجد تلك المرأة ملاذا سوى أحد الأبواب المغلقة تجلس أمامه.
«سامية» «نسرين إرادى» التى جاءت من الريف إلى المدينة وهى فى مرحلة متقدمة من الحمل نتيجة علاقة جنسية غير شرعية تبحث عن عمل يوفر لها نوعا من الحياة الكريمة ولو مؤقتا إلى حين تستطيع أن تضع مولودها،فى مواجهة «عبلة» «لبنى عزبال- بلجيكية من أب مغربى وأم إسبانية» الأرملة التى تقيم مع ابنتها «وردة» «8 سنوات» بعد وفاة زوجها، وهى التى تعول نفسها وابنتها من خلال بيع الشطائر وأرغفة الخبز التى تصنعها فى المنزل.
ورغم قسوة تعبيرات وانفعالات عبلة إلا أن هناك شيئا يدفعها للموافقة على أن تقيم سامية عندها مؤقتا، قد تكون محاولتها ورغبتها فى اللاوعى بأن تعود للحياة من جديد بعد أن فرضت على نفسها حالة من التقوقع داخل حزنها بعد وفاة زوجها، ترفض الزواج من جديد متجهمة طوال الوقت تعبيراتها حادة، لا تنطق سوى بكلمات قليلة حتى مع ابنتها، نسيت التزين وأن تتجمل حتى لنفسها، ورغم أن سامية تعانى الاكتئاب بسبب حملها غير الشرعى إلا أنها كانت بمثابة النافذة التى بمجرد أن فتحتها عبلة دخلت إليها الحياة من جديد وخطوة بخطوة بدأت كل منهما تحكى وتستعيد جزءا من روحها، وهى المشاهد المرسومة بدقة والمليئة بتعبيرات وجه عميقة حيث كانت كل المشاهد بين النجمتين بمثابة مباراة حقيقية فى التمثيل كل منهما تعبر عن قهرها وأزمتها، عبلة والتى تحمل الكثير من المشاعر المسكوت عنها والتى تعتمل بداخلها مثل النار ورغم ذلك تحاول أن تبدو هادئة وشديدة الصرامة، «كل تلك التعبيرات والانفعالات لم تكن لتصل للمتفرج لولا وجود ممثلة واعية ومخضرمة وشديدة الموهبة مثل لبنى عزبال، وأيضا نسرين التى رغم عجزها وخوفها إلا أنها تملك قوة وإصرار على تحمل نتيجة خطئها.
يكمن جمال الفيلم فى بساطته، فى سرده الواضح، فشخصيات الفيلم لا تزيد على خمس فقط. والسيناريو يرصد التغيرات التى تنشأ لدى الشخصيتين الرئيسيتين تدريجيا ومن خلال مواقف منسوجة جيدا وبوعى ورقة شديدتين، مع براعة التعبير الدرامى عنها بفضل أداء الممثلتين اللتين قامتا بالدورين.
ومن أجمل المشاهد الفيلم أدائيا وإخراجا «المشهد الذى كانت تدير فيه سامية شريطا لأغنية من أغانى وردة والتى كانت القاسم المشترك بين عبلة وزوجها الراحل. مما يستدعى حبها للحياة وذكرياتها الجميلة مع الرجل الذى غادر الحياة.. تحاول سامية جذب عبلة من ذراعها وإقناعها بمشاركتها الرقص على إيقاعات الأغنية. لكن عبلة تتشدد وتقاوم وترفض، ولكنها تدريجيا تتخلى عن تشددها وتلين ويبدأ جسدها فى الاستجابة لإيقاعات الأغنية».
والمشهد الآخر «محاولة سامية قتل رضيعها آدم، ورغم قسوة المشهد ولكنه يعد واحدا من أجمل مشاهد الفيلم والذى عكس تناقضات المشاعر التى تعيشها، وكيف تطورت علاقتها برضيعها بعد ذلك حتى لو كان طفلا غير شرعى والذى وهبته اسم آدم وما يحمله الاسم من دلالة فهو أصل الحياة حتى لو كان بلا أب ».
مريم توزانى مخرجة قدمت أعمالًا روائية قصيرة ووثائقية وهذا منحها مخزونا فنيا متميزًا لتكون تجربتها الروائية الطويلة الأولى فيلمًا متميزا مثل آدم، يحتفى بالصورة ويبعد عن الثرثرة الدرامية والصور النمطية لقضايا نسائية، .
فيلم آدم عرض فى قسم «نظرة ما» الموازى للمسابقة فى مهرجان كان، وبمهرجان تورنتو قبل عرضه فى الجونة، كما أنه سيمثل المغرب أيضا فى مسابقة أحسن فيلم أجنبى فى الأوسكار.
رابط دائم: