رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

صاحبة الفستان الارزق

محمد محمد مستجاب

«دقى يا مزيكا»، وبدأت الموسيقى تدق، الأجساد والأصوات تتلوى، وتراقصت الأفواه بالأسئلة:

• هل رأيت زينب وهى تلعب الكرة؟ نعم. رأيت زينب وهى تلعب الكرة، جميل، هل رأيت زينب وهى تسعل دما وإبراهيم يتباكى حولها؟ نعم رأْيت زينب، هل أنشدْت زينب، وهى تدارى الفرح بين خدودها المتألقة؟، نعم: أنشدت زينب، إذن لماذا تبحث عن زينب تحت ملابس الآخرين؟، لم يحدث أبدا، لأن زينب تبخرت فاستنشقتها الأنوف ودخلت إلى الدماء، ومتى كانت آخر مرة رأيت فيها زينب؟، لم يكن فى الأمر آخر مرة، ذلك لأن الجميع رأوا زينب، لم يروا زينب، رأوا رأسها الجميل يطل من نفس النافذة، فى كل وقت يمكن لكل عابر أن ينظر إلى أعلى فيرى رأس زينب، كانت تنظر فى هدوء مبتسم للناس والدواب والدواجن، ووجهها الأبيض يشع حلاوة تدفع العابرين إلى التعثر، فتبتسم وتزداد حلاوة.

ربّاها أبوها على الغالى والوثير قبل أن يعرف أقرانها وأقاربها الغالى والوثير، وزيّنتها أمها بالزهور ومناديل الرأس، قبل أن تخطو إلى مرحلة الزهور ومناديل الرأس، ورحلت أمها فازداد بها أبوها اعتناء.

«دقى يا مزيكا»، وظلت الموسيقى تنساب وتريق اللذة فى العروق وكانت زينب تتمخطر، صبّية، بين تصفيق جماعات الأهل والمحبين، حينئذ رحل أبوها، وجاء أناس يحمونها من ذئاب الشوارع وصقور السماوات، أخوال وأعمام وأصحاب شأن، زينب لا تخرج، فلم تعد تخرج، «دقى يا مزيكا»، وكانت الغازية البضة قد فقدت إلهام الرقص وتهاوت إلى حركات البذاءة، زينب لا تستقبل أحدا، فلم تعد تستقبل أحدًا، وتناولت الراقصة البضّة عصا لجولة أخرى لكن العصا سقطت بين فخذيها، فأصاب الجمهور هياج أبله، زينب يحميها أخوال وأعمام وذوو شأن، وجوه غاضبة جادة ترى فى جمالها الفوّاح بوادر رغبات محرمة، زينب لا تفتح الباب حتى للسقاء أو صاحب حاجة أو ساعى بريد، ومضى الزمن يوزع قسمته على المخلوقات، كل أترابها – الذكور والإناث تزوجوا وتزوجن، كل أترابها المعوقات الممصوصات المترهلات الصفراوات الخنفاوات العرجاوات تزوجن، وبعضهن اقترفن الزواج مرة واثنتين، بل وثلاثا، وامتلأ الشارع بعيال من مختلف الأعمار لمختلف الأزواج والزوجات.

«دقى يا مزيكا»، واندفعت راقصة أخرى تغطى على زميلتها الواقفة فى دوار الإعياء، ولا تزال زينب تنظر من نافذتها تتبين فى المحتفلين وجوها قديمة تعرفها، ووجوها جديدة تعرفها، وفرحًا عارمًا يفك الأحزمة والعمائم وفتحات الصدور، والكل يصادم الكل ويضاحك الكل ويعابث الكل، وزينب تمسح ميدان الاحتفال بعيونها، تأخذه من أوله عند باعة السمسمية والهريسة ونصبات الحشيش والمعسل، ومرورا بجوقات الذاكرين والهاتفين باسم الواحد الأحد، وانتهاء بحلبات الرقص والتراقص، ودفع المدافع كى تتلوى إلى أعلى وتضرب «البمبة» بعد عبورها المرهق إلى الأسفل، حتى تصل عيونها إلى آخر دائرة الاحتفال عند الحاوى الذى يخرج بين الفنية والفنية كتكوتا، ثم تسحب نظرها إلى مصراع نافذتها المفتوح، ثم إلى مصراع نافذتها المغلق، «دقى يا مزيكا»، واضطربت الموسيقى قليلا ثم عادت إلى ضجيجها والراقصة الجديدة قد توسطت الحشد فى قوة وفتوة وقدرة لم تنهك بعد.

قيل: إن زينب ظلت فى نافذتها هذه عشرين أو خمسين أو ألف سنة، تغسل نفسها صباح كل يوم، وتدعو بالفرج صباح كل يوم، وترتب ملبسها وشالها وحمرة خدودها صباح كل يوم، وتتابع حركة مثل هذا الاحتفال مرة كل عام، تستقبله بعيونها الواسعة وقلبها المتقافز النشيط، وتظل ترقبه حتى ينسل الناس قرب الصباح مرهقين، لم يرها أحد تمصمص شفتيها امتثالا، ولا تمسح عيونها أسيً، ولا تهز دماغها رفضا، كانت – فى أقصى حالاتها – يأخذها الحبور فيهتز جسدها بحركة سريعة واجفة لا تصل أبدا الى الرقص. إلا فى ليلتنا هذه، ظلت تتابع الراقصة الفتية الجديدة، تلك المتألقة بشرائح الملابس الملونة المضيئة، المتمايلة على الناس، المستلقية على ظهرها تكاد تقارب بالتواء الجسد مسطح الأرض، والتى – فى كل إيقاع – تخرج أوراكها ليزداد الابتهاج الصارخ، «دقى يا مزيكا»، وقبل أن تعاود الموسيقى جمع شمل أنغامها فى جولة جديدة، اندفعت زينب، اندفعت زينب إلى صوان ملابسها، وارتدت أجمل ما عندها: الفستان الأبيض الطويل، والطرحة البيضاء الطويلة، واندفعت إلى الدور الأرضى، ثم... إلى الباب...

وخلخلت زينب الصفوف المتماسكة المصفقة، ووصلت إلى الحلبة، إلى مركز الحلبة، اهتز جسدها، «دقى يا مزيكا»، واندفع الدم الحامى القديم فى عروقها، واشتعل القلب تفاعلا، وإذ بالحلقة تنتظم، وتخلو لها، وإذ بزينب تتمايل وتتراقص، ثم تميل وترقص، تحرك الساقين فى الفستان الأبيض الضيق فينفجر تمزقًا، وتتناول عصا لتدور بها هيامًا عذبًا، يتقافز بكيانها كله حتى تصل إلى الغيوم، وتحط على الأرض فينهمر المعجبون حماسا وتصفيقا، وتعود فتبطىء من حركتها حتى تصبح همسًا، وتنتفض امتزاجًا بدقات الطبول الصارخة، وتدور حول نفسها فتدور الأرض حول السماء، وتتمايل على أجنابها فتختل حركة الكون لتتسق مع فورتها، وتداور العصا فتداورها العصا فتنة وجمالا، حتى أن الاحتفال كله يبدأ يختزل حركته ليلتف حولها، باعة السمسمية والهريسة ومجهزو الحشيش والمعسل، وجوقات الذاكرين الموحدين لله، ودافعو المدفع والمستمتعون بالحاوى، الكل تحلق حول زينب، المتألقة الممتزجة، وفستانها يتمزق فى الوسط فتظل الصفوف تشتعل حماسا، ويتمزق فى الصدر فتزداد الصفوف هياما.

«دقى يا مزيكا»، وما تكاد فترة التأهب الموسيقى تبدأ حتى تسقط، تسقط زينب على الأرض، مفرودة على طول جسدها الخارج نتوءات بارزة من فستانها. وكان أول صباح تأتى فيه شمس إلى زينب فلا تجدها فى نافذتها.

وتبخرت زينب- من يومها – فى أنوف الآخرين وتسللت إلى دمائهم.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق