جلبت التكنولوجيا الرقمية فوائد لا يمكن إنكارها للبشرية، ولكنها تفرض أيضا تحديات لا يمكن إنكارها للديمقراطية. تنبع هذه التحديات من اتجاهات معينة للتغيرات الاجتماعية التى تحركها التكنولوجيا والتى تتكشف أمام أعيننا - وهى اتجاهات تؤدى بالفعل إلى تآكل الركائز الأساسية للديمقراطية. واتضح هذا بشدة مع الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة التى لفتت الانتباه لمخاطر التكنولوجيا وكيف يمكنها أن تقوض أى ديمقراطية.
فى كتابه « الشعب ضد التكنولوجيا: كيف يقتل الإنترنت الديمقراطية وكيف يمكن إنقاذها»؛ يرى جيمى بارتليت، مدير دراسات مواقع التواصل الاجتماعى بمركز ديموس البريطانى أن الديمقراطية والتكنولوجيا تخوضان معركة لا يمكن لأحد منهما الفوز بها. وفى السنوات المقبلة ، إما أن التكنولوجيا ستدمر الديمقراطية والنظام الاجتماعى كما نعرفه، أو أن السياسة ستحكم سلطتها على العالم الرقمي. هو يعترف بأن التقنيات الحديثة قد أوجدت راحة أكبر وحسنت من التواصل الافتراضى ، مما جعلنا «أكثر استنارة وأكثر ثراءً ، وفى بعض النواحى ، أكثر سعادة»، مسلطا الضوء على توثيق التهديدات الحقيقية لخوارزميات جمع البيانات، والإعلانات المتلاعبة ، ونقل «التفكير الأخلاقى والسياسى إلى الآلات» ، والتى ، بمجرد البدء فيها فلن يكون من المستحيل كبحها. ويقدر المؤلف أنه فى أقل من عقدين من الزمن ، فإن التكنولوجيا غير المنظمة والذكاء الاصطناعى والتخطيطات النفسية للتزوير فى الانتخابات ستقوض أى ديمقراطية بنجاح .
من «احتلوا وول ستريت» إلى الربيع العربى وشوارع أوروبا ، أصبح الطلب على المزيد من الديمقراطية معروفًا للعالم الأوسع من خلال التغريدات. وبدا أنك إذا أعطيت الأشخاص الأدوات اللازمة للاتصال فستظهر موجة للتقدم والتغيير بشكل طبيعى ولكن الآن. وبغض النظر عن الميول السياسية ، فإن هذه الأدوات والتقنيات ذاتها، التى كانت ذات يوم تُصنف كأسلحة للديمقراطية والتقدم فى مواجهة الطغيان، تبدو الآن كأسلحة لقتل الديمقراطية وصناعة الاستبداد. بحيث لم يعد السؤال ما إذا كانت التطورات التكنولوجية ستعيد تشكيل الديمقراطية. بل السؤال الحقيقى هو ما إذا كان يمكن للديمقراطية أن تنجو من هذه التغييرات على الإطلاق. لدى بارتليت وسائل لإنقاذ الديمقراطية: المواطنون المستقلون، نشر ثقافة الديمقراطية، انتخابات حرة ونزيهة تحظى بالثقة، المساواة، طبقة وسطى ناشطة، اقتصاد تنافسي، مجتمع مدنى مستقل، سلطة ذات سيادة تتحمل المسئولية أمام الشعب.
فى السنوات الأخيرة مع ما تردد حول التدخل الروسى بالانتخابات الرئاسية الأمريكية، وكيف يتم التلاعب وخداع العقول من خلال الأخبار المزيفة، يبدو إلقاء اللوم على الانترنت مريحا للكثيرين لكنهم يفتقدون للصورة الكبرى. حيث يتم عرض جميع القصص الحديثة لبرامج «البوت» ( المتصيدون ، القرصنة ، التشفير، البيانات المسروقة) بمعزل عن كونها مشكلة أكبر بكثير وهى أن لدينا ديمقراطية تماثلية وقاعدة جديدة للتكنولوجيا الرقمية. والاثنان لا يعملان معا بشكل جيد. وإذا لم نجد حلا للأمر فسوف يستنتج المزيد من الناس ببساطة أن الديمقراطية لم تعد تعمل حقًا وسيبحثون عن شيء آخر.
يبرز بارتليت تفاصيل فضيحة « كامبريدج أناليتكا» وفيسبوك التى شغلت الرأى العام العالمى خلال العام الماضى، موضحا أن تلك الأزمة كشفت قوة البيانات الشخصية وكيف يمكن استغلالها لتصميم خطاب إعلامى مخصص لكل فرد على حدة لإقناعه بالتصويت لمصلحة طرف بعينه، كما حدث وتم الدفع بالكثيرين للتصويت لمصلحة ترامب. فقد أصبحت الانتخابات علما للبيانات، استنادا إلى بناء الملفات الشخصية والإعلانات المخصصة. اعتقد الجميع أن التكنولوجيا ستعزز الديمقراطية المستنيرة إلا أنها تعمل على تقويض الديمقراطية عن طريق خلق «القبلية» الرقمية. تدفعنا مواقع التواصل الاجتماعى إلى الرد دون تفكير فقد تم تصميمها وفقًا لمنطق مختلف تمامًا: تدفق سريع لا نهاية له من الأفكار والحجج المتعارضة ، واحدة تلو الأخرى ، دون ترتيب واضح بدلاً من عمليات التفكير البطيئة والمنطقية والعقلانية. لذا فإن السرعة ، والحمل الزائد للمعلومات، والوضع العاطفى - يقود إلى ظهور شكل جديد من «القبلية» السياسية حيث يصبح الانضمام إلى قبيلة ما هو إلا الطريقة الوحيدة للبقاء على قيد الحياة. ويلفت بارتليت إلى أن هذه المجموعات ليست متكافئة معنويا حتى وإن بدت مفيدة فى توحيد الناس وراء قضية ما، لكنها فى نهاية المطاف مضرة بالديمقراطية ، بسبب تأثيرها على تضخيم الاختلافات الصغيرة بيننا ، وتحويلها إلى فجوات هائلة لا يمكن تجاوزها. نتيجة لذلك ، يتزايد تهييج الناس وترسيخ معتقداتهم ، مما يجعل من الصعب عليهم التواصل والتعاون ، وبالتالى يؤدى إلى طريق سياسى مسدود. والأسوأ من ذلك ، مع تعميق الانقسامات القبلية وشعور الناس بشكل متزايد بالهجوم من القبائل الأخرى ، فإنهم ينظرون إلى تلك القبائل كأعداء ، ويبحثون عن زعيم يمكنه حمايتهم ومحاربة خصومهم. هل من المفاجئ إذن أن الحقيقة فى هذه الظروف تبدو أقل أهمية من الولاء للجانب الذى أنت فيه؟ فى ظل هذا كله يبدو الشعبويون أكثر انسجاما مع التكنولوجيا اليوم.
يحذر بارتليت أيضا من مخاطر الذكاء الاصطناعى والبرمجيات التى تلعب دورًا أكبر فى اقتصادنا ، فمن المتوقع مستقبلا أن يفقد الكثيرون وظائفهم وستتسع فجوة عدم المساواة مما سيدفع أعدادا متزايدة من الناس للإيمان بأن الديمقراطية لا تعمل. ولا يمكن الوثوق بالانتخابات. ولا يمكن إنشاء الوظائف. يضيف «نحن بحاجة إلى تسوية جديدة. الديمقراطية بحاجة إلى ترقية - وعلينا أن نبدأ فى إعادة تشكيل مؤسساتنا وتوقعاتنا أيضًا. لكن التكنولوجيا يجب أن تخضع أكثر تحت السيطرة الديمقراطية أيضا. وبالطبع نحتاج جميعًا إلى تغيير سلوكنا لأنه ، فى النهاية ، النقرات والمشاركات تعمل باستمرار على تغذية أجهزة جمع البيانات. نحن فقط فى البداية. وبمجرد أن يبدأ الذكاء الاصطناعى فى العمل وفقا للبيانات ، فإننا نواجه احتمالا حقيقيا بأن تكون حياتنا خارج سيطرتنا وخاضعة لحكم الوكالات ، التى تعرف الكثير عنا.فتقنيات جمع البيانات المتطورة تؤدى إلى مواطنين يتم التلاعب بهم بشكل متزايد».
ويرصد تأثير ظهور حركة «فوضى التشفير» التى تهدد قدرة أى حكومة على السيطرة على المعلومات وبالتالى سلطتها على إخضاع مواطنيها لقوانينها. فهى حركة تسعى إلى تقويض سلطة الدولة من خلال التشفير ، مما يسمح للناس بالاتصال وتخزين واسترجاع المعلومات بعيدا عن متناول الحكومة.ومن الأمثلة البارزة على ذلك عملة البيتكوين الرقمية المشفرة ، التى تمكن الأشخاص من إجراء معاملات آمنة وشبه مجهولة دون دعم الحكومة المركزية أو التحكم فى قيمة أو عرض العملة. مثل هذه العملة تشكل تهديدا للحكومات لأنها تتحدى قدراتها على ممارسة احتكارات الدولة على الأموال ومراقبة المعاملات وبالتالى تحصيل الضرائب. تنتشر بالفعل تطبيقات أخرى لهذه التكنولوجيا مما يؤدى إلى إنشاء أسواق قائمة لا يمكن السيطرة عليها، وقد تتيح هذه الأسواق التدفق الحر للمنتجات غير القانونية مثل المخدرات والبيانات الشخصية والمواد الإباحية.وستكون الحكومات عاجزة عن إزالتها أو تتبعها، ناهيك عن محاكمة المستخدمين الذين يقفون وراءهم. وفى النهاية ستصبح قوانين الحكومة - وبالتالى الحكومة نفسها - بلا أنياب على نحو متزايد، حيث يصبح بإمكان المخالفين كسرها دون عقاب.
فى نهاية كتابه يقدم بارتليت عشرين فكرة لإنقاذ الديمقراطية تتراوح بين تطويرأدوات السياسة والتوصيات التعليمية، من بينها تعليم التفكير النقدي، والدعوة لاتخاذ القرارات الفردية السياسية والأخلاقية، وسن قوانين واستخدام أدوات للحد من تقليل تهديدات ومخاطر التشفير والعملات المشفرة للحكومات الديمقراطية، وأن تعيد الحكومات تأكيد سلطتها على صناعة التكنولوجيا.
رابط دائم: