أثارت الأحداث الأخيرة فى الولايات المتحدة ، وعدد من الدول الأوروبية، شكوكاً جدية حول صحة وممارسات الديمقراطية وكشفت مدى هشاشتها كأنظمة سياسية، حتى وإن كان ذلك فى أكثر الدول تقدماً، مما دفع علماء السياسة والاجتماع لإطلاق تحذيرات بأن الديمقراطية كنظام حكم مهدد، متسائلين هل انتهت الديمقراطية؟.
يطرح ديفيد رانسيمان ، أستاذ السياسة بجامعة كامبريدج ، السؤال نفسه فى كتابه الجديد «كيف تنتهى الديمقراطية؟»، معتبرا أن الديمقراطية تمر بأزمة منتصف العمر، مؤكدا أن التهديد الموجه إليها ليس من الخارج كما يظن الكثيرون ، ولكن من الداخل، فتكاثر الشعوبية فى المجتمعات الديمقراطية يتم عندما يكون هناك تدهور اقتصادى وعدم مساواة. هو لا يتجاهل أيضا تأثير أى «كارثة» محتملة مثل تغير المناخ والصراع النووي، محذرا من أنه إذا حدثت كارثة حقيقية، فلن يكون إنقاذ الديمقراطية على رأس جدول الأعمال. ويعدد تهديدات التكنولوجيا للديمقراطية، مرجحا أن تسهم فى إنهاء الديمقراطية بشكلها الحالي.
يرى رانسيمان أن الأزمة التى تواجه الديمقراطيات الغربية مثل أمريكا أنه ليس لديها أى فكرة عن مدى الخطر الذى تواجهه. كما تعد عدم الكفاءة أزمة آخري. ويعتبر أن قدرة الديمقراطيات الناضجة على الصمود هو جوهر إخفاقاتها «تحتفظ الديمقراطيات المستقرة بقدراتها غير العادية لتفادى الأسوأ الذى يمكن أن يحدث دون معالجة المشكلات التى تسببت بالكارثة فى المقام الأول».
يؤمن رانسيمان بأن جوهر القضية فيما يتعلق بانتخاب رئيس مثل دونالد ترامب هو أن أمريكا أصبحت مجتمعا يكره المخاطرة ، ويخاف من التغيير الجذرى الضرورى لبقائه. لم يصدق الأشخاص الذين صوتوا لمصلحة ترامب أنهم كانوا يخوضون مقامرة ضخمة ؛ لقد أرادوا ببساطة توبيخ نظام ما زالوا يعتمدون عليه من أجل أمنهم الأساسي. هذا هو القاسم المشترك بين من صوتوا لترامب ومن صوتوا لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. فباختيار ترك الاتحاد الأوروبى ، ربما بدا أن غالبية الناخبين البريطانيين يتصرفون بتهور. لكن فى الواقع ، عكس سلوكهم هذا ثقتهم فى النظام السياسى الذى شعروا تجاهه بالغضب الشديد، ورغم ذلك اعتقدوا أنه لا يزال قادرًا على حمايتهم من عواقب اختيارهم إلا أن الجميع صدم وأحبط فى النهاية. وهنا تكمن المخاطر الحقيقية. فلا يمكن الاستمرار على هذا النحو دون الإضرار بالآلية الأساسية للحكومة الديمقراطية، حيث يتطلب الأمر جمع معلومات دقيقة بشكل غير عادى لامتصاص الغضب الشعبى فى أجزاء الدولة التى تحتاج للإصلاح مع ترك الأجزاء التى تجعل هذا الإصلاح ممكنًا كما هي. فأزمات مثل رئاسة ترامب والبريكست أضعفت الأسس الديمقراطية بشكل عشوائي. فى ظل هذه الظروف ، يكون رد الفعل المحتمل هو انتظار صناع القرار لمرور العاصفة. بينما هم يفعلون ذلك ، يتأخر التغيير المطلوب كمحاولة لتجنب الانهيار. يضيف رانسيمان «إن الرغبة المفهومة فى إبقاء الدبابات بعيدة عن الشوارع وتوفير سيولة نقدية، تعوق التهديدات طويلة المدى التى نواجهها. هو اضطراب مزيف يتبعه شلل مؤسسى ، وفى الوقت نفسه تستمر المخاطر الحقيقية فى الصعود. هكذا فى النهاية تنتهى الديمقراطية».
ويرى أن ما سعى إليه سياسيو الليبرالية الجديدة هو تدمير آخر للديمقراطية تم ارتكابه من خلال تيسير تآكل كل من النقابات العمالية ، ومؤسسات الديمقراطية الاقتصادية، والطبقة المتوسطة ؛ لذا فإن إعادة بناء المؤسسات الديمقراطية والتضامنية الاقتصادية وإضفاء الطابع الديمقراطى على الاقتصاد، قد يكون هو المفتاح لإنقاذ الديمقراطية.
ويأتى كتاب «كيف تموت الديمقراطيات» لستيفن ليفيتسكى ودانييل زيبلات ليبحث كيف تتبخر القواعد غير المرئية للديمقراطية فى الأماكن التى كانت تبدو فيها ذات يوم آمنة ، مما يؤدى لإنهاء المنافسة السياسية المنظمة التى تمثل روح الديمقراطية، ويقدم تجارب تاريخية للحل الديمقراطى ، مع التركيز بشكل خاص على أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية وأمريكا اللاتينية بعد الحرب، مستعرضا تجارب دول مثل روسيا وبولندا وتركيا ونيكاراجوا وفنزويلا وسريلانكا.
ويبرز الكتاب كيف يتم قتل الديمقراطية ذاتيا بشكل تدريجى عبر مؤسساتها بشكل قانونى، موضحا أن الديمقراطيات المعاصرة لا تموت بسبب هجوم من خارجها، ولكن لأن القادة المنتخبين من داخل النظام يقوضونها ببطء، معتبرين أن وصول ترامب للسلطة أبرز مثال على ذلك وأن الديمقراطية الأمريكية أصبحت الآن فى خطر محدق . يشبه الكتاب صعود ترامب بصعود شافيز فى فنزويلا ، وموسولينى فى إيطاليا ، وهتلر فى ألمانيا ، حيث يحلل سلوك ترامب إلى فئات محددة، تتضمن رفض القواعد الديمقراطية، والتغاضى عن العنف، وإثارة الاستقطاب، وتقليص الحريات المدنية للمعارضين ووسائل الإعلام، بالإضافة إلى رفض الرئيس ترامب فصل مصالحه التجارية عن مكتبه مما يؤدى إلى تآكل الثقة فى المؤسسات الأمريكية .
بينما يحمل ياشا مونك، أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد، الشعب المسئولية فى كتابه «الشعب ضد الديمقراطية: لماذا حريتنا فى خطر وكيف يمكن إنقاذها». يركز مونك على صعود الشعبوية فى الدول الغربية واستئثار أقليات نخبوية بالسلطة، ويعتبر أن الديمقراطية والليبرالية ليستا مترادفتين بالنظر إلى أمثلة كالمجر والهند وتركيا شهدت صعود الديمقراطية غير الليبرالية - عبر المجتمعات التى تنتخب حكوماتها ولكنها تعطى أهمية أقل للمعايير الليبرالية مثل الصحافة الحرة ، والإجراءات القانونية ، والشفافية ، والتسامح ، الحريات المدنية. كما يحذر من خطورة الصدام بين الديمقراطية والليبرالية، ومن عدم القدرة على بقاء النظم الحاكمة فى أمريكا الشمالية وأوروبا ديمقراطية دائما. يرى مونك أن الشعوبية «ديمقراطية بدون حقوق» تتقاطع مع مشكلة آخرى تتمثل فى وجود «حقوق بدون ديمقراطية» كنتيجة لليبرالية غير الديمقراطية التى تنتج عن الإفراط فى المؤسسات غير المنتخبة مثل الوكالات المستقلة والمحاكم وبيروقراطيات الدولة ، وعزلة المشرعين عن ناخبيهم.
من وجهة نظره، فإن «الديمقراطية تتفكك»، وهناك ثلاثة تطورات كبيرة تقوض الديمقراطية. أولاً النمو الاقتصادى البطيء وتزايد عدم المساواة محل النمو المرتفع المستمر وعدم المساواة المعتدلة التى ساعدت فى تجذير الديمقراطية الغربية فى النصف الثانى من القرن العشرين. ثانياً ، موجة الهجرة الأخيرة فى معظم الديمقراطيات الغربية الكبرى التى حثت على «تمرد كبير» ضد التعددية العرقية والثقافية. ثالثًا ، تقنيات الاتصالات الجديدة التى شكلت أزمة كبرى. بالإضافة إلى أن الآليات المؤسسية لترجمة الآراء الشعبية إلى سياسة عامة أصبحت «معاقة» و «متماشية مع مصالح النخب الاجتماعية أو الاقتصادية لدرجة أن تأثير الشعب على حكومته مقيد بشدة».
يقدم مونك روشتة علاج تتضمن إصلاح السياسة الاقتصادية وزيادة مستويات المعيشة والحد من عدم المساواة. واستبدال القومية الإقصائية بـ «الوطنية الشاملة» التى تساوى بين المواطنين دون تمييز وتخفيف المخاوف بشأن الهجرة. وضرورة أن تجدد الديمقراطيات إيمان مواطنيها بآلياتها الديمقراطية.
رابط دائم: