«أنا المختار من الرب لإشعال الحرب التجارية ضد الصين».. يبدو أن كلمات الرئيس الأمريكى دونالد ترامب قد لقيت صداها فورا على الجانب الآخر من العالم، فلم تمض ساعات قليلة حتى وجهت بكين أول قذيفة للاقتصاد الأمريكي، من خلال فرض رسوم جمركية انتقامية على سلع أمريكية قيمتها نحو ٧٥ مليار دولار . ليسارع ترامب بالرد بقذيفة مماثلة ويرفع الرسوم الجمركية المطبقة بالفعل على ٣٠٠مليار من المنتجات الصينية بداية سبتمبر الجاري.
وعلى الرغم من أن ترامب دائما ما تفاخر بإنجازاته الاقتصادية، وتراجع معلات البطالة فى عهده، والأرباح التى جناها من صفقاته مع دول العالم وتقليص الإنفاق على المنظمات والتحالفات الدولية، واعتبرها ورقته الرابحة فى الانتخابات الرئاسية المقبلة فى ٢٠٢٠، لكن يبدو أن سحر اقتصاد ترامب ارتد عليه. فبمجرد تبادل الصين وأمريكا قذائفهما الاقتصادية، حتى تراجع مؤشر داو جونز أكثر من ٦٠٠ نقطة. وهو ما امتد إلى كل مؤشرات أسواق المال التى خسرت نحو ٢٪ فى ساعات قليلة، واقتفى أثرها البورصات الأوروبية.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد واصلت سندات الخزانة الأمريكية تراجعها لينخفض عائد سندات الخزانة لأجل ١٠ سنوات بمقدار ٩ نقاط، وهو أدنى مستوى إغلاق له منذ أغسطس ٢٠١٦.
وتحولت الحرب التجارية مع الصين بين يوم وليلة إلى أزمة داخلية تهدد بتقويض شعبية ترامب، فقد استقبلت الشركات الأمريكية مطالبة الملياردير الجمهورى لهم بنقل شركاتهم من الصين ووقف أى تعامل مع هذا التنين الصينى العنيد برفض قاطع. فالخسائر التى ستنجم عن مثل هذه الخطوة أكبر بكثير من المكاسب التى سيجنيها ترامب وإدارته. ولكن بما أن الرئيس الأمريكى لم يعتد الهزيمة أو الاستسلام، فقد هدد الشركات المتعاملة مع الصين بردعها بالقانون، مشيرا إلى أن القانون الدولى للطوارئ الاقتصادية لعام ١٩٧٧ يسمح له باستخدام سلطاته لمعاقبة الشركات التى ترفض الاستجابة لسياساته، . لتتحول سياسات ترامب بين يوم وليلة من سياسات صديقة للاقتصاد والنخبة الاقتصادية فى البلاد، إلى سياسات معادية لها بل ستكبدها أيضا الكثير من الخسائر هى فى غنى عنها.
وفى خضم هذا الصراع، اشتعلت الخلافات بين ترامب وجيروم باول رئيس الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى الذى أعلن فور تراجع البورصات وعوائد السنداات الأمريكية استعداده لخفض أسعار الفائدة بنسب وفترات محددة، وهو الأمر الذى اعتبره ترامب غير كاف لمواجهة الأزمة الراهنة والتى تهدد الاقتصادين الأمريكى والعالمى بحالة من الركود لا تقل قسوة عن الأزمة المالية العالمية التى أثارت الذعر عام ٢٠٠٨. وبطبيعة الحال لم يأل الرئيس الأمريكى جهدا لتحميل باول وسياساته مسئولية تصاعد الأزمة.
ولكن لهذه الحرب الكثير من الضحايا، على رأسهم القطاعات الرئيسية، فى الاقتصاد الأمريكي. فالمزارعون الأمريكيون هم الأكثر تضرراً حتى الآن. فالصين تعتبر أكبر سوق للعديد من المحاصيل الأمريكية، والتى خضعت للتعريفات الجمركية الانتقامية، بما فى ذلك الفاكهة واللحوم والحبوب. كما يعد فول الصويا أكبر الصادرات الزراعية الأمريكية ، ومعظمها ذهب إلى الصين قبل الحرب التجارية. وسجلت صادرات فول الصويا الأمريكية إلى الصين أدنى مستوى لها منذ عام ٢٠٠٢ فى الفترة من يناير إلى يونيو الماضيين، وفقا لبيانات الحكومة الأمريكية.
وتراجعت صادرات اللحوم إلى أدنى مستوى لها فى تسع سنوات، وللتعويض عن الخسائر فى المبيعات إلى الصين، قدمت الحكومة الأمريكية مساعدات بقيمة ٢٨ مليار دولار لمزارعيها. وعلى صعيد الصناعات التكنولوجية، كانت الشركات الأمريكية من بين أكثر القطاعات تضررا،ً حيث تراجعت أسهمها بنسبة ٥٪. وحذرت جمعية «تكنولوجيا المستهلك» فى بيان للممثل التجارى للولايات المتحدة من أن الرسوم الجمركية تكلف قطاع التكنولوجيا الأمريكى ١٫٣ مليار دولار شهريًا.
أما مصانع السيارات الأمريكية فستكون الخاسر الأكبر فى حالة استجابتها لمطالب ترامب بمقاطعة الصين. فى واقع الأمر، لا يمكن أن نشير بأصابع الاتهام إلى ترامب فقط فى هذه الأزمة، فبعض مطالب واشنطن عادلة. فالصين كمنظومة اقتصادية اعتادت التغريد خارج السرب العالمي. ومطالب واشنطن تتلخص فى توفير حماية أفضل للملكية الفكرية الأمريكية ، وإنهاء الإعانات التى تفضل الشركات الصينية المملوكة للدولة ، وتحسين وصول الشركات الأمريكية إلى الأسواق الصينية. وهى أمور ليس من السهل تنفيذها. ولكن الصين ليست الطرف الأضعف فى هذه الحرب، فلايزال فى جعبتها الكثير من الأسلحة التى لم تقرر استخدامها بعد، على رأسها سندات الخزانة الأمريكية . فالصين هى أكبر حامل لهذه السندات، وتضاعفت حصتها خلال الأزمة المالية العالمية فى ٢٠٠٨. فبحوزتها أكثر من ١٫١ تريليون دولار من السندات ويمكن أن تستغلها فى الرد على الرسوم الجمركية التى فرضتها إدارة ترامب على الواردات الصينية.
رابط دائم: