رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

السملات

قصة : محمد المخزنجى

 إلى المُعذَبين انشغالاً بها

خمس دقائق. خمس دقائق لا أكثر قلبت حياته رأسا على عقِب. وأى عقِب؟!

>{>

كان رائقا سعيدا بإيقاع اعتمده لنفسه كطبيب أمراض نفسية متقاعد لم يُرزّق أطفالا. يعيش فى سلام مع نفسه ومع زوجته المُسالِمة ومع العالم الذى يبادله السلام. بلا أمراض مزمنة ولا كآبة ولا انطواء مابعد السبعين. يملأ وقته بالقراءة ومشاهدة الأفلام القديمة على شاشة التلفزيون مع زوجته. ومعها يخرجان عند الغروب لممارسة رياضة المشى فى آخر الشوارع المظللة بالأشجار فى محيط العمارة التى يسكنان إحدى شققها بالطابق السابع. صارت حياته بعد التقاعد رحبة ووديعة كأنها طبيعة ثانية اكتسبها هو وزوجته معا. لم يكن هناك ما يُعكِّر قناعة ووداعة هذه الحياة. وكان فى ذلك اليوم على موعد مع فنى صيانة التكييف الذى ضعف تبريده وعلا صوته. وكعادة مواعيد هؤلاء كان الزمن مفتوحا.. من العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا. لكن الفنى ومساعده لم يتماديا فى ذلك بل حضرا فى العاشرة والنصف. ولم يمكثا أكثر من خمس دقائق؟!

سأله الفنى عن موعد سريان ضمان الجهاز وعن الشكوى منه. ألقى نظرة على الوحدة الداخلية ثم طلب فتح نافذة الألوميتال ليطل على الكومبريسور والتوصيلات وعاد بملامح مُحبَطة. أعلن عن أسفه لأنه لن يمكنه فعل أى شيء فالجهاز تم تركيبه بطريقة خاطئة تشكل خطرا إذا تعامل معه وهو على هذا الوضع. كما أنه يشكل خطرا قاتلا إذا سقط على أحد المارة فى الشارع تحته وهذا غير مُستبعَد. وقال الفنى وأيده مساعده إن هناك كُومبريِسورا سقط من الطابق العاشر فى عمارة بمنيل الروضة وقتل رجلا تصادف مروره تحته. مبهوتا سأل الفني: وما العمل؟ وكانت الإجابة: فَكْ الكومبريسور ورفعه من مكانه ــ وهذه لن تقوم بها الشركة المُصنِّعة لأنها ليست مسئولة عن التركيب الخاطئ الذى قام به فنى التوكيل الذى باع الجهاز. وبعد الفك يحضر هو أو أى فنى آخر من الشركة للفحص والتركيب الصحيح وعمل الصيانة اللازمة. ثم أخرج ورقة مطبوعة من أوراق الشركة طلب من الطبيب أن يوقعها. على ماذا أوقع؟ سأل. وأجاب الفنى .. على طلب إعادة التركيب. إعادة التركيب؟ طبعا. فلابد من إعادة التركيب. لم يكن الطبيب فى وارد أن يقرأ كلاما كثيرا مطبوعا بحروف دقيقة تستلزم ارتداء نظارة القراءة التى تتطلب وقتا للبحث عنها لكثرة ما تضيع هنا وهناك. وكان الفنى ومساعده فى عجلة واضحة من أمرهما. وقَّع طبيب الأمراض النفسية المتقاعد حيث أُريد له أن يوقِّع! ووقَعَ العالم على رأسه!

>{>

« سلسلة كلب طويلة متينة بقفل قوي». من محل حدايد وبويات إلى محلٍ غيرِه أخذ الطبيب يكرر طلبه. كان طقس أغسطس حارا ورطبا بضراوة يفاقمهما الزحام والضوضاء. وكان ذهن الطبيب المسن تتناهشه الصور الدامية لمن سيسقط عليهم من الطابق السابع كومبريسور تكييفه سيئ التركيب ويسحقهم. كان ذلك يُحوِّل جسد الطبيب النحيل الضامر إلى كيان ينضح عرقا ويترنح فى دوار. وكان أصحاب المحلات وزبائنهم يٌبدون استغرابا مشوبا بالسخرية أن يطلب الرجل «سلسلة كلب طويلة بقفل» ليربط بها كومبريسور التكييف. أخذ يشرح لهم بنفاد صبر كيف أن الكومبريسور تم تركيبه غلط ويشكل تهديدا لأرواح من يمرون تحته على رصيف الشارع إذا سقط فى أى لحظة. ويشكو أنه اتصل بالتوكيل الذى باعه الجهاز وركبه ليقوم بتفكيكه حتى تُركِّبه الشركة المُصنِّعة كما ينبغي. ولم يحصل إلا على المراوغة. طلب التوكيل أكثر من مهلة للرد على طلبه ثم أعلن أنه لم يعد مسئولا عن جهاز مضى على تركيبه عشر سنوات وانتهت فترة ضمانة.

يحكى الطبيب لمن يستغربون طلبه كيف أنه اضطر إلى الإعلان عن رغبته فى بيع الجهاز بسعر مهاود. بل بأرخص سعر. وحتى دون مقابل. ولم يأت أحد. ويشرح كيف أن المهم لديه صار أن يرفع هذا الرعب عن بيته. عن نفسه وعن الضحية أو الضحايا المحتملين. وأنه جراء ذلك لم يعد قادرا على النوم ولا الراحة إلا بتوفير الحد الأدنى لتقليل مخاطر الجهاز إذا سقط. وفكرته أن يكبل الجهاز بسلسلة يربطها بإطار الحديد المشغول الذى يُجمِّل النافذة من الخارج ثم يُحكم الرِباط بقفل قوى يمسك بطرفى السلسلة. ولماذا سلسلة كلب؟ يسألونه مبتسمين بسخرية مبطنة ويجيب .. إنه وجد السلاسل الأخرى أغلظ من أن يمكن إدخالها بين خوصات شبابيك التهوية الدقيقة بالصندوق المعدنى للكومبريسور. سلسلة الكلاب أدق وقوتها كافية. وهكذا إذا انهار الجهاز يظل معلقا بالسلسلة فى إطار الحديد المشغول للنافذة حتى يتم التقاطه.. أو إسقاطه فى الشارع بعد تحذير المارة أن يبتعدوا عن مكان سقوطه.

بتأثير الإحباط والإجهاد والملل صار الطبيب يختصر طلبه فى « سلسلة كلب طويلة بقفل لربط التكييف». وصارت تتكرر نظرات الارتياب والشك فى سلامة عقله. أخذ يلمحها فى العيون عندما يعرض ويشرح طلبه. لم يعثر على مايريد بعد ساعات من الدوران على عشرات محال الحدايد والبويات فى مناطق متباعدة. صار يغرقه العرق ويحرقه العطش ويعانى صداعا ودوارا يشتدان لكنه يتجاهلهما. تداهمه صور القتلى المنسحقين تحتل ثقل كمبرسور تكييف شقته فيواصل المشى والبحث. راحت قواه تخور ويدرك أن ضغطه يواصل الانخفاض جراء فقد الملح مع العرق الذى سفحه ويسفحه. يسرع الخطو بآخر ما يستطيع باحثا عن صيدلية قريبة يشترى منها قطارة كوتيسور أو أى رافع للضغط يتناوله على وجه السرعة. لكن الإغماء يُعاجله. يسقط أمام مقهى غاص بزبائنه الذين افترشت كراسيهم الرصيف. وكان آخر مارآه فى سقوطه.. هبوب رواد المقهى من مقاعدهم يسرعون إليه.

لما أفاق بعد أن أنعشوه برش الماء على رأسه ووجهه كانت حلقة الوجوه المحيطة به تسأله عن اسمه.. عنوانه.. عمن بتصلون به من معارفه أو أهله.. ظل يهذى باسم « مُسعد سِملَّأت»، «مُسعد سِملَّات» . من مُسعد سملات؟ وماهو رقم تليفونه؟ وكيف وأين يجدونه؟ أخذت تلك الأسئلة تتكرر عليه فيما كان رواد المقهى قد أجلسوه على مقعد وسقوه شايا ثقيلا زاد من تنبهه. كان قلبه يخفق بشعور عذب من الامتنان والحب لهذا العالم الذى لم يزل فيه كل هذا الخير برغم كل هذا الرعب المعُشِّش فى ثناياه. كل هؤلاء الناس الطيبين برغم تواضع أحوالهم. وكان فى غاية الاستغراب مما أخبروه به عن هذيانه باسم « مُسعد سِمِلَّات «! من مُسعد سملات ؟؟!!!

>{>

لقد عرف فى حياته أكثر من إنسان باسم مسعد. لكنه لم يجد بينهم من يكون منطقيا أن يناديه أو يهذى باسمه فى هذا الموقف. ثم ما معنى سِمِلَّات هذه؟ لم يخبر زوجته بما حدث. وعندما لاحظت تغيرات القلق تبدو على ملامحه وتسفر عن نفسها فى زيغ نظراته سألته فأخبرها أن لاشيء. لاشيء. مجرد معلومة تحيره. صدَّقته لأنها اعتادت رؤيته على هذا الحال عندما يتحير. تعرف أنه سيدخل غرفة المكتب وينفرد بنفسه ليُركِّز فى حل لغز ما يحيره. لكنه فى المكتب عجز أن يحدد من يكون مسعد الذى ردد اسمه وهو مشوش الوعى فراح يبحث عن معنى كلمة « سِمِلَّات» فى كتبه وعبر الانترنت. ولخص مافهمه عن معنى الكلمة فى ملحوظة موجزة..

«السملات عموما هى أساسات عرضية قوية تتحمل أثقالا كبيرة تقام عليها وتمتص الضغوط الميكانيكية لحركة أو اهتزاز هذه الأثقال. وهى فى البناء قواعد إنشائية أفقية قوية تُقام عليها الحوائط الحاملة لما يعلوها حتى لاتهبط بها التربة الرخوة فتتصدع، وفى السفن هى عوارض أفقية متينة تُمسِك بهيكلها، أما فى السكك الحديدية فيبدو أنها الفلنكات التى تحمل القضبان»

>{>

لم يجد فيما فهمه من معانى كلمة سملات ما يفسر هذيانه الغامض بها وهو يفيق من إغماءته تلك. وعندما أوشك على إعلان يأسه من العثور على أى تفسير واعتبار الأمر مجرد تشوش عابر حدث له.. فوجئ بتغير غريب ينتابه. لم يعرف إن كان يعيش حلما أو يمر بهلوسة. كان فى مشهد ليلى فى أحد شوارع الضاحية القديمة التى أقيمت بها المصحة النفسية الصغيرة القائمة عند أطرافها. عمره المهنى كله قضاه فى هذه المصحة طبيبا مقيما فأخصائيا فمديرا لها حتى أُحيل إلى التقاعد. وعلى ضوء مصابيح ذلك الشارع الصفراء الخافتة أبصر شخصا مقرفصا يحفر عند سِفل أحد البيوت. يكشف الشخص عن جزء من جذر الحائط ثم يزيل ماتراكم على هذا الجزء فيظهر شريط خرسانى تحت أول قوالب الطوب التى يصعد بها الحائط. عندئذ يتنهد الشخص المقرفص تنهيدة ارتياح ويتلفت حوله متهلل الأسارير فيما يهم بالنهوض. يلتقى وجهه بوجه الطبيب فتومض ذاكرة الطبيب بأسطع ماتكون .. هذا هو مسعد.. «مُسعد خليل الشرقاوي». ينفعل الطبيب بالعثور عليه بعد كل تلك السنين .. وما أن يشرع فى مناداته باسمه مبتهجا ويمد يده لينهضه من قرفصته حتى تقوم قيامة العتمة.

سمع الطبيب ضوضاء وجلبة تتدفق من أبواب بيوت الشارع التى بدا أنها انفتحت جميعها فى وقت واحد. وصكت سمعه أصوات عشرات الهائجين يصرخون «حرااامى حراااامى». انقضوا على مُسعد فأوقعوه على ظهره وراحوا يلكمونه ويركلونه وهو ملتو على نفسه فى ذعر. يجذف بذراعيه وساقيه ليتوقَّى لكماتهم والركلات. بدا مستسلما كطفل مقهور برغم تكوينه الجسمانى الرياضى الشاب الذى يشع بعافية لا تتناسب مع ذعره. ثم شرخت حلقة المعتدين شابة ثلاثينية هلِعة.. تصرخ فى المتكالبين أن يتركوا شقيقها. تكرر أنها شقيقته وأنه ليس لصا بل إنسان طيب.. يحبهم ويخاف عليهم.. يريد أن يتأكد من وجود سملات تقوم عليها حيطان منازلهم حتى لا تنهار. ثم اختفى المشهد منطفئا. لكنه ترك بمكان اختفائه سيلا من المعلومات لم يعرف الطبيب إن كانت تنبثق من أعماق ذاكرته أم ترشح من تداعيات غرابة اللحظة.

>{>

أخذ جالسا وراء مكتبه الصغير ومن خلفه النافذة المسدلة عليها ستارة دانتيلا سماوية اللون يلهث.. كما لو كان مُفلِتا للتو من مطاردة مسعورة. وكان سيل المعلومات ينهال عليه كمطرٍ دافئٍ غامِر .. إذن هذا هومُسعد.. وهذه هى السملات! مُسعد خليل الشرقاوي.. شاب فى الثانية والعشرين.. متين البنية فى تناسق جميل.. أسمر طيب الملامح..يوحى بقوة وفتوة مُشعتين.. ومع ذلك يفيض بخجل وكأنه صبى شاحب فى العاشرة. هاهو يراه لأول مرة فى العيادة الخارجية بالمصحة. يسأله مم يشتكى أو لماذا يلجأ إلى العيادة؟ ينبس مرتبكا ببضع كلمات مبهمة وفى خفوت. عندئذ تتولى أخته دفة الحديث متقدمة من الطبيب فيما يتوارى مُسعد خلفها. أخته تكبره بثمانى سنوات لكنها تبدو كأمه. ليس بمظهرها ولكن بحنو روح الأم الذى تشمله به. تتكلم.. وهو يومئ مؤكدا ماتقول.

تفيد أن شقيقها أُسطى بَنَّا درجة أولى ورياضي.. بطل المحافظة فى الملاكمة لوزن المتوسط. فى التدريب والمباريات الودية يكون الأفضل. أما فى البطولات فيخسر لأنه ما أن يوشك على إنهاء المباراة لصالحه بالضربة القاضية حتى يتجمد. وينتهز خصمه الفرصة ويضربه بانتقامٍ مسعور فينهزم. بعدها تنهار نفسه.. لايأكل ولا يشرب ولا يذهب إلى شغله.. يومين.. ثلاثة.. أسبوع.. ولا يرجع لحالته إلا بالمحايلة منها ومن مدرِّبه وزملائه فى فريق المحافظة. يسأله الطبيب عما إذا كان ذلك صحيحا فيجيب مومئا بالموافقة. ويُطرِق متلفتا كما لو كان يبحث عن شيء ضائع عند قدميه. يسأله الطبيب عن سبب تجمده ذاك فيتلعثم مجيبا إنه .. إنه يخاف .. يخاف أن تكون ضربته قاتلة.. يخاف أن يصير قاتلا. لا يعرف الطبيب لماذا دخل هذا الشاب قلبه مباشرة. يشغفه كإنسان وكحالة فيتابعه بعيدا عن العيادة. يمر عليه فى الأماكن التى يبنى فيها البيوت وينسحر ببراعته فى البناء بإتقان وسرعة. يبنى كأنه يواكب لحنا إيقاعيا راقصا فى داخله. ويحضر بعض المباريات الودية التى يخوضها فيفتنه بالملاكمة التى صارت معه فنا جميلا. جميلا جدا. يٍذكِّره تقافزه الرشيق وتفاديه المرهف لضربات الخصم بأداء أسطورة الملاكمة محمد على فوق الحلقة. يرف ويداور كفراشة. لكنه يلمس بضرباته ولا يلسع. لمسات صائبه خاطفة تسجل له نقاط الفوز دون أن تؤذى متلقيها. يُدوِّخ منافسه. بل ينهكه. وفيما يكون طريق الضربة القاضية مفتوحا أمامه.. يتجمد. يتحول إلى تمثال من الشمع. وينتهز منافسه جموده فيغمره بسيل من اللكمات يجمده أكثر..أو يلدغه بضربة قاضية فى الرأس توقعه أرضا. ينهزم. ويكتئب.

>{>

تبدو الصور المصاحبة للمعلومات المتعاقبة على ذهن الطبيب فى غرفة المكتب ملتبسة. قوة سطوعها تقول إنها تحدث فى التو واللحظة. والمنطق والحساب يقولان إنها آتية من مبعدة أربعين سنة مضت. وهاهو يبدأ رحلة علاج مسعد مستبعدا الأدوية. يناقش معه إمكانية ترك الملاكمة إذا كانت تعود عليه بكل تلك المعاناة فيبكى بكاء صامتا غزير الدموع. يدرك أن الملاكمة متعة مسعد الأصفى فى الحياة. لايمارسها لقهر خصم بل ليشبع جسده ببهجة الحركة مقابل جسد يحاوره ويناوره. شيء مثل القتال الطقسى عند الحيوانات والأطفال. جزء طفولى مكث معه بعد العشرين. يتجلَّى فى قفازات لعبة التى اختار لها لون حمرة الورد وبرباط معصم مُذهَّب. ورد أحمر وذهب أصفر! خيال طفولى فى لعبة عنيفة كالملاكمة! ولعل هذه الطفولة الباقية فى مُسعد كانت سر تعلق الطبيب به. يتفق الطبيب مع مدرب مُسعد أن يحضر تمريناته مع زملائه فى الفريق بينما يجهزه بجلسات علاج نفسي. يطبِّق معه قبل التدريب وخلاله وبعده طريقة العلاج بالتعرض للمثير ومنع الاستجابة المرضية ERP. يُعرِّضه لما تدور حوله أفكاره الوسواسية وتجعله يتجمد فى اللحظة الحاسمة.. ويحفزه فى تلك اللحظة ليتجاوز رد الفعل الوسواسى وينتصر. كان مُسعد محبوبا من مدربه وزملائه فأبدوا تفهما وتعاونا جعلا التفاؤل بالعلاج عظيما. صار مسعد فى أحسن حالاته. وبدا خوضه لأولى مباريات البطولة بعد جلسات العلاج ــ التمرين ..واعدا..

انضم الطبيب إلى طاقم تدريب مسعد ليكون أقرب مايكون منه لصق الحلبة. وكانت إشارة تجاوز رد الفعل الوسواسى فى المواجهة هى « كمِّل «. « كمِّل» يصرخ بها الطبيب لحظة يوشك مسعد أن تجمده مخاوفه الوسواسية. تبدأ المباراة ويتجلى مُسعد متفوقا على منافسه كثيرا وطليقا بشكل ساحر. لكن ما إن ينفتح المجال أمامه لضربة قاضية حتى يوشك على التجمد. ويسرع الطبيب بالصراخ عاليا « كمّل». صرخة جعلت الطبيب يستغرب أن لديه هذا الصوت الراعد. صوت كأنه هبط عليه من المجهول ليشق طريقه إلى سمع مسعد مغالبا مئات أصوات الصارخين حول الحلبة. وكأن الصرخة ضغطة زناد أطلقت رد فعل كالبرق من القبضة الحمرا مذهبة المعصم..» كمِّل» وبسرعة رصاصة أكمل مسعد وضرب. وليته ماضرب!

أصابت اللكمة وجه المنافس وسقط أرضا. راح الحكم يعد عليه لكنه لم ينهض بنهاية العد. وعندما نهض مُترنحا كان وجهه غارقا بالدم النازف من أنفه وفمه. ارتاع مسعد. وعندما أمسك الحكم بيدى اللاعبَيْن ليرفع يد مسعد معلنا فوزه بالقاضية.. لم يجد اليد. كان مسعد قد تهاوى على قدمى المهزوم ناشجا يرجوه ألا يموت. ألا يموت. حط على المكان صمت مُطبَق. وفى ذلك الصمت انحنى الحكم واللاعب المهزوم النازف ليُنهِضا مُسعد من انكبابه الأليم. لكنه لم ينهض بل هوى على جانبه ملموما على نفسه فى تقلص. دخل فى الوضع الجنيني. آخر مُحاولة لهروب إنسان مذعور من رعب هائل يحاصره. يلجأ إلى حِصْن الحماية المطلقة الأول. يعود جنينا إلى رحم الأم الغائب فى الواقع المادى والحاضر أبدا فى طفولة النفس! « ما هم إلا أطفال ذوو هشاشة داهمهم العمر وغِلظة الواقع الطاعن فى الخداع والبلادة والقسوة فانهاروا « ظل الطبيب على امتداد أربعين عاما من عمله يصف مرضاه النفسيين الذين يسقطون فى بئر الذُهان بذلك. لم يرهم أبدا « مجانين» بل مجرد أطفال كبار مساكين يحتاجون الدعم والمؤازرة.


كان مؤمنا أن لا مجانين فى المصحات النفسية فالمجانين الحقيقيون طلقاء يًمارسون شرورهم دون واصمٍ ولا رادِع. سيكوباتيون كبار ومجانين عظمة ونرجسيون مسمومون لايكفيهم الافتتان الجنونى بذواتهم بل يقهرون محيطهم ليتحمل التكلفة الباهظة لهذا الافتتان. طاف كل ذلك بعقل الطبيب المصدوم بانهيار مسعد على الحلبة برغم انتصاره بالقاضية. أدرك أنه فشل فى علاجه النفسى السلوكى. ومهزوما خضع لما كان يرفضه من علاج النفس بالعقاقير. وصف لمسعد أقراص «أنافرانيل».

مضت الأسابيع الثلاثة التى يبدأ فى أعقابها ظهور فعالية الأنافرانيل ففُجِع الطبيب. حل الانتعاش الزائد محل الاكتئاب الوسواسى أو الوسواس الاكتئابى. بل لامس هياج الهوس العقلى. وفى ليل ذلك الهوس جافى النوم مُسعداً. انطلق يدور مُسهَّدا فى العتمة. يحمل كشافا صغيرا وأجنة حديدية. يمر على البيوت التى بناها والتى لم يبنها ويقرفص عند سفولها ويحفر. يريد التأكُّد إذا ماكانت الجدران قائمة على سملات من البناء أو من الخرسانة. سملات تحتمل ثقل جدران الطوابق الأولى وما تحمله من سقوف أو طوابق فوقها وبشر تحت هذه السقوف وفى تلك الطوابق. سملات تحمى تلك الجدران الحاملة من الهبوط فى الأرض الرخوة والتصدع ثم الانهيار على رءوس من فيها. يتكرر عثور أصحاب البيوت على مُسعد وهو فى هذا الوضع المريب يحفر تحت بيوتهم. بعضهم يعرف ماحل به فيتركه يمضى مُشيَّعا بالاستغراب والأسى. وبعضهم لايعرفه فيبادره بالضربات وهو منكفئ يحفر. ويستسلم مسعد بطل الملاكمة الموهوب للضربات العمياء كأن لاحول له ولا قوة فيه. يتهافت قوامه النضر الممشوق كأنه ذبل وتهدل فى لحظات. ثم يلتم على نفسه كجنين فى بطن أمه. وتعرف أخته الأم بما يعصف به فى الليل. تتعقبه لتدركه لحظة يتكالبون عليه. تبكى وتصرخ راجية أن يتركوه فهو مريض. تكرر أنه مريض متحاشية أن تكمل. وأخيرا تنطقها.. إنه « مريض نفسي». فيكف الضرب ليبدأ وصمُه بالجنون.

 

>{>

الطبيب النفسى المتقاعد الذى اعتنق منذ بداية عمله نظرية « تعدد السوية». النظرية التى تقول بأن البشر مختلفون ومهما بدا فى اختلافهم من شطط فإنهم يظلون أسوياء ماداموا لايُضِرون أحدا. لم ير مُسعد مجنونا أبدا. لم يره إلا إنسانا مختلفا فائق الحساسية فائق الغيرية فى واقع مُعاد للحساسية ونابذ للغيرية. لم يره إلا طفلا فى الثانية والعشرين به هشاشة وحوله غلظة تحتم حمايته ودعمه وتدريبه على الاحتمال. لم ير الطبيب لمُسعد علاجا إلا أن يَكفَّ عنه الأذى. وجد نفسه مضطرا لاحتجازه فى القسم الداخلى البائس ليحميه مما هو أشد بأسا وبؤسا. يحميه من جلَّادى الليل ومن جوع النهار. مسعد لم يعد أحد يُشغِّله بعدما شاع أنه مجنون. ظل يقسم أنه فى جولاته الليلية اكتشف مئات البيوت بلا سملات تحت جدرانها. وأن هذه الجدران ستهبط فى الأرض الرخوة وتتصدع. وتنهار بتصدعها ماتحمله من بيوت. ووضح للطبيب حينها أن أصحاب تلك البيوت كانوا مسعورين فى ضربه لا لترجيحهم أنه لص. بل لأنه كان يصدمهم بحقيقة بيوتهم المُشيدة على تراب. والتى ستدفنهم تحت أنقاضها..

مُسعد لم يكن مجنونا.. أبدا لم يكن مجنونا.. لم يكن مجنونا أبدا. أخذ الطبيب يردد ذلك فى غرفة مكتبه بصوت مسموع وقد أججته التداعيات التى انهمرت عليه. كان يصرخ بصوتِ مفزوعٍ ومُفزِع. وأفزع ماترامى من صوته زوجتَه فأقبلت هلعة. ضبط نفسه أمامها بإشفاق عميق عليها. يطمئنها مرددا أن لا شيء.. لاشيء.. فقط هو يتذكر مريضا لابد أنه حكى لها عنه. تعوَّد أن يحكى لها كل مايراه وما يواجهه من غرائب عمله حتى باتت تعرفُ كل حكايات مرضاه ويثق فى حفظها لأسرارهم. بل كانت تتعاطف معهم وتحبهم كما يتعاطف هو ويحب. سألها وهو يتماسك إن كانت تتذكر حكاية الشاب «مسعد».. «مسعد البنَّا».. «المُلاكم».. الحكاية التى لابد أنه حكاها لها؟ ردت متحيرة.. إنها لاتتذكر. أخذ يحكى لها عنه بكل التفاصيل التى كانت ماثلةَ بين يديه من لحظات. وكررت وإن بصوت خافت.. إنها لاتتذكر.. ستحاول أن تتذكر!

>{>

لم يتقدم أحد ليفكك كومبريسور التكييف «اللعين» كما أخذ يصفه الطبيب. حتى بعد أن أعلن أنه يقدمه هدية دون مقابل لمن يأخذه. بل أكثر من ذلك لوَّح بأنه سيدفع لمن يفككه ويأخذه. لم يقل فى الإعلان أنه يعرض ذلك امتنانا لمن ينقذه من لعنة هذا الكومبريسور المُهيأ لقتل إنسان أو عدة من البشر عندما يسقط. لكن يبدو أن غرابة الإعلان أثارت الريبة وأطاحت بأى تجاوب معه. بات الطبيب يخشى أن ينام حتى لايُفاجأ بهذا « اللعين» يسقط على رأس ساهر يمر تحته فى الليل. وفى النهار لم يعد يستطيع البقاء فى البيت كيما لا يباغته هذا « اللعين» بالسقوط وسحق إنسان تحت ثقله. وياويل أن يكون هذا الإنسان طفلا أو طفلة. هو الذى لم ينعم بالأبوة كان يذوب حنانا على كل طفل يراه. وامتد حنانه للحيوانات التى يرى فيها فطرة طفولية على نحو ما. كان يربى منها فى بيته كلبين وثلاث قطط وبضعة عصافير دورى كانت تلجأ لقفص مفتوح وضعه هو وزوجته فى شرفة المنشر. كانا يزودان القفص بالحبوب والماء لتأكل «عصافير الشوارع» وتشرب. وأنِست تلك العصافير البرية للقفص والشرفة وصاحبيها فاستوطنت المكان!

مع مرور الوقت بطيئا ثقيلا قاسيا والكومبريسور « اللعين « فى مكانه راحت أفكار مرعبة تتجسد للطبيب صورا دامية للضحايا الذين سيسحقهم ذلك اللعين. هل هى كوابيس يقظة أم هلوسات تنبئ عن قرب ذهاب العقل؟ ظل الطبيب يسأل نفسه فى وجل. يتشبث بأنه ليس مريضا لكنه لايستطيع المكوث فى البيت وهو ينتظر وقوع كارثة يعجز عن منع حدوثها. وما أن تصعد الشمس قليلا حتى يهج للخروج. تتحير زوجته فيما أصابه. وهو يكتم مابه حتى لايفزعها. هى لم تعد مجرد زوجة منذ انكسارها عندما تأكدت أنها لن تنجب. صارت إبنته الوحيدة والأحب بأعمق مايستطيعه من حب. وهو الآن لا يستطيع أن يؤذيها بما يدور ساحقا فى داخله. كان يختلق أمامها شتى الذرائع ليبرر ابتعاده عن البيت لأطول وقت ممكن. لم يكن يريدها أن تكتشف هلعه حتى لا يُعديها بهذا الهلع. ومن الضحى حتى الغروب كان يظل يدور بلا هدف فى الشوارع ناظرا معظم الوقت إلى فوق. إلى حيث تُلطِّخ صناديق رعبه العام واجهات العمائر والأبنية. وكان ذهنه يتحول إلى صندوق رعبه الخاص عندما يعود إلى زوجته قبل حلول المساء. يعرف أنها لن تتناول غداءها بدونه وستظل تنتظره حتى يرجع. وعلى الطعام كان يغالب نفسه ليبدو أمامها أنه يأكل.. بينما الرعب يأكله.

وبلا ارادة منه صار وهو فى نوبات طفشانة فى الشوارع هربا من شؤم كمبرسوره لايرى إلا شؤم كل الكمبروسرات المعلقة فى الأعالى. بصعوبة كان يمنع نفسه من الصراخ فى الناس حتى لايمروا تحت نذير هذه الصناديق القاتلة. لكنه لم يستطع منع صراخه كلما رأى أطفالا بصحبة ذويهم يقعون فى دائرة ذلك القتل المتربص فوقهم. كان يصيح فى ذويهم أن يبعدوا أطفالهم فورا عن مواقع السقوط المحتمل لهذه الصناديق الطنانة القاتلة. كان يُفزع الأطفال ويثير حنق ذويهم. وأضحى يُشار إليه دون أن يدرى كأحد المجانين فى منطقة «وسط البلد». يدور فى شوارعها الملتفة ويعاود الدوران.. مفزوعا.. ينشر الفزع.

>{>

لأنه بات يقاوم أن تخرج زوجته معه لتهدئه بعد أن عرفت ما يحدث منه فى الشوارع. ولأن مقاومته لذلك بدت لها قاطعة وأنها إن أصرت ستثير فيه ما تهجس به وتخافه أشد الخوف. آثرت أن تجهز ثياب خروجها لترتديها على عجل فور خروجه وتتبعه. تتعقبه على مبعدة لتحرسه ــ لاتعرف مما تحرسه ــ دون أن يكتشفها وراءه. ومن تلك المبعدة كانت تبكيه فى صمت. تسيل دموعها على وجهها وهى تراه يطوِّح يديه نحو واجهات الأبنية حيث تتعلق كمبورسورات أجهزة التكييف المتكاثرة. تتوارى عند الزوايا مقتربة منه فتسمعه يصرخ محذرا مَن حوله مِن صناديق الموت المعلقة فوق الرءوس. كان الماشون فى تسكُّع يضحكون منه أو يُبدون دهشتهم. وكان العجولون يتجاوزونه فى استغراب. وكان يتوقف بغته رافعا رأسه بتشنج وممعنا النظر إلى كمبوريسور بعينه. ثم ينفجر فى نوبة من هياجٍ يُبعد الناس عن البقعة التى يتوقع أن يهوى عليها هذا الكمبروسر الموشِك على السقوط.

وفى نوبة من تلك النوبات كان زوجان شابان يصطحبان طفليهما ويدخلون فى إحدى دوائر ذعره. بنت فى نحو الرابعة وشقيقها يكبرها بنحو عام. انفجر فى الأبوين يصيح ويهش بيديه آمرا أن يُبعدا الطفلين فورا عن بقعة الخطر.. فورا.. فورا..فورا.. أخذ يصيح فى انفعال وهو يتصبب عرقا ويزيد امتقاع وجهه وتتشنج ملامحه. ولما أبدى الزوجان استغرابهما وتأخرا فى إبعاد الطفلين عن البقعة التى كان يحددها بتشويح ذراعيه ودبيب قدميه عليها. أخذ يصرخ متهما إياهما بالإهمال والبلادة.. الإهمال والبلادة. ثم هجم يحمل الطفلين معا ليخرجهما من دائرة الخطر!

كان بجسد شيخوخته الضامر أضعف من أن يستطيع حمل طفلين معا بين ذراعيه الواهنتين. وفاقم من ضعفه السهاد وإهمال الطعام والراحة. تعثر ما أن خطى خطوة واحدة وسقط بالطفلين الصارخين فزعا على الأرض. ارتطم رأس الطفل ببلاط الرصيف ووقعت أخته فوقه وهو فوقهما. وجن جنون الأب فيما كانت الأم تصرخ فى هلع. التقط الأب ابنه وناوله لزوجته وأنهض طفلته ودفعها لتلوذ بأمها. ثم اشتعل يركل العجوز الذى ظل مطروحا على الأرض. يركله فى بغضبٍ مسعور.

>{>

ظل العجوز مستسلما للركلات وقد قلص جسده منطرحا على ظهره فيما ملامحه تعبر عن الضياع. ومن خبئها الأليم أقبلت الزوجة تجرى بآخر مافى جسد السابعة والستين الضامر من رمق. ارتمت على زوجها تتلقى عنه الركلات وهى تصرخ فى الراكل أن يكف. يكف.. فمن يركله طبيب وطيب ولا يؤذى أحدا بل كان يحاول حماية الطفلين. توقفت الركلات وظلت تحتضن زوجها مرميين على الرصيف وسط حلقة من المتجمعين فضولا وأسىً وفُرجة. كان يَنْفِضْها النشيج وتغسل وجهها الدموع قهرا على زوجها الذى التم على نفسه كجنين فى حضنها. لم يكن فى هذه اللحظة إلا ابنها. ابن عمرها الطيب الحانى وهى إبنة عمره. ويمر بخاطرها فى استغراب أنها رأت ذلك المشهد من قبل.. المشهد الذى تعيشه الآن معه.. على الأرض وبين الأقدام.. رأته فيما حكاه لها يوم سمعت صوته مرتفعا منفعلا يحادث نفسه فى غرفة المكتب. عن « مُسعد «.. ذاك الذى لم تعرفه أبدا وعن أخته الأم. وعن تلك « السِمِلَّات « التى كان الأذى يحل عليه بسببها.

 


الرسوم من
Wikimedia Commons, the free media repository للفنانة الأمريكية جولى سنايدر، التى يصنفها البعض بأنها»تعبيرية» الأسلوب، كونها تركز على تجسيد مِزاج وإيماءات ماترسمه، ويصنفها آخرون بأنها «انطباعية» لاستخدامها اللون والضوء لتركيز بؤرة الاهتمام والجذب فى اللوحة. أما هى فتصف نفسها بأنها « واقعية صَبور».

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق