تقدم لنا السينما متعة الترفيه والضحك، وتجعلنا نشعر بأننا أكثر إنسانية، وهذا ما يفعله «أحمد حلمى» فى أغلب أفلامه فدائما ما تلمح ذلك الخط الإنسانى فى معظم أعماله السينمائية، ويبدو أن هذا الخط موجود بداخله هو نفسه كإنسان، ولهذا يحاول عبر أدائه أن ينقل لنا رسائل تعتمد على الترفيه دون اللجوء إلى الإسفاف، من خلال أداء تمثيلى يسعى فيه إلى الهدف الإنسانى الذى ينقله إلى جمهوره بشكل يكاد يخلو من أى عيب.
ربما جاءت عودة «أحمد حلمى» فى فيلمه الجديد «خيال مآتة» غير متوقعة ولا تداعب خيال جمهوره الطامح إلى الضحك النابع من القلب،معتمدا فى ذلك على المنهج «البريختى»، الذى لم تستسغه الذائقة الفنية العربية بعد، وهو ما أصاب الجمهور بخيبة أمل إذ تأتى غالبية مشاهد الفيلم عبارة عن علامات استفهام تبحث عن إجابات محددة، وربما ما زاد من «خيبة الأمل» تلك، أن الفيلم جمع باقة من الممثلين المميزين بمواهبهم الكوميدية، مما أوجد توقعات كبيرة لدى الجمهور لناحية التمتع بكوميديا مثيرة للضحك، لكن الجمهور يصاب بالإحباط جراء اقتصار الفيلم على بعض «إفيهات سريعة» موزعة على مدى ساعتين من «الملل الذى قد يستدعى النوم» .
فكرة «خيال مآتة» فى حد ذاتها تبدو جيدة، وكان يمكن من خلالها عمل سينما مختلفة، لكن السيناريو والإخراج فشلا بعد عشر دقائق من الإيقاع السريع فى البداية، فى الإجابة عن التسأولات التى كان ينبغى أن تجيب عنها الأحداث فيما بعد،لكن سرعان ما فقدت تلك الأحداث بريقها، بعدما غلب على المشاهد بطء واضح فى الإيقاع يصاحبه نوع من الملل، وهذه أكبر نقطة ضعف فى الفيلم، خاصة فى ظل حوار يبدو عاديا، وجاءت الإفيهات تقليدية، ويبدو أن «عبد الرحيم كمال» كان ينبغى أن يستعين بأحد كتاب الكوميديا لتقوية هذا الجانب.
تقنيات وأفكار غير جذابة تم استخدامها فى ثنايا السيناريو، لأنها على مايبدو كانت الأسهل من وجهة نظر المؤلف والمخرج، ولهذا جاءت بشكل متسرع وغير فعال، فلا هو فيلم سرقات، ولا كوميدى رومانسى، ولا حتى دراما عائلية، بل يعتمد على الافتراضات غير المنطقية، ومن ثم لايعتمد على أى نوع من الحبكة التى تميزه، وأدوات الكوميديا متكررة، ومن هنا كانت دائما تقع فى خانة الابتسامة المملة، رغم أن المخرج خالد مرعي، عمل من قبل مع حلمى فى «عسل أسود» و«آسف ع الإزعاج» و«بلبل حيران»، ضمن المعادلة التقليدية التى هيمنت وبنجاح على أعمال «حلمى» حتى اليوم، والتى تتلخص فى الكوميديا المبنية على سيناريو واضح فى معالم تسلسله القصصى، وأسلوب الكوميديا الذكية والحاذقة، لكن ما حدث فى «خيال مآتة» مختلف فى عدة جوانب، ففى الوقت الذى ينغمس المشاهد بالبحث عن بدائل وحلول لما نجابهه اليوم من تخبط فكرى وسياسى وعلى جميع المستويات، يواجهنا الفيلم بواقع يفيد بأننا أصبحنا محكومين بضبابية فى الرؤية وضياع فى تمييز المعنى والهدف.
قصة الفيلم غير مشوقة حتى لو تم التلاعب بالزمن بالانتقال من الحاضر للماضى والعكس، وأيضا لم يقدم الكاتب أى عمق للشخصيات، بما فيها شخصية البطل، بمعنى أنها لا تتصاعد فى نسبة تشويقها نحو أى ذروة فى السياق العام للفيلم، أوحتى وصولا إلى نهاية تحقق الرضى الكامل للمشاهد، وربما حاولت القصة خلق هدف نهائى يميل إلى التعاطف مع اختيار مواجهة من هم ضمن الحلقة التى «تهيمن» اليوم على هويتنا، ويقصد بذلك «الكيان»، أى المنظمة التى تستولى على تراث بلادنا من مجوهرات ثمينة تبيعها لمن يدفع أكثر؛ وأيضا «القيصر» أورجل الأعمال«المافياوي« المهووس بزوجته «الخواجية» الشقراء عبر وضع «بروش» أم كلثوم على صدرها؛ وأخيرا الأمير الخليجى الذى لا يهمه من اقتناء البروش أكثر من مراكمة ألعابه، وولعه الصبيانى فى اقتناء كل ما يحلو له. وعلى الرغم من الفشل من جانب المؤلف والمخرج فى التعامل مع القصة، إلا أن أداء «أحمد حلمى» لشخصية «يكن» فيه قدر من البراعة فى التجسيد على مستوى الصوت، والحديث بهدوء وبطء، حتى يخال أنه كان يستخدم مؤثرات صوتية، فضلا عن لغة الجسد المعبرة ولقد نجح فى تغير ملامح الوجه فى غلق عينه وغلق وفتح فمه، وحرك جسده بطريقة احترافية، لكن حلمى ركز للأسف - فى تجسيده لشخصية «يكن» على نحو جعله ينسى بقية شخصيات الفيلم.
كما يبدو أن المكياج كان من أفضل العناصر الموجودة فى الفيلم، خاصة فى تصميمه الجيد لشخصية «يكن»، وكذلك الحال مع الموسيقى التصويرية لـ «خالد داغر»، التى كانت من أجمل عناصر الفيلم، فقد حافظ «داغر» بحساسيته ودقته على مستوى وإيقاع الموسيقى على مدى أحداث الفيلم، سواء فى المشاهد الكوميدية أو الحزينة على جناح من التنوع والتوازن الدقيق للغاية.
كما ظهر الديكور من حيث الأماكن والمبانى بطريقة مبهرة ، وكذلك الملابس التى كانت مبهجة، فضلا عن تصوير جيد أعقبه مونتاج «خالد سليم» الذى خفف فى بعض الأوقات من العيوب التى اعترت هذا الشريط السينمائى فجعله فوق المتوسط بقليل، خاصة تقديمه صورة جيدة لزمن مضى عليه ستون عاما.
الإخراج لـ «خالد مرعى» يبدو فى مجمله بسيطا إلى حد مخل،كما أنه غير مناسب لبعض المشاهد، فقد كان هناك تغير فى حجم اللقطات بطريقة غير مريحة للعين، بحيث قدم لنا مرعى «بكينام» التى كان يحبها »يكن« فى صغره من ظهرها ولم يكشف أبدا عن وجهها حتى على سبيل المفاجأة فى نهاية الفيلم، لكن هذا أيضا لم يحدث، أيضا أسلوبه فى معالجة طريقة قلب علبة «البروش» أمام القيصر قبل النهاية غير منطقية وغير مريحة للعين، وفيها قدر من السذاجة التى لا تقنع المشاهد بقدر ما تثير استياءه، كما لم يستغل المخرج للأسف إمكانات «خالد الصاوى»الذى لديه قدرة على أداء أى شخصية ثقيلة بتركيبتها وتعقيداتها النفسية بقدرمن البراعة والقوة والاحترافية، وكذلك الحال مع «عبد الرحمن أبو زهرة ولطفى لبيب ورشوان توفيق وأنعام سالوسة»، وهؤلاء لديهم طاقة فنية جبارة لم يتم استغلالها على النحو المطلوب، فقط كان «حسن حسنى» ممتازافى دوره وتتعاطف معه إلى حد كبير على قصر مساحة الدور فى الفيلم.
لكن فى «خيال مآتة» وضع «حلمى» نفسه فى تحد أقوى من كل تحدياته فى «كده رضا، وعسل أسود، وآسف على الإزعاج، وإكس لارج، وغيرها من تجارب احترافية سابقة»، وصحيح أن حلمى قدم أربعة من أفلامه الأخيرة بمستوى لايليق بإمكاناته كممثل كوميدي، لكنه متجدد ومغامر، ويستطيع أن يختار موضوعاته، وظنى أنه سيعود سريعا كى يقدم أفلاما جيدة بذات المستوى الذى قدمه من قبل.. فرفقا بموهبة أخطأت طريقها هذه المرة!.
رابط دائم: