بمجرد أن تلمحنى - بطرف عينها - داخلا من باب المحل وبيدى كيس القماش الجديد، حتى تسرع لتأخذه منى وتفرد قطعة القماش على ترابيزة التفصيل التى تسميها «البنك». تتحسسها بطرفى السبابة والإبهام مختبرة جودتها، تبدى إعجابها بالخامة، ثم تمسك «المازورة» وتشرع فى أخذ مقاسى. تلف «المازورة» حول خصرى، وتكتب الرقم على القماش بالطباشير الأبيض.
تضع طرف المازورة أعلى الحوض وتترك بقيتها ينساب على نصفى الأسفل، تنحنى دفعة واحدة وتلتقط «المازورة»، تكتب مقاس الطول، ثم تلفها حول محيط فخذى وتكتب.
ألاحظ أنها كتبت مقاس محيط الفخذ، وأضافت من عندها عرض فتحة القدم دون أن تسألنى عن المقاس الذى أفضله، أبتسم لذاكرتها القوية، دون أن تبدى إحساساً ما.
أحاول ألا أبدى حراكا، وأتابع عينيها اللتين لا تنحرفان أبدا عما تفعل.
ترفع وجهها نحوى فجأة وتسألنى إن كان «الحجر» مريحا عند هذا الحد أم تُزيد من اتساعه، فأترك لها أن تختار ماتشاء.
تطوى القماش بعد أن تكتب اسمى بالحروف الأولى عليه وتعود سريعا إلى البناطيل الرجالى المقصوصة تستأنف «تسريج» أطرافها وهى واضعة ساقا فوق ساق، والكستبان يغطى طرف سبابتها. فقد انتهى دورها عند هذه المرحلة مبدئياً، وعليّ أن أنتظر صاحب المحل حتى يعود ويحدد لى موعد الاستلام.
أتابع حركة يدها السريعة كماكينة سرفلة وهى تخيط أطراف القماش المقصوص. أبحث فى جسدها عما ينتمى لعالم النساء ولا أجد سوى شعر مقصوص عند حلاق رجالى حرص على أن يجعل السوالف موازية لطرف شحمة أذنها.. وحذاء رجالى مقاس 43، وبنطلون رجالى جبردين منساب عند الحجر بحرية، ومتسع عند الأفخاذ.. مكوى بعناية، وقميص رجالى بياقة عريضة مدببة الطرفين، وحزام يحكم التقاء القميص بالبنطلون، حتى صوتها لا يشك سامعه فى أنه –حتما - لرجل بالغ يدفع البلغم الكثيف من صدره بقوة.
سمعت أن أمها كانت تخون أباها مع آخر وذاعت فضيحتها، فتركت نبت خطيئتها الطفلة «رجاء» عند باب مسجد وهجرت المدينة كالمعتاد. «رجاء» رباها شيخ المسجد بين أطفاله الذكور وألبسها ملابس الصبيان حتى باتت واحداً منهم، تلعب ألعابهم وتسلك مدارجهم، ولم يعد لها علاقة بعالم البنات.
وقيل إنها صعيدية خلفت عالم النساء وسعت وراء قاتل أخيها، وأتقنت مسوح الرجال حتى لا يعرفها القاتل.
وقالوا إنها كانت تحب شابا فى مقتبل حياتها وأخطأت معه الخطأ الذى لايغتفر وحنث بوعده لها، وعقابا لنفسها قررت أن تنسى عالم النساء وتجتث ما يصلها به مطلقاً.
كان هذا قبل أن ينغلق محل الترزى الذى كانت تعمل عنده ويتحول إلى كافتيريا، ولم تجد من تزاول عنده مهنتها المحببة، فقررت أن تقوم بتفصيل الملابس الرجالى فى بيتها، بعضنا خجل من أن يذهب إليها وبعضنا اجتنب الشبهات، فبارت مهنتها واشترت «تروسيكل» لنقل البضائع بين المحال والأسواق. تعلمت القيادة واشترت نظارة شمس عريضة ماركة «برسول»، وراحت وجاءت بحرية.
كف الباحثون عن حقيقتها وباتوا يتعاملون معها بوصفها واقعًا، تعلق فى فضاءٍ تراوح بين العتمة والضوء، وأخرج منى ابتسامة وأنا هناك لتوديع أختى عند الساحة التى حددتها شركة السياحة لتجمع الذاهبين لأداء فريضة الحج، كنت أبحث عن أختى بين الجماعات المتحلقة، ولم يكن الليل معينا لعثورى عليها بسهولة، لكنى رأيت الأسطى «رجاء»، تجلس فى الأتوبيس وحدها تتأمل المودعين من وراء زجاج النافذة، بجلباب أبيض ناصع وطرحة بيضاء مطرزة بالقصب اللامع، مشعة تؤطر وجها رائقا مشربا بالحمرة، أضفى عليه العمر مسحة من وقار أثير. حدقتُ فيها فابتسمت بصفاء، ثم راحت تلوح لى بحماس وحرارة وابتسامة حزينة، كأنى جئت لتوديعها هى.
رابط دائم: