رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

تصريح لزيارة الجدة

محمد إبراهيم طه

ثلاثةُ وعودٍ لم تكن كافية ليتوقف الولد الصغير عن البكاء، ويمسك «التابلت» بيده بعد أن كان رافضا فى البداية، ويتمعن فى صورة باسمة ينظر فيها نحو الكاميرا بألق وقوة، ويفك تقلصات وجهه وهو يحدق فى الصورة المأخوذة له عن قرب حيث لمعة العينين واضحة، وشعرها الأسود الناعم مموج.

الولد الذى ظل يبكى طوال الطريق من أجل العودة،أخرج له الأب «التابلت» وقال: «بص يا سيدى كده» وفتحه على الصورة التى تملأ خلفية الشاشة، ووعده حين يصلان بأن يضع به شريحة كى يكلم جدته، وسيشحن له باقة كى يفتح النت، وينشئ له حسابا على فيسبوك ليتواصل مع أصدقائه الذين سيتعرف عليهم.

ثلاثةُ وعودٍ لم تكن كافية ليكف الولد عن البكاء، ولا أن يلاحظ الأب أن الولد الصغير خائف من المشوار أكثر مما يريد العودة إلى جدةٍ كانت معترضة على فكرة الذهاب، لذلك غافلها وخرج به وهى نائمة، وهو ما جعله يضيف ثلاثة وعودٍ أخرى بأن يُرَكِّبُه المترو، ويجيب له بيتزا، وعندما نصل إلى هناك، سنجد «محمد رمضان» فى انتظارنا، كى يسلم عليك يا سيدى ويعطيك هدية، مبسوط؟ ثم لمس بإصبعه الشاشة فأتت صورة محمد رمضان التى يفرد فيها ذراعيه على مجموعة أطفال يضمهم فى حضنه ويبتسم، من فوقهم بالونات كثيرة، وعلى الجدران من خلفهم طيور وزرافات وغزلان وأحصنة، فقال له « شُفت يا سيدى.. أحسن كنت فاكرنى بضْحَكْ عليك» لكن الولد الذى سكت، ترك كل ما فى الصورة وأشار مستفهما عما فى أكف الأطفال القابضة على علب الهدايا، فقال:» كانيولات زى اللى كانوا بيركبوها لك فى مستشفى الأطفال التخصصى عندنا، لكنهم هنا يثبتونها بلاصق ملون.

رضخ الولد حتى توقف الميكروباص وهمَّ الركاب بالنزول، فأزاح «التابلت» نحو الأب،واستأنف البكاء وقال إنه يريد العودة ليسلم على جدته فقط ثم يعود، فسأله الأب إن لم يكن رآها وهم خارجون، فقال إنها كانت نائمة، وكان الأب قد خرج به مع قرآن الفجر، وكان هذا وقت استيقاظ الجدة،فأمسك الولد المتململ من كفه ودخل به عنوة محطة «كلية الزراعة» قائلا: «طيب لما أفرجك على المترو» وصعد به السلالم الكهربائية، ورأى الولد بعينيه الرصيف الواسع والقطار القادم بسرعة يقف وتنفتح أبوابه وحدها، فركب مع الأب الذى أشار إليه أن يمسك مثله فى المقبض النيكل، وتراجع الولد عن الشروع فى البكاء حين رأى الرصيف يبتعد بالناس، والقطار يسير فى نور الصباح حتى دخل فجأة فى ظلمة محيطة، فلم يصدق أنهم تحت الأرض إلا حين خرج القطار إلى النهار مرة أخرى وسار بين البيوت بينما يتأمل بعينين مفتوحتين على اتساعهما ركابا يمسكون هواتفهم، ويتكلمون، وهم يصعدون وينزلون بسهولة، والولد الذى أحب المترو، لأنه يسير تحت الأرض كان قد تأكد فعلا أن هناك سلالم كهربائية،فوعده الأب بتكرار ركوب المترو ما دام شاطرا ولا يعيط، وسأله إن كان المترو أفضل أم الميكروباص، فقال إن المترو ينتش الواحد ويرجه، لكنه لا يجعله يدوخ أو يستفرغ، وخارج المحطة الكبيرة المكتوب عليها «السيدة زينب» أشار الأب إلى توكتوك وهمس فى أذن السائق، فسار بهما قليلا وحين لمح الولد على البعد الكرة الزجاجية الكبيرة الخضراء.

تذكر المكان الكبير الذى كان قد رآه على التابلت منذ قليل، فعاود البكاء متوسلا: «عايز أشوف جدتى» فساور الأب قلق، وتساءل كيف أن الجدة التى تشعر بدبة النملة لم تشعر بهما وهما يخرجان، رغم أن الولد تلكأ أمام حجرتها وبكى إلى أن جذبه الأب وخرجا، وكان هاتف الأب يرن بإلحاح لكنه لا يستطيع الرد لانشغاله بإجراءات الدخول، ولما حانت الفرصة، انتحى جانبا وفتح الهاتف، لكن صوته اختنق فجأة، واستند برأسه إلى الجدار، ولم يعد قادرا على حبس الدموع.

فى طريق العودة نزل الرجل من التوكتوك، ودخل محطة «السيدة زينب» حاملا على كتفه الولد ذا الطاقية الفوشيا التى تغطى أذنيه، وفى المترو أمسك الحلقة البلاستيكية بيد، وسندبالأخرى ظهر الولدالذى صار عزوفا عن السلالم الكهربائية والمترو الذى يسير تحت الأرض، والبيانو والقطار بالبطارية والبالونات والصورة المتألقة والمأخوذة عن قرب فى خلفية الشاشة،ولم يعد يدخل مجموعة الأصدقاء الذين يتشاركون صورهم الجماعية مع الأسطورة، ويشيرون إلى أنفسهم بالترتيب من اليمين أو الشمال وهم مبتهجون لأنهم قابلوه بعد أن لاحظ أن الذين لم يقابلوا محمد رمضان لم يعودا يدخلون «الجروب» وإن كانت صورهم وحساباتهم موجودة، وبها آيات قرآنية، ورغم أن للولد حجرة مكيفة فى المكان ذى القباب الزجاجية الخضراء، بها حمام ولها رقم يغلب على جدرانها الفوشيا، وعلى أرضيتها رسوم مبهجة، وعلى بابها اسمه واسم الطبيب الذى يمر عليه كل يوم، فإن محمد رمضان لم يسلم عليه، رغم أنه مكث فى الحجرة أكثر من شهر عرف خلاله مصطلحات طبية أكثر بكثير من تلك التى عرفها فى مستشفى الأطفال التخصصى فى مدينته الصغيرة، ذلك الذى أهداه فيه عشية التحويل رجل غريب هذا التابلت وجعل من صورته خلفية للشاشة، وقبَّلَهُ من يده، بينما الولد الذى مكث فى حجرته شهرا دون أن يرى محمد رمضان قال إنه يريد أن يسلم على جدته، لكن أباه قال:

ـ ولو «الأسطورة» جه وسأل عليك نقول له إيه؟

تحمل الولد برودة التكييف، ولم يعد يبكى مع الوخزات، لكنه لم يستطع أن يبتسم حتى للحكيمات اللاتى كن يبتسمن له، ويعدنه بالزواج بينما يصحبنه سيرا وعبر المصاعد إلى الأشعة المقطعية ومعامل أخذ العينات، كما لم يستطع أن يرفع جفنه وهن يضعنه فى مقعد متحرك، فيتضاءل ويميل بعنقه إلى جانب المقعد.

خرج الرجل من «كلية الزراعة» وعلى كتفه الولد ذو الطاقية الفوشيا التى تغطى أذنيه إلى موقف سيارات الأقاليم، واستقل الميكروباص، وطلب من الولد أن يغمض عينيه أكثر حتى لا يتقيأ، وتساءل فى نفسه هل يكون قد غدر به لو جاء محمد رمضان فعلا، وكان يشك فى مجيئه فى الأساس لولا أنه رآه بنفسه على الشاشة المعلقة فى حجرته وهو يسلم ويحتضن أطفالا آخرين، وحين سرت شائعة أن الأسطورة سيحضر اليوم، كان الطبيب المكتوب اسمه على باب الغرفة تحت اسم الولد يوقع له تذكرة خروج، انقبض قلب الأب لكنه قال للولد وهو يبتسم: « انبسط يا سيدى.. هنروح لجدتك» والحكيمات اللاتى كن قد أخذن منه وعدا بالزواج سلمن عليه رغم أنه خدعهن، واغرورقت عيونهن وهن يطلبن من الأب أن يأخذ معه التابلت الجديد، والقطار بالبطارية والبيانو واللعب الصغيرة، لكنه لم يكن ليستطيع أن يحمل هذه الأشياء إلى جوار حمله للولد، وحين وقع نظر الولد عليها، سأله الأب:

ـ نأخذها معانا واللا نسيبها؟

هز الولد الصغير رأسه يمنة ويسرة، وأراحها على كتف الأب الذى اتجه بسرعة نحو الخارج.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق