نحن نعرف أن «جمال عبدالناصر» هو القائد الرسمى والفعلى لثورة يوليو، ونعرف أن «محمد نجيب» لم يكن أكثر من شارة أو عنوان يدل على الثورة، وأن شركاءه كانوا مجرد معاونين له ومنفذين لما يطلبه منهم، وبالتالى فقد كان من الطبيعى أن تئول مقاليد الأمور كلها إليه، ليس فقط بسبب الجانب الأخلاقى فى الموضوع، ولكن لأنه بالفعل كان يمسك بيديه الاثنتين الخيوط كلها، بما فى ذلك الخيوط السرية، لدرجة أنه كان هو الوحيد الذى يعرف عدد الضباط الأحرار المشاركين فى الحركة، بل إنه بعد نجاح الحركة واستيلائها على الحكم، ظل كثير من الضباط الأحرار يفاجأون بـ «جمال عبدالناصر» وهو يقدم لهم ضابطا جديدا، ويصف لهم دوره، قائلا بأنه هو الذى قاد وحدة المشاة فى جنوب القاهرة ليلة الثورة، أو هو الذى أمر عساكره بالانتشار فى ميادين القاهرة الرئيسية طوال الليلة وحتى إذاعة البيان، كما أنه هو الوحيد الذى يعرف أسماء الضباط الذين تقاعسوا عن المهمة، جبنا أو خوفا أو لظروف أخرى، وهو يقدر الطبيعة الشخصية لكل واحد، وقد رفض حتى وفاته أن يعلن أسماء هؤلاء الضباط.
...................................
«جمال عبدالناصر» مؤمن تماما بالديمقراطية، ويتمنى لو تتخذها الدولة فلسفة للحكم فى المرحلة الجديدة بعد نجاح الثورة، لذلك ما إن قام جلالة الملك «فاروق الأول» ملك مصر والسودان بتوقيع وثيقة التنازل عن الحكم لابنه «أحمد فؤاد الثانى» بقصر رأس التين بالاسكندرية يوم 26 يوليو عام 1952، وركب يخت المحروسة متجها إلى مدينة نابولى بإيطاليا كمحل مختار لمنفاه الأبدى، وهو اليخت نفسه الذى ركبه جده الخديو «إسماعيل» فى ظروف مشابهة، بعد عزله عن الحكم يوم 26 أيضا، لكن من يونيو عام 1879، متجها هو الآخر إلى مدينة نابولى بإيطاليا كمحل مختار لمنفاه الأبدى، ما إن رحل الملك، حتى طلب «جمال عبدالناصر»، بصفته رئيسا للهيئة التأسيسية لحركة الضباط الأحرار، اجتماعا عاجلا لأعضاء الهيئة، وكان ذلك يوم 27 يوليو، اليوم التالى لخروج الملك، أما سبب الاجتماع، فهو أنه كرجل مؤمن بالديمقراطية، سيقدم استقالته للهيئة، لكى تنتخب رئيسا جديدا لها، فالثورة قد نجحت، وها هى تنتقل بالبلاد لمرحلة جديدة، ولا بد أن تكون الديمقراطية هى العنوان الأشمل للشعب المصرى فى السنوات المقبلة، بعد ظلم وقهر طالا لسنوات.
فوجئ الضباط الأعضاء بهذه الاستقالة المطروحة أمامهم، خاصة أن آخر اجتماع سرى لهذه الهيئة كان قد تم منذ أقل من خمسة أشهر، تحديدا فى فبراير، وتم اختياره رئيسا للهيئة، لكنه تمسك بالاستقالة، داعيا إلى إجراء انتخاب جديد، فالظروف كلها قد تغيرت تغييرا كبيرا، الأمر الذى يوجب إعادة الانتخاب، وأمام هذا الإصرار منه لم يجد الأعضاء بدا من إعادة الانتخاب الذى أشرف عليه «كمال الدين حسين»، وعندما قرأ الأوراق التى كتب فيها الأعضاء اسم الرئيس الجديد، كانت كلها «جمال عبدالناصر»، بما فيها ورقة «جمال» نفسه.

وهكذا استقرت الأمور، وتم توزيع المسئوليات، وتكليف المهام على الضباط، ومشت الأمور بشكل رضى عنه الجميع، لكن «جمال عبدالناصر» فاجأ أعضاء الهيئة التأسيسية بضرورة عقد اجتماع عاجل، وكان عنوانه هذه المرة: اختيار سياسة الحكم.
فى بداية الاجتماع جلس «جمال عبدالناصر» على رأس المائدة، وراح يستعرض أمام الأعضاء طرق الحكم المطروحة للممارسة، واستقر على طريقين ينبغى أن يختار الأعضاء واحدا منهما، طريق الديمقراطية، وطريق الديكتاتورية، والحقيقة أنه قام بعرض شامل لأسلوبى الحكم، وتحدث بشرح واف تماما كما كان يتحدث للطلاب فى محاضراته التى كان يلقيها عليهم فى مدرسة الشئون الإدارية، وطلب من كل واحد أن يعلن رأيه علانية، وابتدأ يستمع إليهم بترتيب جلوسهم، غرابة الأمر أنهم جميعا ودون استثناء، اختاروا الديكتاتورية.
لم يكن «خالد محيى الدين» حاضرا هذا الاجتماع بحكم وجوده فى الاسكندرية فى هذا التوقيت، وكانوا يطرحون حججا شديدة الغرائبية، منها مثلا أنهم دللوا بالأدلة والبراهين على فساد الديمقراطية، مستدلين على مظاهرها المختلفة فى الحياة السياسية المصرية منذ عام 1923، التى كانت قواعدها الأساسية الرشوة والمحسوبية وصراع الأحزاب من أجل المصالح الخاصة لا العامة، وكيف كانت الأحزاب ورجال السياسة يستغلون نفوذهم وقربهم من قصرى عابدين والدوبارة لتحقيق أطماعهم، واستشراء الأحقاد والدسائس وحبك المؤامرات، وكان كل ذلك باسم الديمقراطية، واسترسل الضباط واصفين أن هذه الديمقراطية هى التى أتاحت للملك كل ما كان يتمتع به من لهو وخمر ونساء وقمار، وكيف أن الزعماء السياسيين الذين حوله كانوا يهيئون له كل الأجواء لتحقيق نزواته هذه.
أخذ الأعضاء يتحدثون على هذا المنوال وكأنهم قد اتفقوا مسبقا عليه، وكانوا كأنهم رجل واحد، عندها طلب «جمال عبدالناصر» الحديث، وراح يحدثهم حديثا مختلفا عن الديمقراطية وأهميتها كفلسفة تناسب تماما طبيعة المرحلة، وأخذ يعرف معنى كلمة الديمقراطية بأنها تعنى أول ما تعنى أن يكون للشعب الكلمة الأولى فى الحكم، ولم يكتف بذلك، بل راح يفند آراءهم واحدا واحدا ويعارضها، وأخيرا قال إن كل الذى فعلناه فى ليلة 23 يوليو كان من أجل أن يتخلص الشعب من معاناته الطويلة مع الحكام الظالمين، لا من أجل أن يحكمه حكام ظالمون غيرهم.
يقول «محمد أنور السادات» فى كتابه (يا ولدى هذا عمك جمال): (لم يكن يساور أحدا شك فى أننا متفقون تمام الاتفاق على المنهج الديكتاتورى، وإنما تجرى المناقشة فقط لكى يكون تقرير الأمر بعد مناقشة كعادتنا دائما فى كل ما يعرض علينا، ولكن حديث «جمال» كان كالقنبلة، خاصة أن اللهجة التى تحدث بها أشعرتنا جميعا أن وراء كل كلمة تصميما صلبا، ونحن نعرف أنه لا يصمم إلا بعد تفكير وروية، فإذا ما صمم فإن قوى الأرض كلها لا تثنيه عن ذلك التصميم).
الشائع أن «يوسف إدريس» هو الذى كتب كتاب (يا ولدى هذا عمك جمال)، فأسلوب الكتاب أدبى، وصياغة الجمل فيها من روح «إدريس» الإبداعية الكثير، لكن أيا كان كاتبه، فهو بالتأكيد يحمل رأى وفكر «السادات».
ويبدو أن الضباط كانوا مصرين على ديكتاتوريتهم، لأن نتيجة التصويت جاءت سبعة أصوات فى صالح الديكتاتورية، فى مقابل صوت واحد فى صالح الديمقراطية، هو صوت «جمال عبدالناصر»، ولما كان «جمال عبدالناصر» مصرا على الديمقراطية، فقد أعلن أنه يحترم تماما رأى الأغلبية، وأعلن انسحابه من الثورة كلها، وأنه سيقدم استقالته، معقبا بأنه لا يتصور أن يكون حاكما ديكتاتوريا، بل حتى لا يتصور أن يكون فردا فى نظام ديكتاتورى، قال ذلك، وتمنى لهم التوفيق، ولملم أوراقه مغادرا مبنى القيادة.
بعد انسحابه، أدرك المجتمعون أن السفينة ستغرق، ولا بد من عودته، حتى لو كان الثمن هو انتهاج الديمقراطية، وهكذا عاد «جمال»، مصطحبا معه الديمقراطية، وكان يبتسم.
يقول «السادات» عن هذه المعركة: (وكانت هذه المعركة هى أول معركة انتصر فيها «جمال»، وهو لم ينتصر بالمعنى المادى الذى يتبادر إلى الأذهان، أى بإملاء إرادته علينا، وإنما انتصر لنا ضد نفوسنا، وانتصر لمصر فجنبها الدماء والأحقاد والويلات التى تلازم دائما الديكتاتورية وحكم الفرد).
وهكذا انتهج «جمال عبدالناصر» الديموقراطية كفلسفة للحكم، ونحن فى حقيقة الأمر، لا نعرف كيف يمكننا أن نتعامل مع ما فعله طوال فترة حكمه باسم الديمقراطية، فقد أمم الصحافة لتصبح صوت سياسة الدولة، وألغى الأحزاب كلها، وجعل الاتحاد الاشتراكى هو الكتلة السياسية الوحيدة فى البلاد، واستضافت معتقلاته الأطياف المعارضة من التوجهات كلها، ورقى «عبدالحكيم عامر» من رتبة صاغ (رائد) إلى رتبة لواء ثم منحه رتبة المشير وأسلمه قيادة الجيش وهو فى منتصف الثلاثينيات من عمره.
وانفرد وحده بقرار تأميم شركة قناة السويس التى كانت تحت الإدارة الفرنسية، وتمر بها السفن الدولية ومن بينها البريطانية، والتى ستنتهى فترة امتيازها بعد اثنتى عشرة سنة من تاريخ التأميم، الأمر الذى نتج عنه العدوان الثلاثى على مصر، كما انفرد بقرار إرسال الجيوش المصرية لليمن لمساندة انقلاب المشير «عبدالله السلال» على الإمام «محمد البدر حميد الدين»، مما تسبب فى قتل آلاف الجنود المصريين فى جبال اليمن الوعرة، وإضعاف قيمة الجنيه المصرى، وعجز فى الميزانية يقدر بـ356 مليون جنيه.
وبالرغم من مناشدة قادة الجيش المصرى فى اليمن للرئيس بسحب قواته، فإنه أصر على استكمال الدور، بل وأصدر أوامره للصحافة المصرية بعدم نشر أى أخبار عن الشهداء المصريين هناك، لدرجة أن أحد آباء الشهداء أراد أن ينشر نعيا لابنه فى جريدة الأهرام على حسابه فى صفحة الوفيات فلم يستطع، وقد كتب الشاعر «أحمد عبدالمعطى حجازى» قصيدته (الدم والصمت) عن هذه الواقعة التى حكاها له الشاعر الضابط «بدر توفيق» الذى كان مشاركا فى هذه الحرب:
لو أنكم ودعتمونى فى المطارْ لو علمٌ رفَّ على هدبى، ودار، واستدارْ
لو غصنُ غارْ لو وردتانِ من يدٍ مجهولةٍ،
ألقيتا فوقى على غير انتظارْ لو طلقُ نارْ
لو قبلةٌ قبل تحركِ القطارْ كنتُ بكيتُ عندما دقت طبولُ الانتصارْ
كنتُ ابتسمتُ.. عندما سال دمى على الجدارْ!
كذلك انفرد «جمال عبدالناصر» وحده بقرار إغلاق مضيق تيران أمام السفن الأجنبية، مما تسبب فى نكسة 67، واحتلال إسرائيل لسيناء، كما قام بأكبر مذبحة للقضاء حين قام بعزل أكثر من مائتى قاض بحجة العداء لثورة يوليو، وغيرها من القرارات المصيرية.
وبغض النظر عن صحة أو خطأ هذه القرارات، أما كان من اللازم الرجوع للبرلمان أو للشعب من خلال استفتاء، أو لأى هيئة دستورية، على الأقل حتى لا يتحمل وحده وزرها؟
أما السؤال الذى يتبقى الآن فهو، إذا كان كل ما فعله، قد فعله باسم الديمقراطية، فماذا تراه سيفعل لو انه نزل على رأى الأغلبية فى اجتماع الهيئة التأسيسية لحركة يوليو، واختار الديكتاتورية نظاما للحكم؟!.
رابط دائم: