قُبيل وفاته بنصف ساعة؛ قام على عزت بيجوفيتش وهو يصارع الألم، يحمل 78 سنة على كاهله فتَوضأ وصلَّى، ثم فاضت روحه إلى بارِئها يوم 19 أكتوبر 2003م فى سراييفو. هذا المجاهد العظيم - كما سمّاه عبدالوهاب المسيري- كان حالة نادرة فى عالمنا. فإنك يندر - وتجنّبت قول «يستحيل»- أن تجد رئيساً على هذا المستوى الرفيع من الفكر والثقافة! قاد شعبه الأعزل فى أحلك فترات تاريخه ضد التدخل الصرّبى الغاشم، وضد تواطؤ ومؤامرات العالم الغربى الظالم.
تكمن عظمة بيجوفيتش فى صموده وبقائه معتزا بإسلامه ومدافعا عنه بصبر وثبات. كان محاضراً وكاتباً ومحاوراً. استطاع أن يثبت وجود ٦ ملايين مسلم فى وسط أوروبا لم تكن لهم حقوق ولا امتيازات.
ولد فى الثامن من أغسطس 1925م. وقد ذكر فى آخر سيرته الذاتية: «وُلِدت فى حقبةٍ من الزَّمن بعيدة كُل البُعد عن زمنِ سعادتى» ثم أردفَ قائلاً: «فلو عُرِضت عليَّ الحياة مرة أخرى لرفضتها. لكن لو كانَ عليَّ أنْ أولد من جديد، لاخترتُ حياتى».
قضى رحمه الله فى السجون اليوغسلافية زهرة شبابه وشطرًا من كهولته، والسبب؟ أنه كان دائمًا فى أقواله وأفعاله رافعًا لراية الحق، لا يقبل الانحاء إلّا لخالقه. لما انتُخب رئيسًا رفض أن يغادر منزله المتواضع. كان يسكن فى شقة صغيرة مع أسرته. فضّل العيش فى سراييفو المحاصرة، وهى تقصف بالقذائف لمدة أربعة أعوام! لم يحب فكرة العيش فى رخاء وأمن بعيدًا عن شعبه الذى يعانى، أحب أن يتحمل شظف العيش معهم، ويحس بمخاطرهم اليومية.
متحدثا عن الوطنى الحقيقى، يقول: «ليس الوطنى الحقيقى هو من يرفع وطنه فوق الأوطان الأخرى، وإنَّما هو من يعمل حتى يكون وطنه أهلاً لهذا التمجيد، كما أنه يحرِص على كرامة وطنه أكثر من حرصه على تمجيده».
ويقول عن أولئك عشّاق الحياد: «إن هذا الزمن بالفعل هو زمن التناقض، ولم يحدث أبدًا أن تصادم الخير والشر على هذا النحو الواضح، فحتى الشخص الأعمى يمكنه تمييز ومعرفة ماهية كل منهما (أيهما الخير وأيهما الشر) لكن مع ذلك فهم حياديون، العار والخزى لهم».
................
فى مذكراته حدّثنا عزت بيجوفيتش عن والده بشيء من الفخر، ولكنه أيضًا حدثنا عن والدته التى كان يحبها جدًا، وذكر عطفها وحنانها ورقتها وتدينها، وقال إن التزامه الدينى جاء من ناحيتها. يذكر لنا أحد المواقف المؤثرة فيه مع والدته، فيقول: «كانت أمى تحرِص على قيام الليل وقراءة القرآن حتى يحين موعد صلاة الفجر، فتوقظنى لنذهب معاً إلى صلاة الجماعة فى المسجد القريب من بيتنا. كنت فى ذلك الوقت بين السنة الثانية عشرة والرابعة عشرة من عمرى.
لم يكن من السهل عليّ أن أُغادر دفء الفراش فى هذا الوقت المبكر، فكنت أقاوم فى بادئ الأمر، ولكنى كنت أشعر بعد العودة من المسجد بارتياح كبير وسعادة من هذه الخبرة المثيرة خصوصاً فى فصل الربيع.. حيث تكون الشمس قد أشرقت وملأت المكان بأشعتها الدافئة، ولمّا تزل آيات القرآن حلوة ندية ترقرق فى مسامعى، فقد اعتاد الإمام الشيخ قراءة سورة الرحمن كاملة فى الركعة الثانية بصوته العذب، وكان شخصية محبوبة من جميع الناس. كنت أعود من المسجدِ سعيدًا منشرح الصدر، وقد استقرّ هذا الإنطباع فى أعماق نفسى واضحًا مشرقاً فى وسط ضباب كثيف من الخبرات الأليمة التى أحاطت بحياتى عبر السنين.
من ناحية أخرى، أحب بيجوفيتش زوجته «خالدة»، قال عنها فى سيرته: فى عام 1943م عندما كنت فى الثامنة عشرة قابلت زوجتى خالدة. كنت أحب هذه الفتاة جدًا، وليس من المخجل أن أقول هذا. لقد كان حبًا يمكن أن أضحى بنفسى من أجله. لما ذهبت إلى السجن انتظرتنى هذه الفتاة لمدة 3 سنوات قضيتها فى السجن. بشكل عام، كان يُذكِّر دائمًا بدورِ المرأة، وأننا يجب أن نحافظ على كرامتها وندافع عنها، لأنها هى التى سوف تنشئ الجيل الذى سيجعل عالمنا أفضل.
................
فى كتابه «الإسلام بين الشرق والغرب» يقول: «الإسلام ليسَ مُجرد دين أوْ طريقة حيَاة فقط، وإنمَا هوَ بصفةٍ أساسية مَبدأ تَنظيم الكون». ويسترسل فى ذات الكتاب: «ليست الإنسانيّة فى الكمال أو العِصمة مِن الخطأ. فأنْ تُخطئ وتندم هوَ أن تكون إنسانًا».
بينما يقول عن الوطن فى «هروبى إلى الحرية»: «لِماذا لا يَستطيع المرء أن يَهجر وطنه؟ لا يُمكن لهذا أنْ يَحدث لأننا لا نَستطيع أنْ نأخذ معنا المقابر، فمَقابر آبائنا وأجدادنا هيَ جذورنا، والنَّبات الذى يُجتَثّ مِن جذورِه لا يُمكن أن يَعيش. ولذلك، علينا أنْ نَبقى».
مع ما خاضه من أحداث كان يَكره الحرب وكان يقول: «لا يوجد هنا شيء اسمه «حرب نظيفة» أو «جيش بريء» فكل الحروب هى حروب قذرة إلى حد ما». كان الجيش الصربى يردد أنشودة شعبية يتوعد فيها على عزت بالقتل، وهي: «سَنذبحك يا على عندما تقوم الحرب كما ذبح ميلوس مراد». يشيرون إلى السلطان مراد الذى هزم الصرب فى كوسوفا، وميلوس الصربى الذى قتله بخنجر مسموم غدرا. غير أن بيجوڤيتش لا يزال حيّا وأعداؤه نتنى فى مزابل التاريخ.
مات رحمه الله وفى نفسه الكثير لهذه الأمة. للأسف لم يجد حوله من يسانده فى طريقه، حاله كما قال هو مرة: «كنت على حق فى الزمن الخطأ».
رابط دائم: