منزل صغير تكاد تصل إليه بصعوبة بالغة نظرا للأزقة الطويلة والحوارى الضيقة التى تمر من خلالها، مكون من طابق وحيد من الطوب اللبن والأخشاب، به ثلاث غرف لا تتجاوز مساحته الـ 100 متر مربع، داخل حارة عرضها أربعة أمتار تقريبا، فى قرية النحارية التابعة لمركز كفر الزيات بمحافظة الغربية، لا أحد يتخيل أن هذا المسكن عاش فيه محمد نجيب أول رئيس لمصر فترة من الزمن، وظل يتردد عليه بين الحين والحين حتى أصبح رئيسا للجمهورية.
فى الطريق من كفر الزيات إلى قرية النحارية تجد لافتة صغيرة تكاد لا تتعد مترا واحدا مُعلقة على أحد أعمدة الإنارة وعليها صورة محمد نجيب، واسم القرية التى تغير اسمها رسميا من النحارية إلى قرية محمد نجيب فى عام 2008 ويبلغ عدد سكانها 12 ألف نسمة تقريبا. ويسكن المنزل الأن أحد أحفاده، والذى جدده من الداخل وأزال الطابق الثانى الذى تصدع بفعل الزمن، مع احتفاظه بالأبواب والنوافذ والأساسات ويعيش الطابق الأول من المنزل العتيق الذى يرجع عمره لأكثر من 120 عاما.
فى البداية يقول عباس يوسف نجيب 69عاما، حفيد عباس نجيب، الأخ الاكبر لمحمد نجيب: إن هذا المنزل أول من سكنه جدنا الأكبر يوسف نجيب القشلان، والد الرئيس السابق محمد نجيب، ومكث به فترة كبيرة من الزمن قبل أن ينتقل إلى عمله كضابط فى السودان، وكان يتردد عليه من وقت إلى أخر، ثم سكن المنزل جدى عباس شقيق نجيب، ومن بعده أبى يوسف وأعمامي؛ فتحى وعبداللطيف وحامد، وانتقل اللواء محمد نجيب واللواء على نجيب وشقيقهما الدكتور محمود نجيب إلى منزل بمنيل الروضة بالقاهرة، ولكن نجيب كان الأكثر ارتباطا بنا وظل يتردد على المنزل من فترة لأخرى حتى عندما كان رئيسا للجمهورية، وبعد أن انتقل عمى فتحى إلى الأسكندرية أصبحت أنا وشقيقى « عمرو « مقيمين فى المنزل، وجاءت الفرصة لشراء منزل بجوارنا قمت بهدمه وإعادة بنائه وسكنت أنا وزوجتى بالطابق الأرضى وابنى بالطابق الأعلى، ثم تركت المنزل العتيق لأخى عمرو، والذى اضطرته الظروف للعيش فيه إلى الآن.
الرئيس نجيب فى حفل زفاف أحد أقاربه
الضباط الأحرار فى النحارية
ويؤكد «عباس نجيب» أن نجيب كان يقيم فى المنزل فى كل مرة يزور فيها القرية وكانت أكلته المفضلة فيه «الحمام والأرز» وكان البيت أيضا يشهد بعض اجتماعات الضباط الأحرار والذين كانوا يأتون إلى القرية، والإقامة معه داخل المنزل بعيدا عن أجواء القاهرة.وحتى تكون تحركاتهم فى سرية تامة، ومن بين الذين زاروا المنزل جمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر وأنور السادات، وكانوا يأتون بشكل غير معلن من خلال ارتداء زى مدنى ثم يقيمون فى المنزل مدة قد تصل إلى يومين ويرتدون الجلاليب الفلاحى، ثم تأتى السيارات لتصحبهم مرة أخرى إلى القاهرة.
على ألواح الخشب
عندما كان عمى رئيسا للجمهورية، حدث حريق فى القرية المجاورة لنا « فليب إبيار» حريقا دمر معظم منازل القرية فزارها وأمر العمدة بجمع كل الفلاحين المتضررين من الحريق ومنحهم تعويضا ماليا فوريا، وأغطية حملتها سيارات الجيش إلى القرية، وفى هذا اليوم فوجئت بعمى فى منزلنا ومعه فردين حراسة فقط، وقد أبى أن يغادر إلى القاهرة دون زيارتنا، وعرفت منه أنه تجاوز الترعة التى بين القريتين بواسطة ألواح خشبية، وعندما سألته لماذا لم تأت بالسيارات؟ قال؛ كنا سنقطع مسافات كبيرة للقدوم من طريق كفر الزيات، والدولة أحق بأى لتر بنزين.
الزيارة مرتان فى الشهر
ويوضح أن العلاقة بيننا وبين عمى كانت إنسانية من الدرجة الأولى، كان يزورنا بمعدل مرة أو مرتين كل شهر، وإحدى هذه المرات كانت ليلة وقفة عيد فسأل والدتي؛ هل اشتريتى للأولاد ملابس جديدة؟ وعندما علم أننا سنحضر العيد بملابس قديمة، سافر بسرعة إلى طنطا وأحضر الأقمشة، ثم عاد إلى منزل الأسطى «عبدالعزيز « ترزى القرية وأعطاه أجرة زيادة وعمل لنا جلاليب العيد.
ولما كنت صغيرا كان عمى يراعينى فى الجوانب الإنسانية ويخاف علىّ، وكونى طفلا صغيرا كنت أشعر بحزن تسلل إلى كيانى الصبيانى عندما رفض شقيقى الأكبر يوسف أن يصحبنى إلى مولد بالقرية المجاورة، فما كان منى إلا أن صعدت إلى سطح المنزل أشاهد أنواره فى حزن عميق، وعندما شاهدنى عمى نهر أخى وأمره أن يصطحبنى إلى المولد وأعطاه مبلغا كبيرا وقال له «أوعى تزعله تانى وهات له كل اللى نفسه فيه».
الحصان وسيارة العمدة
ويواصل أنه ارتبط أيضا بأولاد عمته وهم أولاد أبو العلا خضر، والمقيمون فى النحارية أيضا، وكانت الزيارات متبادلة بينهم، وفى إحدى هذه الزيارات طلبت ابنته «سميحة» وهى من زوجته الأولى وابنته الكبرى، أن تركب الحصان، وكان يوما شهده كل أبناء القرية، فسميحة الشابة الصغيرة استبقت سيارة العمدة بالحصان، وظل أبناء القرية يرددون هذا الحدث بين بعضهم، وفى نفس اليوم مرضت سميحة واضطر عمى أن ينقلها إلى مستشفى بالقاهرة مكثت بها أسبوعا ثم لقيت ربها..ومن الأيام التى لن تنساها القرية يوم وفاة والدى عباس نجيب، وأقيم شادر العزاء فى مكان واسع بالقرية وظل المعزون يتوافدون إلى النحارية لمدة بلغت أسبوعا لتقديم العزاء لعمى محمد نجيب قبل ثورة 52 بفترة كبيرة، وحضر كبار رجال الجيش ومحافظ الغربية ومحافظ كفر الشيخ وقتها، وظل عمى طوال مدة العزاء مقيما بنفس المنزل.
35 جنيها ديون
ويضيف: إن عمى محمد نجيب وأشقاؤه تركوا لنا الأرض الزراعية، والتى كانت تبلغ وقتها حوالى 12 فدانا نزرعها ونرعاها، لتساعدنا على العيش، وكان لدينا 20 فدانا أخرى كان عليها مديونية، أرسلنا أحد أقاربنا لدفعها فى كفر الزيات لكنه تأخر عن سدادها فقام البنك بالحجز عليها، أما الـ 12 فدانا فلم يبق منها شيئا؛ والجزء الأكبر منها بعناه لتسديد دين قدره 35 جنيها على أحد أشقائى الذى كان يعمل سائقا فى الجيش.
المصحف سلاحى
يعرف نجيب شرف العسكرية وأنه لا غدر فيها ولا خداع ولا غش ولا تآمر، يعرف فقط الشجاعة وكيف يدافع عن وطنه، ولا حرج أن يموت فى سبيله أويتلقى رصاصات العدو فى صدره بكل بسالة، لكنه لم يكن يعرف أن اللعبة السياسية قواعد أخرى عرفها لكن فى الوقت الضائع. وهذا ما يكشفه نجل شقيقه عن شخصيته المسالمة التى كانت لا تعرف المكر ولا تؤمن بالخداع، ولذلك عندما طلبت منه زوجة شقيقه عباس وأبنائها أن يحمل سلاحا معه، أخرج مصحفا من جيبه ثم قال لهم؛ هذا سلاحى يحمينى من كل غدر وخيانة.
الجمهور يحاصر أولاد الرئيس
بعد أن أصبح نجيب رئيسا لمصر فرضت عليه الضرورة البقاء فى القاهرة بصفة مستمرة، وتحول من النحارية إلى حلمية الزيتون، واصطحب معه نجل شقيقه «فتحى عباس» الذى يذكر لنا مواقفه مع الرئيس، قائلا:؛ فى مرة قال لى؛ يا فتحى أنا هروح مقر القيادة لقضاء أشياء مهمة وسأعود لكن عليك أن تستقبل المعازيم لأنى جهزت حفلا لكبار قادة الجيش هنا فى البيت، وعندما عاد وجدنى تركت استقبال الضيوف وجلست مع أبنائه فى غرفتهم، فأخذنى من يدى وقال لضيوفه، هذا الولد فتحى نجل شقيقى وهو عايش فى البلد وبيقضى معاية كام يوم هنا، ثم أجلسنى بجوارهم وكان من بينهم السيد على الميرغنى الزعيم السودانى. ويذكر أيضا؛ أن عمى كان يعهد إليّ بمراعاة أبنائه الثلاثة أثناء فترات تغيبه عن المنزل لكونى أكبر من ابنه الأكبر فاروق بأربع سنوات، وكلفنى بملازمة السيارة الخاصة بهم فى رحلة الذهاب والعودة من المدرسة كل يوم، وذهبت معهم إلى السينما وهذا اليوم لا يمكن أن أنساه؛ وقفت السيارة والحراسة ودخلت مع أولاد عمى والعامل قطع لنا ثلاث تذاكر، وعندما شاهد المدير ذلك نزل مسرعا ولفت نظره الحراسة وعلم أننا أولاد الرئيس، ووبخ العامل لأنه أخذ ثمن التذاكر محاولا إرجاعه، لنا فأقسم ابن عمى فاروق بأنه لن يأخذ المبلغ نهائيا، وهنا اقترح المدير أن أخذه أنا بدلا منه مراعاة لقسم ابن الرئيس، ثم أجلسونا فى مقاعد مميزة وكل فترة قليلة نجد مشروبات تُقدم لنا، علمنا أنها من الجمهور الذى أراد أن يحتفى بنا، وعند نزولنا كانت مفاجأة تنتظرنا؛ الجمهور ترك الفيلم وحاصر السيارة من كل ناحية وأراد أن يلتقى بأولاد الرئيس.
ابن الرئيس يعاقب عسكرى المرور
وفى يوم أثناء عودتى من عند عمى إلى النحارية، قام ابنه فاروق بايقاف «تاكسى» وفى الطريق أوقفنا عسكرى المرور، وأراد ان يرغم السائق أن يوصل صديق له فى طريقه ولا يأخذ منه مقابلا، ولكن السائق امتنع، فحرر له عسكرى المرور مخالفة وأوقفه، فقمت بابلاغ فاروق الذى حضر بعد فترة قصيرة، وقال للعسكرى «أنت كدا ظلمت السواق ولو مشلتش المخالفة، هاخد منك الدفتر دا وهوديه لبابا».
لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين
لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، لذا نصح نجيب أحفاده أن يبتعدوا عن السياسة نهائيا، ولأنه لم يتعلم الدرس فأراد أن يعلمه لأحفاده.. «تعالى هنا يا عباس..ملكش دعوة بالكلام دا خالص» هكذا يتذكر عباس يوسف أحد أحفاده والذى يشبه نجيب إلى حد تكاد لا تفرق بين صورتيهما، أول نصيحة سمعها منه وأول موقف دار بينهما؛ وأنا عمرى ست أو سبع سنوات، زرته مع والدى فى إقامته الجبرية بفيلا زينب الوكيل فى المرج، وكان يستمع إلى إحدى خطابات جمال عبدالناصر من خلال الراديو، فقمت من جانبه وأغلقته، فسألنى «عملت كدا ليه». قلت له «عبدالناصر دا سبب اللى حصلك كله» وكنت اسمع ذلك كثيرا من والدى لكن جدى نجيب أراد أن أكون بعيدا عن هذه الخلافات وعن السياسة كلها وهذه النصيحة عملت بها طوال حياتى حتى بلغت الآن عامى التاسع والستين فى سلام.
ويوضح عباس أن علاقتنا بجدى نجيب لم تنقطع حتى وفاته، ووالدى أراد أن يرد جميل عمى علينا، رغم أنه كان موظفا بسيطا فى هيئة المرافق والمياه بكفر الزيات، فكان يخصص جزءًا من راتبه بمجرد أن يتحصل عليه وفى اليوم التالى مباشرة نجهز «الزوادة» ونذهب إليه فى المرج. وعن مضايقات الحراسة يؤكد إن أحد الضباط المكلفين بمراقبته برتبة مقدم كان يجلس معنا فى كل زيارة ليستمع إلى الحديث الذى يدور بينه وبين والدى ويمنعهما أحيانا من الحديث إذا تطرقا لشئ لا يرضون عنه، وكان جدى يتعصب لكن دون فائدة تذكر.
رابط دائم: