رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

جامع البكايرة

أشرف خليل

أطل مطار «شارل ديجول» على وجهه للمرة الأخيرة، قبل أن يحط على مقعده بدرجة رجال الأعمال فى الطائرة المتجهة إلى القاهرة.

أحب باريس لدرجة العشق. شوارعها النظيفة المتسعة؛ مقاهيها المفعمة بالصخب والحياة؛ مبانيها العتيقة المهيبة، سلوك ناسها الراقي؛ نعومة نسائها ورشاقتهن وابتسامتهن الودود المرحبة.

ها هو الشانزليزيه، ميدان الكونكورد، برج إيفل، نهرالسين، متحف اللوفر، كنيسة النوتردام، المسلة الفرعونية، رائحة العطر التى تفوح فى مترو الأنفاق، الأضواء الساطعة تبدو - من فوق السحاب - كحلم جميل.

تسعة عشر عامًا مضت بين القاهرة وباريس؛ التمرد والمغامرة والتحدى أثمر زوجة باريسية فارعة الطول، شديدة النحافة، ابتسامتها أميز ملامحها؛ وابنة وحيدة؛ ومهنة لم تخطر له على بال. سائق شاحنة يحمل شهادة جامعية فى الآداب قسم اللغة الفرنسية من جامعة المنصورة. الغريب أنه عشق مهنته كما عشق ابنته وزوجته!.

تباعدت زيارته للقاهرة. خصوصًا بعد رحيل الأم، وقبله رحيل أخيه الوحيد، فى حادث مفاجىء. أما الأب فقد بكّر برحيله. مرض بتصلب الشرايين وهو مازال يدرس فى مرحلته الجامعية. لم يبق سوى شقيقتين، منزل قديم، حفنة من أصدقاء الصبا والشباب، أمنيات لم تتحقق فى حب لم يصمد أمام الصراع بين عالم ساكن لا يمل الرتابة وعالم مجهول محفوف بالمخاطرة؛ ذكريات تسير معه لا تفارقه لأحداث وأماكن وبشر ومواقف استعصى على الحياة الباريسية محوها.

مشدوهًا، تعلقت عيناه بموقع البيت القديم الذى فارق مكانه إلى الأبد، مخلفًا وراءه أرضًاخالية، تحتلها كومات زبالة؛ سيارات مركونة؛ تعديات صارخة من معظم الجيران. جزء لا يستهان به من الأرض تم إنشاء كوخ من الصاج لتخزين أجولة دقيق لفرن بلدى مجاور؛ وثمة كشك خشبى مغلق؛ طاولة خشبية عليها أخشاب وأسفلها نشارة، وتعلوها مظلة من الخوص لنجار يزاول عمله فى اطمئنان؛ سيدة تفترش الأرض أمام فرن من الصاج بجواره أنبوبة بوتاجاز، رائحة شواء سمك تترامى من الفرن؛ كلاب ضالة؛ نظرات مستطلعة؛ وجوه مغبرة تتطلع إلى الغريب القادم.

قرأت شقيقته سمية ما بداخله؛ أشارت إلى مكان البيت:

صدر له أمر إزالة. رغم أنه اقتصر على ساكنيه من القطط والكلاب الضالة، فقد أشاروا علىّ بوجوب إزالته، لما يمثله من خطورة على المارة إذا ما تصدع، وانهار فجأة. عندئذ ستكون هناك مساءلة قانونية، وربما تهمة جنائية تقع على ذويه لعدم تنفيذهم قرار الإزالة.

انفعل صوته بالتأثر، واصلت:

- لجأت لمقاول هدم. يستفيد من أنقاضه وأخشابه من أبواب ونوافذ وكمرات حديد مقابل الهدم والإزالة

حتى صار أرضًا فضاء.

- وماذا عن البيع؟

- عرضنا الأرض للبيع، نحن نعرف أن هذه رغبتك بموجب التوكيل الذى تركته لنا من أجل ذلك.

استطردت وهى تشرد فيما لم يتبينه:

- بعد ثورة يناير ظهرت فئات جديدة من الرعاع الذين يتكسبون من أعمال البلطجة، وبث الرعب فى نفوس المسالمين. فوجئنا بأفراد منهم يقفون للمشترى مدعين ملكيتهم للأرض، وأنهم يملكون الأوراق الدالة على الملكية!.

نظر إليها بذهول:

- والقانون؟ والشرطة؟!

علت وجهها ابتسامة سخرية:

- قيل لى إن العصابة التى تقف فى بيع أرضنا سطت من قبل على منزل قديم خال لضابط كبير. مدعين ملكيتهم له بموجب أوراق مزورة؛ لم يستطع إخراجهم إلا بعد أن دفع لهم مبلغًا كبيراً من المال.

وقلبت شفتها السفلى فى حيرة:

-فعلها الضابط فماذا نفعل؟!

- والثورة؟!

- الثورة، الأمل، الحلم، البلطجة، الهزيمة، الخوف والغموض.. كلمات تتقاذف الوطن المنهك بالخيانة والهموم.

أطبق عليهما سكون صامت؛ زاغ بنظراته حول المكان؛ جامع البكايرة مازال يحتفظ بهيبته فى وجه الزمن؛ بناء معمارى فريد أميز ما فيه مئذنته الشاهقة على شكل زجاجة، لها رقبة حلزونية طويلة ترتفع فى انسيابية مثيرة للإعجاب؛ تتخلل المئذنة ثلاث شرفات دائرية على مسافات متساوية، أضافت إلى جمالها جمالًا مضاعفًا. تصور فى طفولته أن الشيخ لطفى يرفع أذانه من أعلى المئذنة، ظل الاعتقاد يلازمه كلما ارتفع بصره إليها عند الأذان، محاولًا تبين موضع الشيخ!.

كان البيت مكونًا من طابقين، اقتطع جزءا من حديقته، فرشت الأرضية بالبلاط، فوقه حصيرة من الخوص وعدد من الشلتات، توسطت الحصيرة طبلية دائرية كبيرة، يلتفون حولها، لا سيما فى رمضان. ما أجمل قرآن المغرب، تلاوة الشيخ محمد رفعت، رفع الآذان؛ أصناف الطعام الشهية. كم اشتاق إلى محشى الكرنب، البط المحمر، صينية الرقاق، الأرز المعمر. ما أجمل صينية الكنافة بعد الإفطار. لم يخل البيت يوماً من الثرثرة والضحك والعراك والجدال والحكايات. تبدد كل شىء. ساده القبح واللصوص.

عاد من ذهوله؛ تأمل المكان بعينين زائغتين؛ تساءل فى نفسه بصوت مسموع:

- أين دكان رجب المكوجى؟

أشارت سمية إلى معرض لبيع أجهزة التليفون المحمول ومستلزماته. آه، ما أقبح الحاضر؛ وما فعله رجب فاق كل حدود العقل. كيف يتسنى لهذه الكتلة الحديدية الهائلة أن تنساب فى رشاقة تحت قدميه لتصل إلى أكتاف القميص والأكمام؟!. مهما أبدعت محال (الدراى كلين) والكواء الحديثة فلن تصل إلى مهارة قدم رجب.عندما كان يذهب إليه لأخذ ملابس والده.كان يقف مبهورًا، وهو يشاهد المكوة الهائلة ينقلها تحت أصابع قدمه فى انسيابية من يعزف على آلة موسيقية.

زاغ بنظراته كمن يرتاب فى بيت تغيرت ملامحه الراسخة فى الذاكرة، رنت إليه بعينين مشفقتين، كأنها تنتظر سؤاله:

- لعلك تسأل عن منال؟!.

أومأ فى خجل.

- تزوجت بعد سفرك، وتورط زوجها فى شراكة لم تجن عليه سوى صدور عدة أحكام ضده لإصداره شيكات بدون رصيد. هرب ولم تعرف له وجهة. أرسل إليها ورقة الطلاق، فعادت لمنزلها القديم.

طرق الباب فى تردد. استقبله الذهول المطل من العينين المفتوحتين عن آخرهما. سحب الحزن كل مظاهر الشباب من وجهها، وإن أطل الشوق من العينين العاشقتين.

فاجأها:

- من تحدث معك بشأن حصته المزعومة عن البيع؟!.

- سيد دبل، لعلك تعرفه.

سرحت ذاكرته فى زمن بعيد، توهج وجهه فى عدم تصديق:

- أهو الصبى الصغير الذى كان يقطن شارعنا بجوار فراشة الختام؟

- إنه هو!.

- كيف تحول إلى بلطجى؟!.

- قيل إنه تعارك مع مجرم يدعى القط فصرعه، قضى عقوبته على أنه قتل خطأ، خرج ليمتهن البلطجة.

- أين أجده؟.

- أعرف أنه يتردد على مقهى العكة بشارع الزراعية.

سبقت خطواته أفكاره المشوشة، سأل النادل، أشار إليه، ما إن رآه حتى ترك نارجيلته، نهض من بين جالسيه، واحتضنه.

- أنت سيد؟!. لا يمكن أن تكون كما يقولون عنك!.

- الآخرون يروننى كذلك، الناس تعمل لى ألف حساب، حصتنا فى البيع هى الثلث.

أضاف بنبرة تليق برجل أعمال:

- لست وحدى، هناك إسماعيل شعبان وجابر البرعى وإبراهيم الأقرع، غير الصبية والمساعدين.

متأوهًا، عربد بذاكرته فى الزمن البعيد. ما مضى لن يعود!.

- يا صديقى انزع عنك قناعك الذى ترتديه، أرنى ملامحك الطفولية!.

رفت على وجهه ابتسامة غامضة، وظل صامتًا.

أزف موعد عودته. أعد حقائبه معتزمًا أن يعود ثانية بعد أن ينهى بعض أعماله فى باريس.

فى مطار القاهرة، أقلعت الطائرة المتجهة إلى باريس، مخلفة راكبًا أخذه الذهول عن كل ما حوله، وهو يهرول – بخطوات مسرعة - إلى الخارج.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق