وسائل الإعلام ليست فقط وسائل لنقل الأخبار أو التعليق عليها، بل تقوم بمهمة خطيرة أخرى، هى تقوية الرابطة بين الحكام والمحكومين بل أحيانا إيجاد هذه الرابطة أصلاً.
إنى أصدق تماما ما قيل مرة من أن سكان بعض القرى النائية فى مصر، عندما حل موعد الانتخابات البرلمانية بعد وفاة الزعيم سعد زغلول بسنوات كثيرة، قالوا إنهم سيعطون أصواتهم لسعد زغلول. هذه القرى لم تكن تصلها أى صحيفة. ولاتسمع الاذاعة، فمن أين كان يمكن أن يعرفوا ما طرأ من تغيرات فى شخصيات الحكام، أو التغير فى نظام الحكم؟.
كما أصدق أيضا أن أحد الدوافع المهمة لنظام جمال عبدالناصر لإدخال التليفزيون فى مصر فى مطلع الستينيات كان إيجاد وسيلة لتعبئة الرأى العام لصالح نظامه، وقد رأيت بعينى فى زيارة لى إلى صنعاء فى مطلع الثمانينيات من القرن الماضى، الدور الذى يلعبه التليفزيون اليمنى فى إيجاد الشعور الوطنى خلقا، وتحويل الولاء لقبيلة دون أخرى، إلى ولاء للدولة اليمنية.
مما يلفت النظر فى الحياة السياسية فى مصر خلال القرن الماضى، الدور الذى قامت به جريدة الأهرام فى تدعيم هذه الرابطة بين الحكام والمحكومين، بل وكيف كانت خلال جزء كبير من ذلك القرن، الوسيلة الأساسية لتعريف الناس بما يحدث من تغيرات سياسية، وبما يرد الحكام من الناس أن يعرفوه عنهم وعن مقاصدهم.
لم يعد الدور الذى تلعبه جريدة الأهرام فى هذا الصدد بالقوة، التى كان عليها فى وقت ما فى الماضى، قبل أن يصل عدد الصحف إلى مانراه الآن، وقبل انتشار استخدام الراديو وظهور التليفزيون، لكنى مازلت أذكر عصرا كانت فيه «الأهرام» هى وسيلة الإعلام الوحيدة تقريبا التى تقوم بهذا الدور.
لابد ان بداية وعيى بأى شيء له علاقة بوسائل الاعلام أو بالسياسة فى مصر، كانت فى أوائل الأربعينيات من القرن الماضى، كانت «الأهرام» الجريدة الوحيدة التى تدخل بيتنا، لكن دخولها البيت كان أمرا مهما لايتصور أبى أن يبدأ يومه بدونها، لم أكن أنا فى سن يمكن أن أهتم فيها بالاخبار السياسية، لكن أشياء معينة من ذلك الوقت، مازالت عالقة بذهنى.
أذكر مثلا صور الملك فاروق فى الصفحة الأولى من الأهرام، وهو يصافح مستقبليه لدى وصوله إلى أحد المساجد لأداء الصلاة، وقد كتب تحت الصورة أن جلالته، «صافح مستقبليه بيده الكريمة» وكأن هناك طرقا أخرى لمصافحة الناس، كماكان من الواضح حرص الجريدة على تلقيبه بـ «الملك الصالح» وعلى نشر صوره وبيده المسبحة وهو جالس فى المسجد، للإيحاء بأنه رجل متدين فى محاولة لمواجهة الشائعات المتداولة بين الناس على عكس ذلك بالضبط.
كنا نسمع عن تكرار ظهوره فى بعض الملاهى الليلية، وعن حبه للمغامرة، وعن علاقاته النسائية مما أحدث تصدعاً فى علاقته بالملكة فريدة، حتى قيل إنها طلبت الطلاق ومصرة عليه.
أذكر جيدا طريقة نشر «الأهرام» الخبر عندما وقع الطلاق بالفعل، إذ يبدو أن نشر الخبر قد جرى تأجيله حتى وقع طلاق آخر، فنشر الخبران معا متجاورين فى الصفحة الأولى.
كان الطلاق الآخر بين شاه إيران والإمبراطورة فوزية، شقيقة الملك فاروق، إذ رأى البعض فيما يظهر أن نشر الخبرين معا قد يخفف من وقع كل منهما على الناس، وكأن الطلاق، لا الزواج، سنة من سنن الحياة، يجب أن تقبل بصدر رحب.
كان حرص الناس على قراءة «الأهرام» كل يوم، سببه الأساسى أنه هو الذى يخبرهم بأخبار الدولة، أى أخبار رأس النظام، ملكا كان أم رئيسا للجمهورية، وما تصدره الدولة أو تنوى إصداره من قوانين وإجراءات مهمة، إذ لابد أن الدولة قد اكتشفت فى وقت مبكر ضرورة اختيار جريدة للقيام بهذه المهمة، فلما اكتشف الناس أن هذه الجريدة هى «الأهرام» حرصوا على قراءتها أو على الأقل إلقاء نظرة سريعة عليها، فى بداية كل يوم، وحرص الفلاحون فى القرى أن يجتمعوا فى مقهى أو على إحدى المصاطب ليقرأ عليهم من كان يعرف القراءة منهم، أهم أخبار «الأهرام» كانت هناك أيضا صفحة الوفيات التى اكتشف الناس أيضا أنه لا يمكن أن يموت شخص مهم (أو على الأقل قادر على دفع نفقة الإعلان عن وفاته) دون أن ينشر فيها خبر موته، فانتشرت الجريدة لهذا السبب أيضا.
لكن هذه المكانة التى احتلتها جريدة الأهرام منذ زمن طويل، جعلتها أيضا المكان المفضل لدى كبار الكتاب لنشر ما كانوا يحرصون على وصوله إلى أكبر عدد ممكن من القرار، أذكر مثلا أنى رأيت فى صباى بعض مقالات لطه حسين تنشر فى الصفحة الأولى من «الأهرام» وإن كان موضوعها لا يمت بالسياسة بصلة، كان هذا حدثا نادرا، ثم اختفى عندما ظهرت جريدة أخرى منتصف الاربعينيات هى «أخبار اليوم» التى كان ظهورها حدثا مهما فى تاريخ الصحافة المصرية، إذ دشنت مدرسة جديدة تماما على المصريين، العناوين المثيرة، والصور الجذابة، والألوان، كانت لاشك أقل رصانة من «الأهرام» لكن مؤسسيها «مصطفى أمين وعلى أمين» اللذين كانا قد تعرفا عن قرب على المدرسة الأمريكية فى الصحافة، وصلا إلى اقتناع بأن انتشار الجريدة ونجاحها لا يتوقفان على الرصانة والرزانة، بل ربما احتاج الأمر فى عصر الجماهير الغفيرة إلى عكس ذلك بالضبط.
بقيام ثورة 1952 ازدادت حاجة الدولة إلى جريدة تعبر بطريقة أقوى مما كان مطلوبا فى عهد الملكية، عن اتجاهات الدولة وفلسفتها الجديدة فى الحكم، أنشأت حكومة الثورة جرائد جديدة لتحقيق هذا الهدف «كالشعب والجمهورية» لكن سرعان ما ظهر أن «الأهرام» هى الأقدر على نشر «أخبار الدولة» واتجاهاتها من أى جريدة أخرى.
انتقل مقر جريدة الأهرام فى العصر الجديد، من مبنى صغير ومتواضع بالقرب من ميدان باب اللوق إلى مبنى ضخم رائع فى شارع الجلاء، يحتوى على كل جديد مما يتطلبه الفن الصحفى، وسرعان ما انتقل كبار الكتاب للكتابة فى «الأهرام» فقرأنا ليوسف إدريس ولويس عوض، ثم لتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ مقالات أسبوعية منتظمة، حتى أصبح «الأهرام» هو المكان الذى يلتقى به المهتمون بالثقافة بأهم المبدعين والمفكرين فى مصر.
ظلت «الأهرام» خلال الخمسينيات والستينيات وسيلة الاتصال الرئيسية بين السلطة والشعب، حتى بعد ظهور التليفزيون فى 1966، لكن أصبحت المهمة الأساسية للجريدة بعد الثورة مختلفة فى أمور مهمة عما كانت قبلها، كان النظام الاجتماعى قبل الثورة، وهو النظام شبه الإقطاعى، هو نفسه الذى ساد فى مصر لعدة قرون، فلم يكن أصحاب السلطة يطمعون من الناس فى أكثر من الاستمرار فى قبول الاوضاع السائدة دون تذمر، أو ما كان يسمى وقتها «عدم الإخلال بالسلام الاجتماعى».
وكان النظام السياسى السائد قبل الثورة وهو تبادل الأحزاب للسلطة، بناء على دعوة من الملك يعتمد فيه كل حزب لكسب الأنصار، على جريدته الخاصة، فبقيت جريدة الأهرام فى العصر الملكى بدرجة عالية من الحياد، وكأنها تعبر عن «الدولة» لا عن الحزب الحاكم فى أى فترة بعينها، لكن النظام الذى جاءت به ثورة 1952 كان يتطلب أشياء مختلفة تماما، إقناع الناس بضرورة تغيير النظام الاجتماعى بأسره «بما فى ذلك القضاء على الإقطاع» وإقناعهم بفساد النظام الحزبى بأسره، وبمزايا «وحدة الشعب العامل» سرعان ما أغلقت حكومة الثورة الجرائد الحزبية وبقيت «الأهرام» فى معظم سنوات الخمسينيات وطوال الستينيات هى الجريدة المعبرة عن «مبادئ الثورة» وكسبت تعاطف الجمهور مادام تعاطفه مستمرا مع الثورة نفسها.
اختلف الأمر بالطبع عقب هزيمة 1967 (التى سمتها جريدة الأهرام نكسة لكن شعر الناس بأنها افظع من ذلك بكثير) وتباطأت بشدة فى النطاق فى إحداث التغير الاجتماعى المنشود وكان لابد أن ينعكس هذا المناخ الثقافى العام بما فى ذلك وسائل الإعلام
أذكر جيدا مقالا ليوسف إدريس نشر فى «الأهرام» فى مطلع السبعينيات بعنوان «أنا سلطان قانون الوجود» يصف فيه حادثا مروعا حدث أثناء عرض من عروض السيرك القومى، حيث هجم الاسد على مدرب السيرك «محمد الحلو» بدلا من أن يخضع له، كما يتوقع المدرب والجمهور، فأصابه بجروح خطيرة توفى على إثرها، وصف يوسف إدريس الجمهور الذى كان يتابع العرض، فإذا به جمهور منهك اقتصاديا وسياسيا، جلس ليتفرج على المواجهة بين الأسد ومدربه فى وجوم ودون حماسة، مما أصاب المدرب نفسه بالجمود والخوف، فلم يجد فيه الأسد ما عهده من شجاعة وإقدام، فتشجع الأسد وهجم عليه فكانت النتيجة المأساوية، أذكر أيضا مقالا ليوسف إدريس فى «الأهرام» أيضا نشر فى مطلع السبعينيات حاول فيه أن تبرر توقفه عن كتابة القصص واقتصاره على كتابة مقالات سياسية، إذ قال: كيف يتصور أن يجلس شخص لكتابة قصة وهو يرى بيته يحترق؟.
ثم جاء أنور السادات بنظام سياسى واجتماعى جديد، انقلب فيه على نظام الخمسينيات والستينيات، وسمح بعودة الملكيات الكبيرة بالتدريج، كما سمح بتعدد الأحزاب المؤيدة والمعارضة، وأصبح لكل منها جريدة، فلم تعد «الأهرام» ما كانت تتمتع به من وضع «شبه احتكارى» بين الصحف المصرية، استمر بعض الكتاب الكبار فى الكتابة المنتظمة فى الأهرام، لكنهم كانوا قد فقدوا لمعانهم القديم، وظهر إلى جانبهم كتاب أقل موهبة لكنهم أكثر ولاء لسياسة الانفتاح، وأقل ولاء للانتماء العربى والاستقلال الاقتصادى.
كان مما قاله حسنى مبارك فى بداية توليه الحكم فى مطلع الثمانينيات، إنه بعكس السادات «لا يؤمن بسياسة الصدمات الكهربائية»، وقد ظهر هذا بوضوح فى سياساته الاقتصادية والخارجية على السواء، إذ كانت هذه السياسات مجرد استمرار لسياسات السادات، كما ظهر فى سياسة جريدة «الأهرام» أيضا طوال الأعوام الثلاثين التى استمر فيها حسنى مبارك رئيسا لمصر، و «أقل ضجيجا» مما كانت فى عهد السادات، كان حسنى مبارك أقل كلاما من سابقيه، وأخفت صوتا وأكثر ميلا لبقاء الأشياء على ما هى عليه، وقد انعكس هذا كله فى جريدة «الأهرام» فأصبحت أيضا أكثر «محافظة» مما سمح لجرائد أخرى جديدة بالظهور إلى جانبها ومنافستها.
اشتد الحماس بالجميع بالطبع، بقيام ثورة 25 يناير 2011، وكان من الطبيعى أن يزيد إقبال الناس، ليس فقط على قراءة الصحف، بل وعلى جميع وسائل الإعلام الأخرى، لكن التاريخ يعلمنا أن «الحالة الثورية» لا تدوم، وأن الحماسة قصيرة العمر.... وعندما تضعف الحماسة ينصرف الناس إلى أمور حياتهم اليومية، ويعطونها من الاهتمام أكثر ما يعطون لقراءة الصحف.
رابط دائم: