دائما ما يكشف عن بواطن التطرف والمغالاة فى الفكر والمنهجية التى يستخدمها الإسلام السياسى لبلوغ أهدافه بالمناورة والإلحاح ومحاولات تغيير البنية الثقافية و(تديين) المجال العام للثقافة المصرية .ولكنها بتراكماتها وطبقاتها وتعدد ألوانها ومنابعها،تقف كالصخرة العنيدة الصلدة التى لا يفتتها مليون قطرة من الماء المتساقط بانتظام فى بؤرتها.
بهذا الطرح، يطالعنا نبيل عبد الفتاح الباحث المرموق فى شئون الإسلام السياسى فى رصده لدور الثقافة المصرية فى مجابهة العنف والحركات الدينية الراديكالية.. فى كتابه الرصين (تجديد الفكر الدينى) الصادر عن دار نشر بتانة .
حيث يطالعنا بدراسة ضافية عن كل ما يتعلق ويؤثر فى قضية تجديد الفكر الدينى.. ولماذا تحول مصطلح «الخطاب الدينى» إلى شعار دون محاولة التعمق فى المغزى والمعنى المرتجى من إصلاحه.. يعد هذا الفصل المتفرد عن أثر الثقافة المصرية وتعريفات الثقافة التى تقترب من 164 تعريفا من أثمن ما قدمه الكتاب من وجهة نظرى.. وبأسلوبه المنهجى فى الرصد والفهرسة والحصر وجمع شتات الأمور فى نقاط محددة وبقدرته على الربط والتحليل.. تبدأ رحلتنا الممتعة فى هذا الفصل الذى يذكرنا ويأخذ منا الميثاق فى البدء بأن الثقافة هى مجموعة الأفكار والمعتقدات والقيم والعادات والتقاليد الراسخة فى وجدان الأفراد، فى جماعة أو بلد ما.
وإذا كان التطرف الفكرى للجماعات الدينية التى تنتهج العنف والإرهاب منهجا، والقتل وسيلة والخلافة الإسلامية غاية.. فهى تستخدم فى سبيل هذا الغرض كل السبل والتبريرات لممارستها الوحشية (القاعدة والسلفية الجهادية وداعش) من خلال اللجوء لأقصى درجات العنف ومن ثم خوف عامة الناس لتحقيق الردع فى مناطق سيطرتها.. ترمى أهداف هذه الجماعات إلى تغيير طبيعة الدولة وتدينها وأسلمتها وتغير هندستها القانونية إلى نظام دينى يتأسس على الشريعة.. ويتوافق مع هذا الطرح.. محاولات فرض الهيمنة الدينية من خلال التمدد الناعم فى المدن والقرى وخاصة الأكثر تهميشا وفقرا.
وببراعة واقتدار يبلور لنا نبيل عبد الفتاح كيف أن الثقافة - ويا للمفارقة – هى فى بعض مكوناتها تمثل جزءا من الفكر الإرهابى والسلوكيات العنيفة.. وكيف يمكن للتحليل الثقافى أن يفكك هذه الأسس الواهية للفكر المتطرف ودوافعه ومكوناته.. فالإرهاب وكل ما يصدّره من عنف يتجسد فى سلوكيات.. ويكون قدر الثقافة التوسط فى هذه الخلافات والنزاعات والظواهر لفهمها بشىء من التفصيل والوقوف على القوى الحقيقية المحركة لها.. وغنى عن القول أن العنف السلوكى والتطرف قد يشكل بعض المكونات الثقافية لمجموعة أو شعب ما.. وهنا يتجسد الدور الأعلى للثقافة بمعناها الرفيع حتى تترسخ فى الوجدان.. وتتمكن من تهميش العنف وإبعاده عن المجال العام.
تتمتع مصر بثقافة وسطية تراكمية ورصيد كبير من (الثقافة العليا) المتمثل فى الإنتاج الفكرى والفلسفى والإبداعى والروائى ذلك الإرث الذى تركه أعلام التنوير على مدى قرون والمائة عام الماضية على وجه الخصوص.. إضافة إلى مجموعة متكاملة من الدراسات التحليلية والأبحاث الأكاديمية للجماعات الإسلامية المتطرفة ونقد منهجها ومنظريها أمثال: حسن البنا وسيد قطب وشكرى مصطفى وعمر عبد الرحمن وخطاب داعش التكفيرى..وغيرها من المساهمات التى قدمتها مصر واثرت بها المكتبة العربية فى هذا المجال..
إضافة لميراث ضخم من الثقافة الشعبية العفية والحيوية بزادها المتدفق بالحكايات والسير والأمثلة الشعبية وقصص الأبطال فى التراث المسيحى والإسلامى.. وقد يندهش القارئ حين يتعرف على قيمة وأهمية العامية المصرية المتطورة العصية على التطويع المفرط أو التحجر الدائم.. فالعامية رفضت على الدوام الانتقال من المجال المدنى إلى المجال الدينى فى نمط الحياة اليومية ولم ترتد إلا ثوبها الطبيعى، وفى القلب من الثقافة الشعبية، يلتمع الفضاء الاجتماعى بالسخرية المحببة الشهيرة فى العامية المصرية.. زاد الإنسان المصرى للتغلب على مصاعب الحياة.
ويذهب بنا الباحث القدير لمدى أبعد كاشفا النقاب عن «فلسفة التدين الشعبى» التى تقوم على التوازنات بين ما هو دينى وما هو اجتماعى.. بنظام يستخدم آليات الحساب الجارى للموازنة بين الآثام والذنوب، للوصول إلى حالة من الرضا الذاتى.
ساهم هذا الميراث السخى للثقافة المصرية فى الدعم الشعبى والحشد الجماهيرى وقت الأخطار والحروب.. وتعزيز الإيمان بفكرة الدولة وميراثها وقيمها وسلوكها.. حتى أصبحت قيمة الالتزام الوطنى بعيدا عن الانتماءات غائرة فى الوجدان المصرى وفى الوعى الجمعى.. كما لو كانت على حد وصف نبيل عبد الفتاح.. «ديانة وضعية حداثية مشتركة للمسلمين والمسيحيين»..
ويستمر كاتبنا فى تأويل ما لم نستطع عليه صبرا فى عالم التطرف والعنف وآلية تعزيز المقاومة الثقافية للمصريين.. فقد غفل معظم فصيل الإسلام السياسى عن أن الأفكار والقيم الحداثية التى أرست قواعد جزء كبير من ثقافتنا تم استعارتها من الغرب ومن ثم كان لابد من تهجينها لكى تتوافق مع الموروث الدينى والاجتماعى بصورة تمنحه صك القبول والمواءمة والحماية والاستمرارية ولا تجرد المجتمع من قيم الحداثة ومواكبة مجريات العصر.
لذلك فشلت كل محاولاتهم لكسر نمط الحياة المشتركة ووحدة الثقافة المصرية السائدة وفشلت أيضا محاولاتهم لفرض الهيمنة الدينية والتمايز بين المسلمين والمسيحيين أو التمدد فى فراغ أى فتنة طائفية وبناء دولتهم الدينية على أنقاض الدولة الوطنية!. بل إن معظم محاولاتهم واستخدامهم العنف ضد الأقباط.. لم تؤت ثمارها المرجوة فقد (شيبتهم) سلطة إعمال العقل وإعلاء الحريات الفردية وإبداء الفكر على النقل والتصدى لسياسة القطيع وسيطرة النسبى على المطلق وفقاً لتعبير المؤلف.
فى تسلسل وسياقات مترابطة تتوالى عناوين الكتاب من الجمود الفكرى والمتغيرات التى تحكم استمرارية هذا الجمود.. والهوية والتعدد والحروب المذهبية المسيسة والتسييس المفرط للدين.. وضرورات إصلاح التعليم .. وحرية العبادة.. وما وراء العنف الدينى فى بعض قرى مصر والحاجة إلى رجل دين عصرى.. إضافة لوثائق تجديد الخطاب الدينى وهى منحت الكتاب قيمة بحثية ومرجعية لأنه تضمن وثيقة علماء الأزهر المثقفين عن مستقبل مصر وجهود المجمع البطريركى المارونى لإيقاف العنف.. فلم يترك هذا السفر الجليل شيئا خارج النص.. إذا استعرنا تشبيه جاك دريدا ..
لقد قاومت الثقافة المصرية جماعات العنف ووزارة الثقافة وهيئة الكتاب بإصداراتها والنخبة المثقفة فى هذا المعترك بكل السبل وكانت دعاوى الحسبة وآلية تقديم الشكاوى بعدها إلى النيابة العامة تطارد المثقفين والمبدعين وتسعى لحظر أعمالهم .. وتحاسبهم على السرد الروائى للقصة من منظور دينى وأخلاقى وتصدر الفتاوى التى تحظر أعمال النحت وتستنكره وكذلك محاولاتهم المستمرة لفرض خطاب استعلائى يفتقد للمنطق ويستبعد الحقائق ويرسخ لمبدأ الجدل العقيم الذى يجيدونه..
ولكن الإرث الضخم للثقافة المصرية من الفنون الموسيقى والرقص والغناء الشعبى والطقوس الاجتماعية.. كان يحول دائما بين رغبات هذه الجماعات فى تجريف الوجدان العام والذائقة الفنية والجمالية لشعب اعتاد أن يستطعم الحياة كما عهدها طوال تاريخه بدون أوصياء.
وأخيرا.. يناقش نبيل عبد الفتاح المشكلة الأكثر الحاحا فى الوقت الراهن والمتعلقة بالبعد الدينى فى ثقافة المستقبل وما سيترتب عليها من خروج على الأشكال والأنماط المألوفة والتوقعات بتغيير قواعد الضبط الاجتماعى نتيجة الانتقال من الكتابة إلى الرقمنة.
وأخــــــــيرا...
هذا كتاب يشعل الجمر فى معركة الوعى العام ويطلق صفارة إنذار عن الأثر المتوقع جراء هذا النمط من الفكر المتشدد والإرهابى على المسلمين وعلى صورة الإسلام فى عصرنا الحالى.
رابط دائم: