رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

أحلام عبده

د. محمد عجلان

قلق يقبض على أنفاسه كل ليلة، كيف يستطيع أن يشترى دواء أمه هذا الشهر، ربنا ستر فى الشهر الماضى، فقد وصلته بضعة نقود من خاله، لكن خاله قلما يتذكره وأمه فى هذه الغرفة المهجورة، قرر عبده ابن العاشرة أن يترك المدرسة، حتى ولو بشكل مؤقت، لابد أن يعمل ويجمع بعض النقود، فالعلاج تكاليفه فاقت قدرة أمه، ولن يتركها فريسة للمرض والعوز من أجل أن يتعلم، تذكر مرة حين شاهد على تلفاز المقهى المجاور البطل يقول: ما فائدة التعليم؟ ملايين يجلسون على المقاهى بلا عمل.

لم يكن مؤمنًا بهذا المنطق، لكن لم يكن بمقدوره أن يفلت من تنفيذه. حين صارح أمه بنيته ضربت صدرها هلعًا، كيف؟ أنت أملي! حاول طمأنتها، أخبرها أن الأمر ربما لا يزيد عن شهر أو شهرين كحد أقصى، وغالبية التلاميذ لا يذهبون إلى المدرسة من الأساس، والمدرسون لا يعبأون بنا، سعالها المتقطع منعها من الضغط عليه، هى تعرف حالتها جيدًا وتعلم رأس ابنها الصغير أكثر، عنيد مثل أبيه، ليته لم يخرج هذه الليلة بعناده، ها هو تركنا ليد الزمن وضاع فى مشاجرة لا ناقة لنا فيها ولا جمل، لا تنسى ليلتها حين سألته لماذا؟ قال لها إنها الصداقة يا أم عبده.

لم يكن أبو عبده يعرف أن الأصدقاء الذى راح ضحيتهم لم يلتفتوا لبيته بعد موته، تركنا شقتنا دون أن يسأل أحدهم، بل استأجرها من كان سبب المشكلة. لكن فى النهاية عرفت أن عبده ورث العناد عن أبيه ولا فائدة، عناد أضاع حياة، وها هو ظل عناد يضيع مستقبل عبده. أخبره صديقه إبراهيم أن الحاج سامر بحاجة لصبيان يعملون لديه فى تنظيف المحل وتوصيل الطلبات للزبائن، ذهبت أم عبده مترجية كى يقبل عبده لديه، وافق على مضض، فعبده بنيته ضعيفة، والرجل يريد أطفالًا أشداء، يعملون من السابعة صباحًا حتى العاشرة مساءً، وهذا الصبى يبدو من هيئته أنه غير قادر على ذلك. حاول عبده جاهدًا أن يثبت أقدامه، يعلم أنه لن يستمر معه، لكن بالطبع لم يخبره بذلك، بدأ يومه بتنظيف المحل، بدا الحاج سامر مرتاحًا لجديته، لا يلمح منه تلكؤًا أو محاولات للتهرب من العمل كما يفعل الصبية الآخرون.

منّى عبده نفسه أن يعمل فى توصيل الطلبات للمنازل، فقد أخبره صديقه إبراهيم كثيرًا عن الإكراميات التى يدسها بعض الزبائن فى يديه. يعلم عبده جيدًا أن إبراهيم يعشق المبالغة، لم يصدقه حين أخبره أنه عاد ذات مساءٍ بخمسين جنيهًا دفعة واحدة كانت حصيلة إكراميات الزبائن، رغم أنه تمنى ذلك، فدواء أمه لا يتعدى المائتى جنيه، فلو جمع يوميًا مثل هذا المبلغ على مدار شهر واحد سوف يكون لديهم مخزون جيد حتى إجازة منتصف العام. كانت المفاجأة حين نادى المعلم سامر على عبده، آمرًا إياه أن يذهب لعمارة فى نفس الشارع، أحس عبده من لهجة المعلم أنه يمنحه نيشانًا قبل دخول المعركة، وذلك لثقته بنتيجتها مقدمًا، ملأته الحماسة، حمل أكياس البضائع بيديه الصغيرتين، كاد كتفه أن ينخلع، لكنه أظهر جلده حتى لا يغير المعلم رأيه، أراد أن يتحرك بسرعة كى يصل دون تأخير، لكن ثقل ما يحمل لم يمنحه هذه الفرصة. ظل يعارك الأكياس وتعاركه، جلس فى الطريق على مقعد خشبى قديم كى يريح ذراعيه، استعاد كلمات إبراهيم حول الخمسين جنيهًا، ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة، بينما صورة أمه أمام ناظريه، يعشّم نفسه أن يسترها من سؤال اللئام، وأن تشعر ولو لمرة أن أباه لم يتركها وحيدة للفقر والمعاناة.

حديثها عن ضياع عمره هدرًا فى معركة تافهة كان يخنقه، صورة أبيه فى رأسه كانت صورة الأبطال، لا يقل عن أبى زيد الهلالى الذى سمع حكايته من رجل عجوز فى الحارة، ولا عن خالد بن الوليد كما سمع من إمام المسجد. ما لم يعرفه عبده أن أباه لم يدخل معركة من الأساس، انطلق كالسهم خلف رجال جبناء إلى معركة خاسرة، ما أن وصلوا الشارع المقصود حتى فروا جميعًا، ولم تتركه الأحداث كى يندهش من هذا الجبن، فقد رمته امرأة بحجر من الخلف فكانت نهايته.

رغم أن أم عبده أخبرته القصة دون تزيين، إلا أن عقله أبى أن يصدقها، يقول لنفسه دومًا إنها تريد أن تشوه أبى، يبدو أنها لم تكن تحبه، أو ربما تخاف عليّ من تكرار البطولات التى أودت بحياته. أفاق فجأة من خيالاته، تحرك بسرعة نحو المنزل المقصود، كان مرَّ عليه فى جلسته هذه قرابة الساعة، أخذته الأفكار والأحلام والظل، فلم يحس بالوقت.

كان يحلم بعطايا السيدة العجوز، أخبره إبراهيم أنها تعطى بلا حساب، منحته ذات مرة عشرين جنيهًا وبقايا حلوى. ما أن وصل عبده منزل السيدة حتى خرجت إليه بكل عصبية، أين كنت كل هذا الوقت أيها الولد؟ لم يعرف كيف يجيب، أخذت الأكياس بعنف من يديه، تركته على الباب بعض الوقت، عادت ولم يغادرها غضبها، أعطته المبلغ المكتوب فى الفاتورة، ودسّت فى جيبه ورقة فئة العشرين جنيهًا، وقميصًا فى كيس بلاستيكى.

لم يكن عبده مصدقًا ما يحدث كيف تتصرف هذه السيدة، غاضبة وتمنحنى إكرامية وقميصًا! جذبته من يديه المنهكتين للداخل، اجلس على هذا الكرسى، أمرته بحدة أن يأكل طبق على الطاولة، لم يكن مخيرًا من نظرات عينيها فى التراجع، أكل بسرعة، أوصلته للباب، لا تتأخر أيها الشيطان الصغير مرة أخرى، وسلم لى على أمك. هل تعرف أمي؟ سأل عبده نفسه، لكنه تذكر فجأة أن أمه جاءت به منذ فترة طويلة كى تساعد السيدة فى تنظيف المنزل.

طرد السيدة من رأسه بسرعة، وضع يده فى جيبه وأخرج العشرين جنيهًا، لم يكن يصدق نفسه، يبدو أن مبالغات إبراهيم لم تكن كذبًا، جلس يستريح فى نفس المكان مرة ثانية، تخيل لو خمس زبائن يوميًا منحوه مثلما منحته السيدة العجوز، كاد أن يطير من الفرح، يكتب على الأرض عشرين جنيهًا فى خمسة أفراد، لم يكن لسانه قادرًا على نطق كلمة مئة جنيه، لكن السعادة التى غمرت وجهه قامت بالمهمة على أكمل وجه.

أفاق فجأة على صوت إبراهيم، لماذا تأخرت؟ المعلم سامر ينتظرك على أحرّ من الجمر، قطع الشارع فى أقل من خمس دقائق رغم الحرارة الشديدة، كان كل شيء مهددًا، لم يحس بالوقت وهو يحلم بالرفاه الذى نزل عليه فجأة، ما أن وصل حتى طلب منه المعلم سامر ثمن البضاعة، ودون أن يمنحه فرصة الكلام، يلا على أمك يا روح أمك.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق