رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

المغزل الضائع

أيمن رجب طاهر

ثغاء ممطوط لفت انتباهى، أدرت وجهى فرأيت عدة نعجات ترعى بين بيتين وتقتات عظام الذرة الملقاة وأوراق الأشجار المتطايرة، عافت نفسى رؤية أصوافها التى طالها السخام من تمرغها بأكوام القمامة والولد الصغير يدخن سيجارة ويتركها ويلعب السيجة مع نفسه، الخروف الكبير يثب على إحدى النعجات الهزيلات فتخونه قدماه، فى أسف أبتسم لخذلانه فتنساب بين تلافيف ذاكرتى قامة جدى أحمد المنحنية قليلًا بفعل ركام السنين وأنا أقف جواره ولم أكمل العاشرة نشاهد الغنّام وسط عشرات الشياه. يومها رفع الغنّام من على ظهر حمارته زكيبة وسلمها لجدى فحملتها رغم ثقلها إلى داخل البيت.

يفرغ جدى الكيس فأفرح بالصوف الأبيض والبنى والأسود وأتسلّى بتخليص كرات (الشعبيط) العالقة وأشواكها تؤلم أصابعى، يقرفص وظهره المحدوب يسنده الجدار، أمامه لفف الصوف ينسل بعضها ويثبته بالمغزل وبديمومة الحركة التى اعتدتها منه يبرم المغزل فيتحول الصوف إلى خيط يلفه حول العود الرفيع وحين ينشغل عنه يتركه جوار الزكيبة وفى مرة ملكتنى روح التقليد المسيجة بالمغامرة، أمسكت بالمغزل لففته فانقطع الخيط الرفيع، قلبى سقط بين ضلوعى وكى أدارى حماقتى تركته مكانه وحين عاد جدى ورفع المغزل رمانى بنظرة معاتبة وهو يقول: وى وى، قطعته يا توى، الكثير من كلمات قاموسه الخاص كنت أسمعها وأفهم منها أنه يوبخنى على فعلتى بصوف المغزل وعندما كبرت عرفت معنى يا ولد يا توى التى دائمًا ما كان ينعتنى بها أنا أو أحد أبناء خالى إذا بدر منا تصرف لا يرضى عنه وحسبتها كلمة عامية أو غامضة لا أساس لها فوجئت أنها بمعنى هالك أو ذاهب بلا عودة.

ساعة المغربية وهو يلف المغزل ويسامر أحد رفاق عمره المديد ويروى له وقعات أيام (الدميرة) حين تغمر مياه النيل قبل السد العالى أنه اصطاد تمساحً صغيرًا أو أنه تسلق إحدى نخلاته ويستطيع عد عيون الخزان، أسمعه يردد أمام رفيقه: أصل أنت ابن عشية ما توعى لما أقول وأدركت معناها أن الشيخ الطاعن فى السن الذى يحك من حين لآخر صلعته الحاسرة قد يكون أصغر من جدى بأيام أو أسابيع أو حتى شهور، لكن جدى يصر على وصفه أنه ابن عشية، يمر رجل فلا يلقى السلام عليهما فيميل جدى على أذن صاحبه ويقول له: أصله غُربى ابن غُربى أى أنه يشبهه بالغرباء قليلى الأصل أو لا أصل لهم على الجملة فهم ثلة من الناس تسكن أطراف البلد فى خيام أو بيوت من أعواد الشجر المغطى بالصفيح ويعرفهم الناس أيضا بأنهم من الغجر.

ما إن يُتم كرة متوسطة من خيط الصوف حتى يشرع فى برم عقدة صغيرة وينسج حولها مستخدمًا إبرة التريكو الخاصة به والتى يُطلق عليها (الميبر) وهو إبرة طويلة طرفها محنى، يثبتها بين أنامله ومن حين لآخر يرفع الميبر ويهبطه ويلفه وبمرور الوقت تصغر كرة خيط الصوف وتتسع الطاقية حتى يعقد طرفها من الخلف ويضعها على رأسى فأبص فى شرخة المرآة المثبتة بالجدار وقلبى يدق فرحًا لامتلاكى طاقية أتباهى بها بين أصحابى وتقى رأسى برد الشتاء القارس، دون ملل يعود جدى للف المغزل وهو يسحب الصوف ومن حين لآخر يرشف الشاى بصوت مسموع وتحتضن يداه الكبيرتان يدى وينفخ فيهما فتستشعر أصابعى دفء أنفاسه.

عصر ذلك اليوم البعيد حضر لبيتنا وهو يتوكأ على عصا الخيزران الغليظة المكسوة بجلد يابس ومعه حبيب المزين، حين قام بختان أخى الأصغر تململ محاولًا التملص ممن يكتفه ثم بكى وسبّ المزين وبصق على وجهه أما أنا فتوجست خيفة.

أتى جدى بقطعة جريد ولفّ طرفيها بحبل ليفى رفيع وعلل ما فعله بأن يكبر ولحمه نظيف، أمسكنى جدى أحمد وهمس فى أذني: اصبر ولا تبكِ؛ الدموع للعيال، بعدها تبقى رجلًا، ولأنى أثق فى كلامه فتركته يرفعنى على الماجور المقلوب وزاول المزين عمله فابتلعت الألم وفيًا لنصيحة جدى.

أسبوعان مرا ولم يأتِ لبيتنا وارتجف قلبى لمرضه، رافقت أمى لزيارته فوجدته ممددًا على الدكة المتينة والمغزل جواره وبالات الصوف الصغيرة بالأسفل، من طرف خفى لمحت الطاقية غير مكتملة والميبر مغروز بها، صرخات أمى وخالاتى وزوجات أخوالى تشق فضاء الليل وأضيفت كلمة الموت إلى معرفتى، أغلقوا باب المنظرة لتجهيزه ولم يُسمح لنا نحن الصغار بمرافقة جنازة جدى أحمد، انفضت السيدات المتشحات بالسواد من التشييع فتحيّنت الفرصة وانزرقت وسط بقيتهن لأبحث عن المغزل، انقبض صدرى لفراغ الدكة، أزحت المفرش الصوف وقلبت المخدة، نفضت البطانية وعبثت أصابعى بكيس الصوف وكأن المغزل فص ملح وذاب هو والخيط الملفوف أعلى عود الخشب، اقتنصت الطاقية وعقدت طرف الخيط حتى لا ينفلت، بكيت بحرقة فضمتنى أمى وطيبت خاطرى، أصريت عندما يعود جدى أسأله عن مغزله ولكنى عدت ألوم نفسى على قلة فهمى فجدى كما يقولون مات وها هم عادوا من الجبل ويصطفون داخل السرادق الكبير لاستقبال المعزين فوقفت جوارهم أسمع من يقول: ربنا يعزيكم فأرد بـ شكر الله سعيكم.

بعد انتهاء الجنازة اجتمع بقية من الأهل بالمنظرة وسألت عن المغزل ولا أحد يريحنى، بحثت عنه مرة أخرى فيجيبنى خواء الدكة بفقده، عصر اليوم وقفت على عتبة البيت أنتظر الغنّامة وحين علا الغبار من بعيد أقبلت الغنم وحجز الخجل بينى وبين سؤال الغنام الراكب حمارته القوية عن مغزل جدى وهو بدوره لم يأتِ بكيس الصوف كما اعتاد.

أقف على عتبة البيت التى غاصت فى الأرض من كثرة رصف الطريق، بمنديل أمسح عدسة النظارة، أرفع الطاقية ولا تزال بين حجرات قلبى يسكن المغزل وأتمنّى أن أجده لأكمل بنفسى الطاقية، أرقب الصبى وهو ينهض بعد أن ألقى كلاب السيجة وأقحم يده بجيب جلبابه فأخرج الموبايل، ينشغل فى اللعب به ملهيًا عن غنيماته المبعثرة والكلب الأجرب يمد رقبته على ساقيه الأماميتين، الحمارة العجفاء تلتقط بمشفريها أوراق الكراريس والكتب القديمة، لم أحزن لفقد المغزل بعد أن عريت ظهور النعجات من الصوف ويأس الخروف الهزيل من الزهو أمام نعجاته وطأطأ رأسه فلامست قرونه المقصوفة التراب.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق