أول ما يرى عند الدخول إلى مكتبه، كانت تلك اللوحة الصغيرة القابعة أمامه، مكتوبا عليها «الحمد لله».. كأنما من كثرة ما اختبر فى الدنيا من مشكلات الناس، اختصر خلاصة تجارب الحياة فى تلك الجملة.. خمسة عشر عاما مرت على وفاة الأستاذ عبدالوهاب مطاوع، لم تغب سيرته فى أروقة الأهرام، يوما واحدا نظرا لإنتشار تلامذته ومساعدوه وكل من عملوا معه فى كل مكان بالجريدة العريقة.
فمن السهل أن تسمع تعليقا يصف أحد الماهرين بالعمل الصحفى بأنه بسبب عمله مع أستاذ عبدالوهاب، إما ببريد الأهرام، أو بمجلة الشباب، فلم تغب تعاليمه ولا مهاراته التى لقنها للجميع قبل رحيله، أما أكبر إنجازاته على مستوى القاريء المصرى والعربى فكان بريد الجمعة، وهو ذلك الباب الصحفى المميز الذى إبتدعه هو بنفسه بعد أن تسلم مهمة الإشراف على بريد الأهرام اليومى، والذى يعرض المشكلات الحياتية العادية التى يشكو منها العامة أثناء تعاملهم مع الهيئات والمسئولين، ومشكلات انقطاع المياه، وتراكم الفضلات، وبعض الآراء السياسية والإقتصادية العامة، حيث جاءته الفكرة فى تخصيص يوم الجمعة لعرض بعض المشكلات الإنسانية التى كان ترده عرضا وسط أكوام الرسائل اليومية، ليتحول بعدها يوم الجمعة لملتقى فكرى وإنسانى يشمل جميع الدول العربية، ويمتد أيضا للمغتربين بكل العالم.
كانت صفحة بريد الجمعة تعرض أيضا مشكلات المحتاجين للمال والعلاج والتعليم والسفر لزيارة الأهل، وكل الرغبات والأمنيات التى كانت رغم بساطتها تستعصى على التحقق لأصحابها، حتى أن أحد كبار السن ذات يوم طلب فى رسالته شراء «راديو» ليستمع فيه إلى الأخبار والبرامج التى كان يعشقها بالإذاعة قبل أن يتلف الجهاز الخاص به، فنشرت رسالته، وإنهالت على البريد وقتها عروض القراء لشراء الراديو للرجل من كل بلدان العالم، وإرساله له، لكن أستاذنا رحمه الله عليه أراد أن يشتريه للرجل من ماله الخاص، ويسلمه له بمكتبه، ومعه بعض كتبه، تكريما للقاريء، واحتفاء به.
البعض كان يراه رجلا صارما لا يبتسم، خاصة بسبب طبيعة عمله التى تجذب إليه كل الهموم التى يعانيها الناس، لكن جانبا أخر له كان لا يظهر كثيرا، سوى لمن خالطه عن قرب، فلم يكن صعب التعامل معه سوى حال التقصير فى العمل فقط، أو الرغبة فى الحصول على أجازات، والحقيقة أنه هو نفسه كان يقسو على نفسه فى العمل، ويكره البعد عن الجريدة بصخبها الجميل، وكثيرا ما حضرنا معه للعمل أيام عطلات الجمعة والأعياد، لكن لم نكن مكرهين، بل كنا نأتى للعمل بحب، لأننا نعلم مدى خيرية العمل الذى نشاركه فيه، أما عدا ذلك، فقد كان أستاذا معلما لكل من حوله، وكان مشاركا للزملاء فى كل مناسباتهم الإجتماعية، وكان كثيرا ما يشاركنا الطعام خاصة بعد منتصف ليلة الأثنين التى كان يقابل فيها أصحاب المشكلات بمكتبه، وكنا كفريق عمل نتركه مع أحد الزملاء فى الثانية عشرة مساء، ونعود لبيوتنا، بينما يكمل هو مقابلات القراء حتى الفجر فى أحيان كثيرة.
كان صاحب قلب رقيق، فقد كان يبكى أحيانا مع من يبكى أمامه من مشكلة، خاصة إذا كان من يبكى رجل كبير فى السن..
أذكر أن صفحة بريد الجمعة كانت ذات أثر كبير على المجتمع المصرى وقتها، حتى أنها كانت محور دراسات للعديد من الباحثين المصريين والعرب، وأكثر رسالة أثارت الرأى العام العربى كله، كانت تلك الرسالة التى نشرت على لسان زوج يروى قصة إقتحام القوات العراقية، لأحد مستشفيات الكويت،الذى كان يعمل به هو وزوجته الطبيبة، وكيف أنه أصبح مهزوما أمامها، لعدم قدرته على حمايتها، ويريد تطليقها رغم يقينه أنها كانت مقهورة مثله..
كنا نحتفل بعيد ميلاد أستاذنا ووالدنا كما كنا نحسبه، وكان يسعد كثيرا معنا نحن تلامذته بهذه اللحظات التى كانت تمر سريعا، ليعود كل منا إلى عمله بسرعة، وكنا نحرص على التقاط الصور معه فى هذه المناسبات، وهو يرحب بالجميع، بإبتسامته الطيبة..
ذات يوم طلب منه الأستاذ إبراهيم نافع أن يستعين فى عمله الذى يتسع يوما بعد يوم، بأخصائيين إجتماعيين، ونفسيين، كنت أنا كاتبة هذه الكلمات إحداهن، مع زميلة أخرى، والحقيقة أن أجواء العمل بصفحة بريد الجمعة كانت أجمل من أى صفحة أخرى تشارك الزملاء فيها العمل مع أستاذنا الراحل، حيث كانت تتميز بالود أكثر لطبيعة العمل مع الحالات الإنسانية التى كانت تتطلب أشخاصا لهم صفات خاصة، كان ينتقيهم أستاذنا بحرص شديد، ويقوم بتدريبهم لعدة سنوات قبل تعيينهم بالصفحة، وأحيانا كان يستبعد من لا يرتاح لطريقة تعامله مع القراء والحالات..
رحم الله أستاذنا العزيز جدا، وبقيت ذكراه طيبة فى قلوب قرائه، وكل من عاصروه.
رابط دائم: