الإجراءات الاقتصادية التى تتبعها الدولة لإعادة البناء والقضاء على المشكلات المتراكمة التى خلفتها عقود ماضية، كان لها أثرها الواضح على كثير من فئات المجتمع، لاسيما الطبقة المتوسطة وما دونها، مما اعتبره البعض عبئا ثقيلا على كاهل محدودى الدخل.. فى حين يراه الخبراء والمختصون ضرورة لازمة لإعادة بناء الدولة وتحقيق النهضة المنشودة لهذا الوطن.
فى ظل تلك الإجراءات، أكد علماء الدين الحاجة الملحة للالتزام بالآداب والتعاليم الإسلامية المرتبطة بالاستهلاك، والاستثمار الأمثل للموارد والنعم التى من الله بها علينا، وطالبوا بتعزيز ثقافة الترشيد، ومراعاة الأولويات وتقليل الإنفاق على الأمور الثانوية والترفيهية وغير المفيدة، حتى يصب عائد هذا الترشيد فى ملاحقة ارتفاع الأسعار، والحد من معاناة الفقراء.
ثقافة يحتاج إليها الجميع
ويوضح الدكتور مختار مرزوق عبد الرحيم العميد السابق لكلية أصول الدين بأسيوط أن الترشيد ثقافة يحتاجها الجميع، بصرف النظر عن غنى الإنسان أو فقره، لذا خاطب الله عز وجل الناس جميعا غنيهم وفقيرهم بالاعتدال فى الطعام والشراب فقال تعالى (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا) فالمسلم مأمور بالترشيد، والمبذر شبهه القرآن بأخ الشيطان «إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين»، وقد بين النبى صلى الله عليه وسلم أن الاقتصاد فى المعيشة وعدم الإسراف جزء مما جاءت به النبوات. فقال «إن الهَدْيَ الصالحَ ، والسَمْتَ الصالحَ ، والاقتصادَ جزءٌ مِن خمسةِ وعشرين جزءًا مِن النُّبُوَّةِ» .كما بين النبى صلى الله عليه وسلم أن المؤمن الذى يريد دوام الصحة والعافية عليه أن يعتدل فى الطعام والشراب.
وطالب د.مختار مرزوق بإنشاء هيئة أو جهة معينة لعرض وبيان كيفية وصور الترشيد فى كل المجالات، وأن تقوم بدور توعوى لجميع فئات الشعب.
ترشيد وليس حرمانا
ويشير الدكتور أحمد كريمة أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر الى أن الترشيد لا يعنى التضييق على النفس والحرمان من متاع الدنيا، فالإسلام وسط فى كل شيء (عقيدة وشريعة ومعاملات وأخلاق)، وفيما يتصل بعادات المأكل والمشرب وما فى حكمهما يقول سبحانه «وكلوا واشربوا ولا تسرفوا». فلا إفراط ولا تفريط، بمعنى لا مغالاة تؤدى إلى التبذير، ولا تقتير وبخل يؤدى إلى التضييق على النفس، ولنا فى رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة القدوة الحسنة، فكان عيشهم وسطا بين هذا وذاك، ولم نسمع أن أحدهم قتر على نفسه أو استدان للرفاهية.
ومن هنا فإن الواجب الشرعى فى ظل غلاء الأسعار أن يتحلى العاقل بترشيد الاستهلاك والإنفاق، ومما يذكر فى هذا الجانب أن سيدنا عمر رضى الله عنه فى خلافته الراشدة منع ذبح الذبائح عند محلات الجزارة أياما فى الأسبوع، وهو أول من سن ترشيد أكل اللحوم.. وهذا يعنى أن الترشيد تحقيق لوسطية الدين.
وأوضح الدكتور حامد أبو طالب العميد الأسبق لكلية الشريعة والقانون أن الترشيد ليس مقصورا على أمور الإنسان الشخصية أو ممتلكاته الخاصة، بل مطلوب أيضا فى كل شيء وفى كل مكان، فما أكثر التبذير والإسراف فى المصالح العامة، من هدر للماء والكهرباء وأدوات العمل، بالإضافة إلى ترك الأضواء فى الشوارع فى وضح النهار، وهذا لا يجوز شرعا، فالإنسان مطالب بتقوى الله والحفاظ على نعمه فى أى مكان، وسواء كانت هذه النعمة ملكا له أو لغيره.
ولا يرتبط الترشيد أيضا بالقيمة المادية للشيء المراد الترشيد فيه، فليس معنى أن الماء ليس ذا مقابل مادى كبير أن نسرف فى استخدامه أو نترك الصنبور مفتوحا بلا ضرورة، فالترشيد فى ذلك مطلوب ولو كان فى العبادة. فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم سيدنا سعد يسرف فى الماء أثناء الوضوء أنكر ذلك وقال: ما هذا السرف؟ فقال سيدنا سعد: أفى الماء سرف يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم وإن كنت على نهر جار. فالأشياء رخيصة الثمن أيضا نحتاج إلى الترشيد فيها، بأن يكون استخدامنا لها على قدر الحاجة فقط، وليس معنى رخص ثمنها أن نشترى فوق حاجتنا ونلقى بالمتبقى فى القمامة.
وكذا السلع المدعمة كالخبز مثلا لا يجوز إساءة التعامل معه، بحجة رخص سعره، ولا ننسى أنه يكلف الدولة أضعاف ثمنه وهناك من لا يجدون رغيفا واحدا يقتاتون.ومن هنا فإنه ينبغى أن تعلو فى ضمائر الجميع الرقابة الذاتية، وأن يترك ذوو اليسار غير المستحقين للدعم ـ ممن لا يزالون يحصلون عليه ـ ذلك للفقراء، وعلى كل من يحصل على الدعم أن ينفقه فى محله.
ظروف استثنائية
وقال الدكتور نبيل السمالوطى أستاذ علم الاجتماع بجامعة الازهر: يجب أن نعلم أولا أننا فى ظروف استثنائية وفى مرحلة إعادة بناء، والظروف الاستثنائية تقتضى إجراءات استثنائية أيضا، تحتاج لتضافر جهود الجميع، لذا فيجب الركون إلى الاستغلال الأمثل للموارد وترشيد الاستهلاك، مع التركيز على الضرورات والحاجيات الأساسية، والحد من الترفيهيات كألعاب الأطفال والتليفونات المحمولة والتعامل اللا محدود للإنترنت ونحو ذلك، وكذا الأطعمة الجاهزة التي، فضلا عن كونها ترهق الأسر، فإنها قد تضر بالصحة وتتسبب فى السمنة، هذا بالإضافة إلى أن كل إنسان لديه إيرادات ومصروفات، وكلما كانت المصروفات أقل من الإيرادات كان مزدهرا وكانت حياته سعيدة، ولكن بعض الناس لا يراعى ذلك.
فى التدخين وأعباء الزواج
وأضاف: والظروف الاقتصادية التى نمر بها تستوجب أيضا مجاهدة المدخنين أنفسهم، ومحاولة الإقلاع عن هذه العادة السيئة، أو الإقلال منها قدر المستطاع، فإذا كنا نتحدث عن الترشيد فى المباح، ففى غير المباح من باب أولي، لاسيما أن ضرر التدخين المادى لا يقتصر على سعر السجائر والدخان فقط، بل يمتد إلى تلوث البيئة وإضعاف الصحة والإنتاج وجلب الأمراض، وكل ذلك يحتاج إلى مال للتغلب عليه وعلاج سلبياته.
ويتصل بالترشيد أيضا الإقلال من نفقات ومتطلبات الزواج فيكفى الضرورى فقط، ولا داعى لأعباء تثقل كاهل الشباب وتؤخر سن زواجهم، كالمبالغة فى الأجهزة الكهربائية والأثاث، وجهاز العروسة متعدد الأنواع، خاصة ما يعرف بـ «النيش» ومحتوياته، فهذا كله يحتاج إلى الترشيد والوقوف على الضرورى فقط..
كما طالب أجهزة الإعلام بالحد من الإعلانات المسمومة التى تلهب احتياجات الأطفال إلى الشراء والنفقة فى الوقت الذى يعانى فيه الآباء قلة الدخل، ويجب ان تتضمن مناهج التعليم من الحضانة الى الابتدائى والى الإعدادى ما يدعو الى ترشيد السلوك الاستهلاكى والانفاق وأثر ذلك على مستوى الفرد والأمة.
الإنفاق المتوازن
وتؤكد الدكتورة إلهام شاهين ـ مساعدة الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية لشئون الواعظات أهمية التوسط فى الإنفاق المتوازن مشيرة إلى أن الإنفاق المتوازن يُثرى حركة الحياة، ويُسهم فى إنمائها ورُقيّها، لذا فالشعوب المبذرة والمقترة تبقى فى مكانها لا ترتقى وكذلك الأسر والجماعات والأفراد، فالقرآن يضع لنا دستوراً حاسماً وَسَطاً ينظّم الحركة الاقتصادية فى حياة المجتمع، ويحقق الارتقاء الفردى والاجتماعي، قال تعالي: «واَلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً».
دور المرأة
وأوضحت د.إلهام أن للمرأة دورا مهما فى عملية الترشيد، ففى الطعام: بألا نطهو فوق حاجتنا، ولا نضع على المائدة إلا ما نأكله فقط، وأن نحافظ على الخبز ونحفظ ما تبقى منه، نستخدمه فى وجبة لاحقة، ولا نلقيه فى القمامة، وهنا نلفت إلى ضرورة أن تحرص ربة المنزل على جذب أبنائها لطعامها، وعدم تعويدهم على الأكل الجاهز، وهو ما يزيد الأعباء المالية فضلا عما يصاحبه من تلوث أو أمراض، وعليها أن تتفنن فى إعادة تدوير الأطعمة المتبقية لاستخدامها مرة أخري، أما ما تبقى ولا نرغب فيه فلنعطه أحد الجيران أو المحتاجين، بعد أن نهذبه ونضعه فى صورة جيدة لا تجرح مشاعر آخذيه.
رابط دائم: