نهاية السبعينيات من القرن الماضى سجلت الظهور الأول لـ«مكاوى سعيد» فى وسط القاهرة، وعلى مدى أربعة عقود بعد هذا التاريخ، أصبح صاحب «مقتنيات وسط البلد» الذى نحتفل بذكرى ميلاده الـ63 هذا الأسبوع، علامة بارزة للحركة الثقافية المصرية، ورغم أن الشهرة جاءته متأخرة من باب الرواية، عندما صعدت روايته «تغريدة البجعة» للقائمة القصيرة لجائزة البوكر، فإن «ميكي» كما يناديه اصدقاؤه كان لاعبا مركزيا فى مجتمع وسط البلد قبل ذلك بكثير.
صدمة رحيل مكاوى سعيد بشكل مفاجئ، جعلت من عرفوه كاتبًا وإنسانًا، فى حالة يرثى لها، خاصة مع حرمانه من فرحة صدور كتابه الجديد، الذى خرج للنور بعد وفاته، ويشتبك فيه مع التاريخ الاجتماعى والفنى غير الرسمى للعاصمة طوال ما يزيد على 200 عام، يحمل الكتاب عنوان «القاهرة وما فيها» وصدرت طبعته الثانية أخيرا عن الدار المصرية اللبنانية.
عمل «سعيد» على الكتاب خلال المرحلة الأخيرة من حياته ولمدة تجاوزت الـ3 سنوات بشكل منظم ودقيق، بهدف فتح الباب لتوثيق القاهرة وأحداثها وشخوصها الخفية. يستكمل مكاوى سعيد فى هذا الكتاب ما بدأه فى كتابيه «مقتنيات وسط البلد» 2008، و«كراسة التحرير» 2012، اللذين حققا نجاحا طاغيا، بعد أن كشف من خلالهما الكثير من أسرار التاريخ غير الرسمى لوسط البلد، واحياء الحكايات الجانبية لسكانها، انطلاقا من خبرته التى جعلته أشهر وجوه مقهى «زهرة البستان» وهى البقعة التى عرفت بأنها منطقة مثقفى القاهرة، ولكن فى الكتاب الأخير توسع مكاوى فى رصد التاريخ الجانبى والحكايات الساخرة ليشمل التاريخ الاجتماعى والفنى للعاصمة ككل خلال القرنين الماضين، رغم أنه كان ينوى فى البداية أن يقتصر كتابه على رصد منطقة جاردن سيتى فقط.
يكشف مكاوى فى مقدمة الكتاب أسرار ولعه بالقاهرة، وإصراره على التعرض لها ودراستها، ولا يناقش أحداثا تاريخية بعينها، ولكن يبدو أن اختيار الموضوعات قائم على خشية صاحب الكتاب من أن تضيع تلك التفاصيل تحديدا فى طى النسيان، ويدق مكاوى ناقوس الخطر فيما يخص طريقة تعاملنا مع الأرشيف ومحتوياته، من صحف ودوريات وصور أو أفلام سينمائية، مؤكدا أننا نتعامل مع تاريخنا باستهتار بالغ.
الكتاب تصدر غلافه الخلفى لقطة فوتوغرافية لمكاوى فى المقهى التقطها له الفنان عماد عبد الهادي، ويضم بين صفحاته حكايات ساخرة عن أيقونات الفن فى مصر، أم كلثوم ومحمد فوزى وعبدالفتاح القصرى وتحية كاريوكا ونجيب الريحانى وزكريا أحمد والقصبجى وسامية جمال وأنور وجدى وغيرهم، كما يتعرض للعديد من معالم العاصمة التاريخية مثل بركة الأزبكية وقصر عابدين.
ويقدم الكتاب الصادر فى طبعة فاخرة من 488 صفحة، وجبة دسمة لعشاق التاريخ والفن، كما يكشف مفاجات مذهلة، منها ضياع العديد من صور تاريخنا خلال العقود الماضية، بسبب بيع عائلات المصورين للنيجاتيف بعد وفاتهم لبائعى الروبابيكيا، الذين لم يدركوا أهميتها واعتبروها قطعا من الزجاج، فأزالوا الصور السلبية للحصول على كميات من الفضة، وباعوا الزجاج بأبخس الأسعار. انتقد مكاوى بعض هذه المؤسسات التى صارت تتقاضى أموالا عند منح حقوق هذه الصور للمصريين أصحاب الحق الأصلي، وذلك باعتبارها مالكة النيجاتيف، دون الأخد فى الأعتبار أن الأشخاض والمعالم مصرية، والأرض التى تم التصوير عليها مصرية، ولم يدفع المصور لأحد مقابل أخذ هذه اللقطات إلا بعض الفتات، وينادى صاحب «تغريدة البجعة» بأن هذا الجشع الساذج سوف يضيع ذكرياتنا وتواريخنا الشهفية، ولذلك فيجب أن نعيد نشرها والكتابة عنها فهى تاريخنا الحقيقى غير المكتوب، وأنه بذل كل ما يستطيع فى تسجيل بعضه عن طريق الكتب والصحف والمعايشة والأحاديث الشخصية مع المخضرمين.
إنتاجات «مكاوي» فى محطته الأخيرة، لم تقتصر على مجهوده البحثى وكتاباته الساخرة فقط، ولكن كان للأدب نصيب منها، بعد أن تم العثور على مجموعة قصصية جديدة لم تنشر من قبل على حاسبه الشخصى بعد رحيله، شقيقة الراحل السيدة فاطمة سعيد كشفت لـ«الأهرام» تفاصيلها، وقالت: تلك المجموعة عمل عليها أخى لمدة طويلة، نحو خمس سنوات، ونشر منها قصصا فى صحف ومجلات مختلفة، واستمرت عملية الكتابة فى تلك المجموعة حتى وفاته، حتى أن بعض القصص لم يستكمل كتابتها، وكانت موجودة بالحالة التى توقف عندها، ما سينشر فقط هو ما تم الانتهاء منه، ووقع عليها باسمه، أما ما لم يمهله القدر لاستكمالها، فهى خارج المجموعة الجديدة المقرر صدورها خلال العام الحالى عن دار مصر العربية، من عناوين القصص التى تنشرها الأهرام للمرة الأولى «قبل ساعة الحظر ــ ثرثرة شتوية ــ فتاة تقيم بمفردها ــ أحلام».
رابط دائم: