يعد الصراع العربى الإسرائيلى من أعنف وأطول الصراعات الدولية عمراً، ولا يزال يشهد تحولات متصاعدة فى طبيعته وتشعبه وتمدده مع قضايا المنطقة، تلك التحولات لم تقتصر على الأرض والواقع المادى الذى مازالت تتنوع فيه طرق المقاومة الفلسطينية توازيا مع مسار سياسى متعثر ومحبط بل امتدت أيضا للفضاء الإلكترونى الذى بات ساحة حرب عربية إسرائيلية شاملة لا تقل خسائرها المادية عن خسائر الحروب التقليدية.
وهو ما يبرزه كتاب «الجهاد الرقمى: المقاومة الفلسطينية فى العصر الرقمى» لإريك سكاريه، الباحث فى قسم الدراسات الثقافية واللغات الشرقية فى جامعة أوسلو، الذى يسد فراغا كبيرا فى الدراسات التى تناولت المقاومة الرقمية الفلسطينية، والنضال العربى من أجل القضية الفلسطينية فى الفضاء الإلكترونى وفاعليته وتأثيره، وعما إذا كانت تشكل ظاهرة فى حد ذاتها، وحدودها والطرق التى تتفاعل بها ومن خلالها سواء فى الفضاء السيبرانى أو بين هذا الفضاء والواقع المادى الموازى له.
لا يرى سكاريه النضال والجهاد الإلكترونى الفلسطينى بمعزل عن حركة المقاومة الفلسطينية نفسها، ويفرق بين فعل «المقاومة « باختلاف أنواعها كعمل شرعى يستخدم كل الوسائل المتاحة لإنهاء الاحتلال كحالة سياسية قائمة وبين «الإرهاب» على اعتبار أن المقاومة حق شرعى للشعب الفلسطينى من أجل إقامة دولته، ومقاومة الاحتلال الاسرائيلي، لذا فإن القرصنة الفلسطينية هى وسيلة لتحدى الاحتلال والمحتل فى المجال الرقمى ، إما عن طريق زيادة وعى المجتمع الدولى وإما عن طريق انتهاك الحياة اليومية الإسرائيلية.
يرصد الكتاب كيف اختلف تطور الانترنت فى فلسطين عن تطوره فى بقية العالم العربى من خلال صلته الوثيقة بإسرائيل التى أحكمت السيطرة على البنية التحتية فى الأراضى الفلسطينية بما فى ذلك خطوط الهاتف، مبرزا كيف يرتبط ذلك بالتحول الإسرائيلى من الجيش الصناعى إلى المجمع العسكرى الرقمى والصلات الوثيقة لقطاع تكنولوجيا المعلومات المتطور بالجيش الإسرائيلى، وكيف أصبحت إسرائيل واحدة من أكثر منتجى التكنولوجيا العالية أهمية إلى حد تسمية مجموعة شركات تطوير وإنتاج تكنولوجيا المعلومات فى تل أبيب بوادى السليكون لتقبع بالمرتبة الثانية عالميا بعد وادى السليكون الأمريكى.
أدركت إسرائيل ضرورة تطوير صناعة تكنولوجيا المعلومات، بحيث شكلت نسبة 80% من صادراتها الصناعية عام 2001، لتحتل المرتبة الثانية عالميا بعد الولايات المتحدة فى تصدير المنتجات والخدمات التكنولوجية.
إلا أن عدم وجود خطوط فاصلة بين التطبيقات العسكرية والمدنية لتكنولوجيا المعلومات أوجد ارتباكا فى هذا القطاع حيث أصبحت حلول المراقبة أحد أبرز الصناعات الفائقة أهمية بإسرائيل حيث تخصصت أكثر من 416 شركة إسرائيلية فى الأمن الوطنى وأكثرها فى المراقبة.
ويعد الجيش الإسرائيلى أساس تلك الشبكات التقنية الفائقة، فهو يلعب دورا مهما فى قيادة الشباب الإسرائيلى إلى مجال تكنولوجيا المعلومات من خلال وحدات النخبة، الأمر الذى جعل إسرائيل فى طليعة مجالات معينة مثل الاتصالات اللاسلكية والشبكات وأمن البيانات والتشفير.
كل ذلك يكشف كيف يقوم الفلسطينيون بمقاومة ومواجهة جيش متفوق من حيث الأسلحة والتكنولوجيا، وكيف انتقلوا بالصراع إلى منطقة تفوق هذا الجيش خلال النضال الإلكترونى، برغم محاولة إسرائيل المستمرة تحجيم حصول الفلسطينيين على أى تكنولوجيا متقدمة حتى تقنية الجيل الثالث للاتصالات.
يشير الكتاب إلى أن نشاط قرصنة المواقع الإلكترونية الإسرائيلية بدأ بنهاية التسعينيات من القرن الماضى مع فشل المفاوضات واندلاع الانتفاضة الثانية التى تزامنت مع اندلاع حرب إلكترونية عربية ضد إسرائيل تحت دعوات لـ«الجهاد السيبرانى» حيث تم اختراق 548 موقعًا إسرائيليًّا، فى الفترة بين يوليو 1999 وأبريل2000، شارك فيها قراصنة من الخليج ولبنان وسوريا مثل السعودى «أوكس عمر» الذى أطلق هجمات «حرمان الخدمة» على مواقع خطوط العال الجوية الإسرائيلية وسوق تل أبيب للأوراق المالية.
كما يسلط سكاريه الضوء على فريق قراصنة غزة أو كما يطلق عليهم «هاكرغزة» الذى تشكل عام 2007 ويقوده ثلاثة قراصنة فلسطينيون من قطاع غزة ويضم فلسطينيين والعديد من «الشركاء» من دول عربية أخرى، حيث يتخصص الفريق فى اختراقات المواقع وقرصنة صناديق البريد الإلكترونى من أجل هدف محدد » إلحاق ضرر اقتصادى مباشر عبر فقدان ملايين الدولارات سنويا نتيجة عمليات اختراقها وتدميرها» وتؤثر هذه الهجمات الإلكترونية سلبيا على سمعة الخوادم والمجالات الإلكترونية الإسرائيلية، مما يخفض الاستثمارات فيها؛ فتضر الاقتصاد الإسرائيلي، بالإضافة إلى شن حرب نفسية وهو ما يحدث عبر اقتحام الحياة اليومية للإسرائيليين عندما تتم مواجهتهم بصور النساء والأطفال القتلى فى غزة التى قد تظهر على شاشتهم بدلا من بيانات حساباتهم المصرفية.
ربما تتفق مجموعة قراصنة غزة مع قراصنة كتائب الأقصى فى استغلال الحرب النفسية إلا أن قراصنة حركة الجهاد الإسلامى تربط صراعها الإلكترونى بالصراع الفعلى على أرض الواقع مثل تتبع ومراقبة الجنود الإسرائيليين والتخريب المباشر عبر التشويش على خطوط الهاتف لتعقيد عمل الاحتلال.
ولا يعرف جميع أعضاء «هاكر غزة» بعضهم البعض ولكنهم يتواصلون خلال منتدى سرى، ويتواصلون أيضا مع ألوية المقاومة الإلكترونية الأخرى، ونجح الفريق فى إثبات كونه مستقلا غير تابع لأى فصيل سياسى حتى يستقطب دعم الشعب الفلسطينى بأسره، ويستقطب المزيد من القراصنة ليصبح عابرا للأيديولوجيات، يبرز سكاريه التناقضات الأيديولوجية المختلفة لفريق «هاكرغزة» برغم أن الإسلام السياسى هو المشترك بينهم، ويشير إلى أن أهدافهم ومطالبهم قومية وعلمانية.
هم يعيدون تعريف أنفسهم من مجرد فلسطينيين عاديين إلى أفراد مستقلين فى المقاومة وهو اتجاه برز بشدة بين الشباب الفلسطينى كما حدث فى ظهور تيار شبابى جديد عام 2011 فى غزة عرف باسم «انتفاضة شباب حراك غزة» لفت انتباه العالم كله بانتقاده المؤسسات الفلسطينية وحركتى فتح وحماس مثلما انتقد الاحتلال الإسرائيلى. هذا الإحباط الذى عانى منه الشباب الغزاويون والفلسطينيون عموما بسبب ما يعتبرونه فسادا وانعدام كفاءة فى حركتى فتح وحماس دفع بالكثيرين منهم إلى المقاومة المستقلة بعيدا عن الانتماءات السياسية وأتاح لهم الفضاء الإلكترونى وأدواته الفرصة لتقديم أنفسهم وتحويل الصراع والمقاومة إلى مستويات أخرى.
دائما ما كانت تفخرإسرائيل بأن كل الأسلحة التى تبيعها مجربة ومختبرة فى «بيئات واقعية» استخدمتها فى حربها ضد الفلسطينيين. إلا أن غزة تحولت أيضا مع الوقت لساحة دولية لاختبار الأسلحة السيبرانية، فأسلحة وتقنيات الحرب الإلكترونية التى تستخدمها الجماعات الفلسطينية فى غزة يتم تجريبها هى الأخرى ضمن صراع مستمر بين الدول العربية خاصة الخليجية وإيران من أجل الهيمنة الإقليمية، حيث تعد غزة مختبرا لتلك المنتجات.
يلفت سكاريه الانتباه إلى الدعم الخارجى الذى تحصل عليه جماعات الجهاد الإلكترونى الفلسطينية عبر المزيد من الدورات التدريبية على تقنيات وأدوات الحرب الإلكترونية وهو ما اعترف به قيادى بحماس للمؤلف كما اعترف باسم أبو أحمد، الناطق باسم لواء القدس المسلح «لسنا الجماعة الفلسطينية المسلحة الوحيدة التى تتلقى الدعم الإيرانى، ولكننا نعترف بذلك علنا، نشعر بأن هذا الامتنان لا مفر منه».
ووفقا لشركة «آدور جروب» الإسرائيلية للأمن السيبرانى؛ استثمرت قطر الملايين فى القدرات الدفاعية والهجومية السيبرانية المستخدمة فى غزة ودربت عددا من أعضاء حماس على كيفية استخدام المعدات المتطورة مثل أنظمة الكاميرات الحديثة فى نظام الأنفاق لدى حماس، وبما أن قطر ترى السعودية بمنزلة تهديد لها فإنها تستخدم غزة لإثبات ضمان أن استثماراتها فى البنية التحتية السيبرانية تأتى بثمارها ومن خلال تجريبها فى غزة يتم تحسينها باستمرار، وبالإضافة لقطر فإن إيران وتركيا والسعودية يقدمون الدعم نفسه لجماعات المقاومة الفلسطينية فى مجالات تكنولوجية أخرى.
ولكن لماذا يتركز كل هذا النشاط المقاوم فى غزة تحديدا؟ تتمتع غزة بخصوصية شديدة لذا تتركز فيها فرق المقاومة الإلكترونية فعلى الرغم من سوء الأوضاع المعيشية وارتفاع حدة التوتر والضربات المتتالية للاحتلال على غزة مقارنة بغيرها من الأراضى الفلسطينية مثل الضفة الغربية التى يقل فيها مستوى التوتر عن غزة وتزداد فيها فرص الوصول لوسائل الاتصال إلا أن وجود جنود إسرائيليين على الأرض بالضفة رفع من وتيرة المداهمات الأمنية والاعتقالات وهو أمر لا يتوافر فى غزة إلا خلال عمليات التصعيد العسكرى مما يترك حرية أكثر للمقاومة.
بالتوازى مع هجمات القرصنة يتم توظيف شبكات التواصل الاجتماعى أيضا خاصة بعد دورها فى ثورات الربيع العربي. استخدم الفلسطينيون تلك الشبكات لفضح جرائم الاحتلال، ومواجهة الهيمنة الإسرائيلية على خطاب السرد العالمى، وكان هذا واضحا بشدة فى 2014 خلال عملية «الجرف الصامد» التى استهدفت غزة، حيث انتشر هاشتاج «# انقذوا_ غزة» الموالى لفلسطين لمواجهة هاشتاج «#إسرائيل _تحت_ القصف» الموالى لإسرائيل، من أجل رفع الوعى بالقضية والوصول لجمهور أكبر.
وأخيرا كان هناك «جيش الهبد الإلكتروني»، الذى يقود الحراك الرقمى «#اهبد194»، ويهدف لاختراق السردية الإسرائيلية والتأثير على الوعى الجمعى العالمى وإيصال السردية والمظلومية الفلسطينية، ومن المثير أن «الهبد» الذى يعنى فى العربية الكذب بشدة و الضرب بقوة - بدأ أولا ضد حماس على إثر قمعها لحراك «بدنا نعيش» فلجأ الفلسطينيون المقموعون إلى النكتة السياسية بهاشتاج «اهبد» ثم تطور للانقضاض على الأكاذيب الإسرائيلية فى وسائل الإعلام العربية والعالمية وصفحات المؤثرين العالميين بشأن الوضع فى الأراضى المحتلة، عبر استخدام خمس وعشرين لغة.
ختاما, يقدم الكتاب أكثر من مجرد قصة للنضال الفلسطينى على الشبكة العنكبوتية، فهو يرصد تطور آليات المقاومة وبنيويتها فى حقبة «الجهاد الرقمى»، مما يفتح المجال لتساؤلات أكثر تطرح حاجة ملحة لمزيد من الدراسات حول مستقبل الصراع العربى الإسرائيلى، ومدى تأثير أى حل سياسى على أنشطة الصراع وتحولاته فى الفضاء الإلكترونى.
< الجهاد الرقمى: المقاومة الفلسطينية فى العصر الرقمى. إريك سكاريه. ترجمة منصور العمرى. ميلانو. منشورات المتوسط 2018.
رابط دائم: