يصعب على الكاتب مهما بلغ من قوة البلاغة أن يكتب مقالًا جامعًا مانعًا لمفكر ومترجم بحجم د. إمام عبد الفتاح إمام، الذى رحل عن عالمنا قبل أيام، تاركا فراغا يصعب ملؤه فى المدرسة الفلسفية المصرية، بل العربية التى أسهم الرجل فى تأسيس بنيتها التحتية، بما درسه، ودرسَّه، وألَّفه وترجمه، وما أشرف عليه من رسائل للماجستير والدكتوراه فى جامعات القاهرة والكويت على وجه الخصوص.
لقد كتب د. إمام وألف ما يربو على المائة كتاب، جزء منها عن المرأة مثل كتاب أفلاطون والمرأة، وأرسطو والمرأة، الفيلسوف المسيحى والمرأة، كانط والمرأة، جون لوك والمرأة، نساء فلاسفة، ولم يكرس أحد من المفكرين قبل د. إمام أو بعده هذا الحجم من الدراسات حول المرأة، ناهيك عن المنهجية التاريخية التى تناول بها تصوره للمرأة، فقد بدأ من اليونان إلى العصر الوسيط ثم العصر الحديث، وأردف بدراسة جامعة مانعة يتناول فيها النسوة الفلاسفة حول العالم. وقد وصف المرأة بـ «الرئة المعطلة» أو ذلك الجنس الآخر الذى يختلف عن جنس الرجال، وهو يقدم فى هذه الدراسات صورة كاشفة لوضع المرأة فى المجتمع العربي، تلك الصورة التى نقلت إلينا من التراث اليونانى الذى انبهر به العرب وتأثروا به تأثرًا قويًا.
وانصب مشروع إمام المركزى حول هيجل، وبدأ من رسالته للماجستير حول «المنهج الجدلى عند هيجل» التى نال عليها تقدير الامتياز، ثم ترجمة أعمال هيجل تباعًا، وقد نقلت هذه الترجمات الفلسفة الألمانية إلى الفكر العربي، واستحق عليها لقب هيجل العرب، ولم يكتف بترجمة هيجل فحسب، بل تتبع الظاهراتية واختلاطها بالمذاهب الأخرى بعد هيجل، حيث كان موضوع رسالته للدكتوراه «تطور الجدل بعد هيجل» التى استحق عليها مرتبة الشرف الأولي. ومن أهم أعماله المترجمة لهيجل محاضرات فى فلسفة الدين وهى ثمانية أجزاء، وعلم الجمال، وفلسفة الفن، وموسوعة الفلسفة، وأصول فلسفة الحق، والعالم الشرقي، المنطق وفلسفة الطبيعة، علم ظهور العقل، حياة يسوع، محاضرات فى تاريخ الفلسفة. ويلخص لنا د. إمام تجربته مع هيجل ويقول «تعلمت من هيجل أن طريق الفلسفة مرصوف بالأفكار، فهى لا تتعامل قط مع الأشياء الحسية على نحو مباشر.
وهذا هو السبب فى غموض الفلسفة وصعوبتها؛ لأنها تحتاج إلى الارتفاع من المحسوس إلى اللامحسوس مما يتطلب مجهودا كبيرا من الإنسان حيث يولد الطفل ملتصقا بالأشياء المادية ويحتاج إلى فترة طويلة ليكون قادرا على التجريد، وبعض الناس لا يقبلون عليها أبدا، مع أن الحضارة تجريد .! والناس يشكون من غموض الفلسفة دون أن يحاولوا بذل الجهد فى فهم مصطلحاتها متعللين بحجة واهية، هى أنهم لا يملكون عقولا قادرة على فهمها، مع أنهم يسلمون بأنك إذا أردت أن تتعلم صناعة الأحذية، فلابد لك أن تتدرب على هذه المهنة رغم أنك تملك فى يديك القدرات الخاصة، وفى قدميك المقاس الخاص، وما يقال على الفرد يقال على الأمة»..
لقد كان اهتمام إمام بهيجل لأنه نقطة لقاء يصب فيها الجدل القديم، وينبع منها تيار الجدل المعاصر، مما يعنى أنه وطد نفسه على دراسة الفكر فى كليته وشموله، وربط القديم بالمعاصر، وقراءة الفكر فى تجلياته. ولم يقتصر اهتمام د. إمام بهيجل على الشرح والترجمة فحسب بل توازن موقفه بالفيلسوف العربى الكبير أبى الوليد بن رشد، الذى لم يكن شارحًا لأرسطو بل أضاف له كثيرا، وأكمل كثيرا من مواطن النقص فى فلسفته، وظهر الأمر ذاته فى تجربة إمام مع هيجل، التى أضاف فيها سهولة البيان فى الفلسفة، أى أنه تدارك هيجل الذى كان ينادى بأن تكون الفلسفة واضحة للجميع، وجاءت مؤلفاته غاية فى الصعوبة.

وأما عن منهجه فى الترجمة فقد تميزت ترجماته بوضوح الأسلوب، وسعة التعليق والشرح التى تنم عن القراءة والاطلاع الواسع الغزير، وهذا ما يفتقر إليه بعض المترجمين الآن. وقد وضع د. إمام نصب عينيه المثل اللاتينى القائل «كل مترجم خائن» الذى يعنى أن النص يفقد دلالته إذا لم يعبر عن فكر صاحبه أو يزايد عليه، وحتى لا يقع تحت طائلة هذا المثل آمن بأن اللغة أداة العقل الأولى بعد الوعي، وبنية تصنيف الدلالة أداته الثانية، والترادف والتضاد أداته الثالثة، والاصطلاح أداته الرابعة، وكل منها مبنيٌ على ما سبقه، إلا أنه فى مسألة الاصطلاح فلنا معه وقفة وهو يروى لنا نصائح زكى نجيب محمود له بعد عامين من ترجمة هيجل، الذى لم يفهم ما يترجمه عنه حيث قال له «اجعل من الاصطلاح ما هو أقرب إلى نفسك، يعنى أن القاموس جزء منك وليس كلك»، وأما ترجمة النصوص المقدسة فلا تحتاج إلى ترجمة فوق ترجمتها، فإن تصادف وجود نص مقدس فى الترجمة انقله من العربية؛ لأنه لا ينبغى إعمال العقل فى ترجمته وإلا أصبحت كمن ترجم «فى البدء كانت الكلمة» وهى فى العربية «فى البدء كان الكلمة»، وهنا بون شاسع بين الجملتين؛ فالأولى تقصد اللغة، والثانية تدلل على المسيح أو اللوجوس أو العقل الإلهي.
ويرى إمام عبد الفتاح أن هناك من المصطلحات ما هو غامض ومهم فى آن، فهو غامض بسبب ما طرأ عليه فى شتى العصور من تحوير وتعديل بالحذف او الإضافة، وهو مهم؛ لأن الفلاسفة لا يفتئون يستخدمونه فى مذاهبهم ويستخدمه معهم الدارسون من كل نحلة ولسان، بل يتعدى هؤلاء جميعًا ليصل إلى رجل الشارع دون أن يحاول أحد قط إزالة ما يحمله المصطلح عبر تاريخه الطويل من طلاسم وألغاز. وفى اعتقاده أن هذا النوع من المصطلحات لابد أن يثير طموح الباحثين- خصوصًا فى مطلع شبابهم، وضرب مثلًا على هذا بكلمة مقولة التى يختلف سياقها عند أرسطو وراسل وكانط وهيجل، ويعتقد أن هذا الاختلاف لابد أن يكون محفزًا للباحث الشاب، بحيث يجعل من المقولة موضوعًا لبحث أكاديمي، ويحاول أن يصنع لنفسه تصورًا لإيضاح الاختلاف.
وما يقال عن مصطلح المقولة يقال عن مصطلح «الجدل» بالغ الأهمية منذ ظهوره مع بدايات الفلسفة الأولي، فهو مصطلح استخدام قبل سقراط وبعده على مدار حقب الفلسفة المتباينة، وبفضل الوجودية والماركسية فى الفلسفة المعاصرة كانت له أهم خاصة، فأصبح هناك جدل الطبيعة وجدل المجتمع، وجدل للذات، وجدل للعلم، وجدل للعواطف، وجدل للأفكار، ومع ذلك فإذا تساءلنا ما الجدل؟ كانت الإجابة مستحيلة بدون دراسة للتاريخ الطويل الذى مرت به كلمة الجدل من أفلاطون حتى يومنا الراهن فيما يقول سيدنى هوك.
وأعتقد أن هذه الرؤية التى يوجهنا إليها د. إمام غابت عن جامعاتنا التى انفصل فيها العقل عن الجسد والعمل عن النظر، والتى تدنى فيها أكثر القول وانحرف أكثر العمل فى هذا الزمان، خصوصا فى انقطاع الرأس عن الجسد، فأصبحنا نكتب بلغة ونفكر بأخري، أو كما قال شيخ المؤرخين جمال حمدان: «إن مصر رأس كاسحة وجسد كسيح» وقد كسح ما فى رءوسنا من وهم ما فى أيدينا من حقائق الوجود.
لقد كان إمام ملاحًا خبيرًا بالبحار الثائرة ذات الأمواج الهادرة، ومضى بالسفينة فى المسالك الآمنة، وانتهى بها إلى الميناء المطلوب والمرفأ المنشود،رحم الله الفقيد فيما كتب وغفر له فيما ترجم.
رابط دائم: