رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

بين «الأوركسترا» و«الصولو»..
حين تعزف الأقدام موسيقى الشعوب

خالد عميرة

الساحرة المجنونة ليست مجرد «كرة من الجلد يطاردها اثنان وعشرون لاعبا وتتقاذفها أقدامهم لمدة 90 دقيقة» كما يراها القصاص والشاعر الأرجنتينى الكبير خورخى لويس بورخيس، وليست مدعاة للسخرية أو الحط من قدر لاعبيها كما تعامل معها توفيق الحكيم، لكنها حلم الفقراء وطموحهم المشروع نحو حياة أفضل، وصرخات المكبوتين تنفجر بها حناجرهم غضبا أو فرحا، والمساحة الخضراء التى لا يعلو فيها صوت فوق صوت الموهبة والمهارة.. فلا وساطة هنا ولا محسوبية، وهى «مملكة الوفاء فى الهواء الطلق» كما يقول المفكر الإيطالى أنطونيو جرامشى.
...................

هى 90 دقيقة يتحرر فيها الجميع من كل القيود والهموم، ويتحدث خلالها وحولها الجميع بنفس القدر من الدراية والوعى، ويسخر فيها الجميع من آراء الجميع، لا فرق فى ذلك بين عامل بسيط يتابع مباراة على مقهى شعبى بأحد حوارى القاهرة، وأولئك «المحفلطين» الذين يتصدرون الاستوديوهات التحليلية وقد صبغوا وجوههم بالكريمات الملساء وشعورهم ب «الجيل» اللامع وكلماتهم بالعبارات «الفخيمة» من نوعية «التمركز الدفاعى» و«العمق الهجومى» و«تدوير الكرة» و»مربع العمليات»، تلك العبارات التى يتقاضون مقابلها ملايين الجنيهات دون أن يهتم بآرائهم أحد، فكرة القدم أبسط من ذلك بكثير، وهى المساحة الزمانية والمكانية الوحيدة كاملة الديمقراطية والحرية فى العالم، والتى يتساوى أمام صخبها البشر جميعا.

وكرة القدم ليست «لعبة» مثل جميع الألعاب، وإلا فلماذا.. وكيف اكتسبت تلك الشعبية الطاغية فى كل البلاد؟، حتى أصبح عدد لاعبيها المسجلين رسميا على مستوى العالم حوالى 250 مليون لاعب، وعدد من تابعوا مباريات المونديال الأخير 2018 وصل إلى 3.57 مليار شخص، أما عدد مشجعيها الفعليين فربما لا يختلف كثيرا عن عدد سكان الكرة الأرضية.

هل ما منح تلك اللعبة الآسرة شعبيتها الجارفة بساطتها وعدم تعقد قوانينها (بعكس كرة القدم الأمريكية أو الرجبى مثلا)؟، أم قلة كلفتها (بعكس الفروسية أو التنس أوالأسكواش) حيث لا تحتاج إلا لكرة من المطاط وكومتين من الرمال أو حقيبتين مدرسيتين تشكلان حدود المرمى؟، أم أن ذلك يرجع لعدم حاجة لاعبيها لبنيان خاص (بعكس كرة السلة أو الطائرة أو اليد)؟، فكل إنسان يمكنه ممارستها.. النحيف والمكتنز، الطويل.. والقصير، كما أن أى عدد من الأصدقاء يمكن أن ينقسم لفريقين وفق مساحة الملعب المتاحة.

لا شك أن كل ما سبق ساهم فى زيادة شعبية اللعبة، إضافة لذلك السبب الأهم، وهو ذلك الصراع الممتد لـ 90 دقيقة كاملة من الجهد والعرق والركض والتمرير والمراوغة، صراع من أجل إحراز هدف.. أو منعه، صراع للمرور من المدافع.. أو إيقاف المهاجم، صراع ضد عقارب الساعة لإنجاز المهمة قبل صافرة النهاية، صراع ربما ينتهى بلا أهداف (عكس كل اللعبات) لكن تبقى فى النهاية المتعة حاضرة وشبه مكتملة. هذا الصراع الذى يجعل المباراة أشبه بمعركة حربية بين جيشين (فريقين)، لهما «مقدمة»، و«مؤخرة»، و«جبهات للهجوم»، و«منطقة للمناورات» من يسيطر عليها يحقق النصر غالبا.

لكن هذا الصراع أو تلك المعركة تتم فى إطار قواعد «اللعبة»، المشبعة بالمتعة والمرح وروح الفن.. حيث «الإيقاع» و«التناغم» و«الرقص» و«الترقيص»، و«فن الكرة» يمنح كل فرد من أفراد الفريق المساحة للتعبير عن نفسه، والعزف منفردا (صولو)، شريطة ألا يخل ذلك بإيقاع الفريق ككل، فالإيقاع عنصر حاكم فى كرة القدم، يجعلها تتماس كثيرا مع الفن عموما، والموسيقى والرقص على وجه الخصوص، ولعلنا نلحظ ذلك بمتابعتنا أسلوب كل بلد فى ممارسته كرة القدم، ومدى ارتباط هذا الأسلوب بفنون هذا البلد، فأبناء أمريكا اللاتينية الذين يعشقون الرقص ويمارسونه منذ الصغر(السامبا والتانجو)، يغلب عليهم الميل للفردية واستعراض المهارات الخاصة فى المراوغة أو(الترقيص)، وهذا ما تسهل ملاحظته بوضوح بين لاعبى البرازيل عبر الأجيال المختلفة (بيليه.. رونالدينيو.. نيمار) والأرجنتين (ديستيفانو.. مارادونا.. ميسى)، أما اللاعبون الألمان مثلا، ممن تربت ذائقتهم على سماع ما اشتهرت به بلدهم من الموسيقى الكلاسيكية والسيمفونيات التى تعزفها «أوركسترا» كاملة، فهؤلاء تنمو لديهم موهبة العمل الجماعى والإعلاء من روح الفريق، لذلك فقلما نجد بين صفوف المنتخب الألمانى لاعبا ذا مهارة فردية فذة، والأمر نفسه ينصرف إلى إيطاليا حيث يستمد الفريق روحا جماعية تشبه جماعية العروض الموسيقية الأوبرالية، أما فرنسا حيث الجمال والأناقة، وعارضات الأزياء اللاتى «يتمخطرن» فوق خشبة العرض، فنجد أن طبيعة ذلك الفن سمحت، أو ساهمت فى ظهور نوعية من اللاعبين المهرة مثل «بلاتينى» و«زين الدين زيدان»، فمن شاهد هذين اللاعبين بالتحديد يمكنه ببساطة أن يلحظ مدى تشابه خطواتهما فوق البساط الأخضر بخطوات عارضات الأزياء، حيث الخفة والرشاقة، وحيث باطنا قدميهما لا يكادان يطآن الأرض.

لكل بلد إذن من فنه نصيب بين لاعبيه، لكن أى الفنون أبقى؟.. وأيها له الغلبة.. الفنون الفردية أم الجماعية؟، ربما أشار المهاجم الإنجليزى الشهير جارى لينكر للإجابة دون قصد حين قال: «كرة القدم لعبة يواجه فيها أحد عشر لاعبا.. أحد عشر لاعبا آخرين، وفى النهاية تفوز ألمانيا»، فالجماعية هى الأساس فى تلك اللعبة، لكن التاريخ قد ينحاز أحيانا (ونادرا) لأصحاب الموهبة الفذة، ولنا فى دييجو أرماندو مارادونا الذى حمل رفاقه من أنصاف الموهوبين بالمنتخب الأرجنتينى إلى منصة التتويج فى مونديال 1986 بالمكسيك.. ولكن من فعل مثل مارادونا (قبله أو بعده)؟.. وكم مارادونا فى التاريخ؟.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق