وصلت إلى غرفة تكريم الإنسان فى الرابعة وعشر دقائق عصرا، سألت رجل العنبر إن كان قد وصل الأستاذ إبراهيم عمارة؟.
كان يحاول خلع «قفاز» ملتصق بيديه، فيمط فيحايله، ويلسعه، فيحاول، ويحايله على مراحل، ثم ألقاه فى جردل المهملات، وتناول فوطة معقمة ومسح مقبض باب غرفة الأمانات، ورفع بيده الأخرى ملفا أخضر، ومسح بصمات على ترابيزة أولومونيوم، وجفف سطحها بعناية، دفعها بطرف أصابعه فجرت على عجلاتها بصوت مكتوم، أعاد فوقها ملف الوارد ووضع داخله الورقة الجديدة، ونظر فيها.. وقال: وصل ماشاء الله وشه زى الفل..
ولم أفهم معنى زى الفل لوصف جثة ميت هرسه وحش الأمراض ولم يبق فيه إلا عظام مكرمشة، لكنى أدركت أن قصده تزيين المكانة الجديدة التى لم يخترها إبراهيم ولا كل محبيه، هدوء الحركة فى غرفة تجهيز الموتى يعبر عن الأمل فى الحصول على أعلى الدرجات فى مرحلة الاستسلام الكامل والرضا بقدر الله، لا مجال لمقاومة الموت غير التسليم بحقيقته، ولا تجدى فى هذا العنبر أى محاولات للتشبث بالبقاء على قيد الحياة، دون أن أدرى هدأت نفسى ربما لشعورى بانتهاء آلام زوج أختى، آلمنى عذابه فى كل مراحل المرض، وحين شعر وأحس وسمع بحالة العجز واليأس التى وصل إليها كبار الأطباء وهم يشاهدون وحش الأورام يلتهم أعضاء جوفه عضوا عضوا.
اكتفى بالاستسلام والفرجة، بدأ الوحش بإغلاق القناة المرارية ثم المعدة ثم ضغط الوريد البابى المغذى للأمعاء، تنقل طوال ثلاثة شهور من العيادة الخارجية إلى جراحة الباطنة وعنبر الأورام والعناية المركزة والحالات الحرجة، كم طالبته بالاحتمال والتمسك بالرغبة فى الحياة فالنجاة بإرادة المريض، سايرنا عدة خطوات ثم بدأ يتفرج علينا وعلى عجزنا وأدرك أنه سلك طريقا آخر نحو حياة جديدة غير التى ندعوه إليها، آلمنى فراقه، كان بكل المعانى أخى وسندى إضافة إلى كونه زوج أختى الوحيدة، عوضنى حنانهما عن رحيل أمى وأبى وقبلهما شقيقاى اللذان اختطفهما الموت فى بواكير الشباب..
:
سألت رجل العنبر النظيف فى ركن المستشفى الهادئ:
هل ممكن نسيب الحاج عندكم للصباح أم أن الإجراءات تقتضى أن يسافر إلى البلد فى الليلة نفسها بمجرد استخراج شهادة الوفاة؟
فأشار بأصبعه بخشوع وصوت مكسور:
ـ فى عينى.. اطمئنوا وتصرفوا حسب راحة الأمانة، ثم أضاف فى همس واستعداد لأن يسدى إليَّ خدمة جليلة:
ـ ما هى درجة قرابتك للمتوفى؟
رددت بانكسار:
ـ زوج أختى..
نظر خلفى.. كانت أختى قد انفجر حزنها، ولم تفلح فى السيطرة على صبرها بقراءة القرآن، وتحول أنينها إلى شهقات ونهنهات وبكاء مسموع، فتوجه الرجل لها بكلمات مكسورة:
ـ البقاء لله يا حاجة..
أمسكت المصحف بيد ومسحت الدموع باليد الأخرى، وتوقف نحيبها لثوانٍ فلم يخرج صوتها إلا بكلمة:
ـ تعيش..
ثم انفجرت فى البكاء مرة أخرى..
عرض الرجل خدماته برفق:
تحبوا تبصوا عليه؟
وضعت يدى على كتفها فنظرت إليَ ترجونى الموافقة، بعد أن كانت قبل دقائق ترفض فكرة موته وتتشبث بالبقاء أمام العناية المركزة، وانخلع قلبها حين قال لها الطبيب بجفاف: مفيش زيارة اليوم حالتك انتقلت إلى المشرحة، ظلت تصرخ فى مكانها وتقول حرام عليكو.. حرام تشرحوه.. ثم هدأت حين قلت لها أن المشرحة مجرد اسم وليس معناه أنهم سيخونون الأمانة ويمزقون الجثة ويسرقون الأعضاء..
فتح الرجل الباب وتقدمت أولا وتبعتنى أختى وانغلق الباب ذاتيا خلفها، لفحنا تيار موجة هوائية باردة تدفعها مروحة مصوبة بإحكام إلى صدر الداخلين، جف عرقى وهدأ غليان رأسى من حرارة الجو وصهد الشارع، وخلعت النظارة لأمسحها وأمسح عينى بطرف قميصى، وطلب منى أن أمسك نفسى وليهدأ قلب الحاجة، وكأنه قرأ ما جال فى نفسى للحظات من عدم تصديق أن إبراهيم قد مات، وهو الذى ملأ دنيا عائلتنا مشاريع طموحات وخططا تشغل حياتنا 50 سنة قادمة تقضى على ملل حياتنا الثانية بعد إحالتنا للمعاش، شعرت بسكينة من تسمية رجل العنبر له بـ أمانة، عكس ما كان يضايقنى وصف الأطباء له وهو حى بكلمةcase أى حالة التى كانت تتكرر على لسان الطبيب خلال حديثه عنه لزملائه وللمرضة حتى بعد انتقاله إلى عنبر العناية الحرجة، فتتعمد الممرضة وصفه بالأستاذ إبراهيم لدعم الأمل فى عزم المريض وأهله..
فض رجل العنبر غلاف علبة ورقية، وجذب منها «قفازا» مطاطيا فدلفت أصابعه بسهولة داخله وتحركت بمرونة، ثم ارتدى «قفازا» آخر فى اليد الأخرى، واتجه إلى أدراج الثلاجة بخفة، وتوقف أمام درج يحمل ملصقا مكتوبا عليه رقم 2 بخط يد بدائى بقلم فلوماستر سميك على ورقة مسطرة مفتتة من الأطراف وقد تناثرت عليها بقع صفراء وبنية، جذب المقبض فانزلق الدرج حتى منتصفه بنعومة إلى الخارج، طلب منى أن أمد يدى لأكشف الملاءة، فتحسست الملاءة ثم كشفتها كانت مكوية وتحتها الملاءة الخضراء التى اعتدت مشاهدتها عليه فى غرفة العناية المركزة، كانت باردة أيضا، لم يساورنى أى شك فى العناية وحسن الترتيب وكرم استضافة رجل العنبر، ودرجة البرودة التى تحافظ على الأمانة وطراوتها حتى الصباح، بعد أن رفضت أختى أن يسافر إبراهيم فيصل إلى البلد مع قدوم الليل، وأصرت أن يخرج مشهده من بيته وبيت أبيه فى النهار بسكينة وجلال دون صربعة.
:
كان وجه إبراهيم مدورا وممتلئاً كحالته فى عز صحته قبل أن ينشف ويجف اللحم ويصفر الجلد وقبل بروز عظام وجنتيه وفكيه مثل مومياء فرعونية..استغربت: متى اكتسى الوجه باللون القمحى المورد، وكيف فى ساعات قليلة ذهب الشحوب والذبول؟
جثوت على ركبتى ومددت عنقى وقبلت جبهته فاستقبلنى تيار رائحة باردة معطرة بالمسك، تأملت وجهه كان راضيا ومستريحا واستقبلتنى عيناه من خلف جفنيه أسفل حاجبيه وشعره الخليط من الأبيض والرمادى، وبنفس اتساع نظرة التواضع التى اعتاد أن يستقبلنى بها، نصف فتحة ونصف لمعة تتحرك فى سواد العين وسط بياض رائق خال من آثار الصفراء، أزعجنى الجلد الغائر حول جانبى فمه لعلها آثار إحكام شديد لرباط شاش أبيض لكى يبقى فمه مفتوحا للتغذية الواصلة إلى الأمعاء عندما فقدت أوردته القدرة على البلع أو استقبال السوائل بكالونات من الذراع ومن ظهر اليدين وأعلى الكتف، باستثناء الندوب التى تركتها حول فمه معركة الخراطيم بقيت على شفتيه ابتسامة فى طريقها للاكتمال، وبدا وجهه راضى القسمات، لن أنسى آخر مرة كان زائغاً مهزوماً ومصفراً، تحاورنا بالنظر كعادتنا منذ انقطعت قدرة صدره على إخراج نفس يكفى لحمل أو إرسال أصوات، أشار لى بأصبعين وعينين من خلف زجاج الغرفة فهمت منها أنه يوصينى بولديه الواقفين عن يمينى وشمالى، احتضنتهما ثم أشرت برأسى أن رسالته واضحة ومفهومة وأشرت إلى صدرى بأنهما هنا، ثم رفعت قبضتى ليشد حيله ولا ييأس وأنه سينهض لاحتضانهما بعد شفائه الوشيك.
:
جذبت أختى الدرج فخرج لآخره، ثم أمسكت يده اليمنى وأطرقت السمع لنبضتها، ثم قبلت جبهته قبلتين ونزلت برأسها وانسحبت شفتاها ولامست شفتيه واستقرت تنتظر أنفاسه التى لم تأت، مددت يدى إلى كتفيها برفق فاستجابت للفراق فاحتضنتها مستجمعا قوتى فى عدم الإجهاش بالبكاء، تركتها تبكى بصوت عالٍ وهى تشاهد زوجها ورفيق رحلتها للمرة الأخيرة بعد 35 سنة من حياة زوجية عامرة بالكد، كان وجهه يودعنا بربع نظرة، مددت يدى وأعدت الملاءة، وقبلته قبلة أخيرة من فوقها.
:
جاء ولداه أنور وأحمد، بدا لى نضوجهما المفاجئ هذه اللحظة متماسكين أنفقا كل حزنهما حول سرير مرضه ، رعاه أحمد طوال شهر شعبان، انتهت مهمته بعملية القنطرة لعزل الاثنى عشر، وبعد خروج إبراهيم من المستشفى وعودته للمنزل تفرغت أختى لرعايته طوال شهر رمضان الذى أصر أن يؤديه صائما، تركت عملها أمام إصرار الإدارة التعليمية على أن تتولى مديرة إدارة المخازن والمشتريات إلى جانب عملها فى التوجيه المالى والإدارى، توسلت إليهم أن يعفوها من أى مسئوليات إضافية حتى تجد وقتا لرعاية زوجها، رفضوا وألغوا انتدابها لتعود إلى عملها فى السنبلاوين بعيداً عن زوجها بمسافة طولها أكثر من 120 كيلو متراً، استطاعت أن تحصل بسهولة من مديرة لها قلب على إجازة مفتوحة لرعاية الزوج..
وفى ثالث أيام العيد عاد ابنه الأكبر من دبى، بعد أسبوع واحد عاوده إلحاح الكفيل، إما العودة أو شطب تأشيرة إقامته فى الإمارات، فأرسل له صورة لوالده بالواتس آب فوق سرير المرض مشفوعة بعبارة: إذا خيرت لترك والدى بهذه الحالة أو الفصل من الجنة لاخترت والدى، تسلم والده وقد كان وزنه 70 كيلو جراماً وسلمه إلى العناية الفائقة وقد هبط وزنه أقل من 30 كيلو جراماً..
:
نجح الولدان فى استخراج تصريح الدفن، عرفا طريقهما للرف رقم 2 وتبادلا احتضانه والأنين فى صدره الذى صار ضيقا فلم يسعهما معا، تركا الدرج مفتوحا لرجل العنبر، واستأذننى أنور أن يفضى لى بسر يقلقه، وقال: ياخالى أشعر إن أخى بكى على أبى أكثر منى، قلت له لأن أخاك عاد من السفر قبل وفاة أبيه بيوم واحد، وهو آخر من لمسه وهو على قيد الحياة، كانت مشاهدته كانت آخر جرعة لأبيك من الدنيا، أما أنت فقد استهلكت كل طاقتك فى الحزن والدموع فى عنبر الأورام، شاهدت تدهور حالته منذ دخل المستشفى ماشياً ومتسنداً وظل بالعنبر حتى شاهدته عاجزا عن تحريك يديه..ثم سألنى أنور ثانية:
ـ أشعر أن موقف رعاية والدى ووفاته أمام عينى أكبر من قدرتى على التصرف، فهل هذا شعور طبيعى؟
فقلت له: لا يوجد رجال مخصوصون لاجتياز المواقف الصعبة، احرص أن تكون لك بصمتك..
انقطع الهمس بيننا برنين تليفونه المحمول، استمع للمتكلم ثم رد عليه: وصية والدى لابد أن تنفذ ويدفن بجوار جدى، فعاوده المتصل بسؤال فاستمع أنور باهتمام ثم أغلق السماعة بيده، وسألني:
هل وصية الدفن لابد أن تنفذ بحذافيرها حتى ولو كانت المقبرة التى سيدفن فيها بجوار والده بايشة بسبب المياه الجوفية والرطوبة، فقلت له:
هل توجد مقبرة أخرى للعائلة أو الجيران أفضل حالاً؟
فسأل المتحدث السؤال نفسه.. واستمع لثوان ثم أجابه فى حسم دون أن يعود إليَ: طالما أبى دفع مقابل بناء مقبرة جديدة تلغى وصيته ويدفن فى المقبرة الجديدة لأن التبرع فى حد ذاته اعتراف من أبى بعدم صلاحية الترب القديمة للدفن حتى لو حرمناه من جوار جدى.. ثم أنصت.. وأغلق السماعة مرة أخرى، وبقى المتحدث على الخط، وسألنى كم كيلو من اللحم تكفى فى سرادق العزاء يا خالى؟
ارتبكت.. فلم يسبق لى أن تعرضت لمثل هذا الموقف، لكنى بسرعة قسمت كيلو اللحم على ثمانية منابات وافترضت أن مائة شخص من خارج القرية سيدخل عليهم وقت المغرب بلا غداء.. من أصدقاء المرحوم وزملاء دراسته وزملاء عمله بالسويس قبل الإحالة للمعاش ومن أقاربه وأقارب أخوته وأنسابهم، وقلت لابن أختي:
قل له عشر كيلو لحم..كفاية
فأصدر أنور قراره:
ـ اشترى خمستاشر كيلو لحم..
أسعدتنى ردوده المختلفة، وضعت يدى على كتفه بعد المكالمة، وسألته مبتسماً من تحت جبل الحزن: زودت خمسة كيلو ليه؟
فقال وقد اغرورقت عيناه بابتسامة: ما يسعد أبويا هذه الأيام، أن كل شحاتين البلد تاكل لحمة فى مأتمه، وقريتنا فيها أكثر من ثلاثين شارعاً لو كل شارع حضر منه أربعة أو خمسة شحاتين..
وانقطع هذا الهمس بصوت أمه توصيه أن يقيم لأبيه أفخم سرادق للعزاء..
:
وأصر الولدان أن يبيتا أمام المغسلة ليغسلاه بأيديهما، وبعد صلاة الفجر، فى الثامنة صباحا تحرك موكب السفر، كانت كل الإشارات مفتوحة..على عكس طبيعة القاهرة فى الثامنة وسط الأسبوع صباح الأربعاء، حين توقفنا فى مدخل طريق (شبرا بنها الحر) لتجميع موكب سياراتنا، حذرنا سائق سيارة تكريم الإنسان:
ـ أن الحاج مستعجل وطريقه مفتوح، وأن سرعة السيارة بيد الميت وما علينا إلا محاولة اللحاق به..
وانطلق ونحن نحاول اللحاق به
:
وصلنا إلى غرفته فى بيت البلد فى العاشرة فتحلق حوله إخواته البنات، منحنه حقه من البكاء والنحيب، بينما انزوى أنور فى ركن الغرفة ساهماً شارداً ، وقد غاصت عيناه فى الحزن، وددت إخراجه من هذه الحالة وملت عليه وهمست: أمامك عمر طويل لتبكى وتتصدق على روحه، لكن الآن تحمل مسئولياتك لتؤم الناس فى صلاة الجنازة على أبيك، ونظر إلى ملابسه تى شيرت أسود وبنطلون جينز لم يغيرهما منذ شهر..
ثم خرج النعش من غرفة نوم إبراهيم أيام الصبا إلى المسجد الذى كان يحب الصلاة فيه..
:
فى مثل هذه الحالات ينقلون ميكروفون المسجد إلى إذاعة القرآن الكريم حتى صلاة الظهر، ويترك تأبين الميت لرزقه من برامج الإذاعة، إن كان البرنامج عن جزاء العمل الصالح وحسن ثواب الميت فى الآخرة فرح الميت وأهله بالكلمات الأخيرة التى يسمعها فى الدنيا، ولوكان موضوع البرنامج بعيدا عن ذلك يمضى الوقت فى صمت.
ردت الروح فى عروقى حين قال المذيع أن كل من مات بسبب داء أصاب البطن فهو شهيد، لكن أهل الفتوى اختلفوا فى ذلك.. تقدم رجل ستينى وأغلق الإذاعة، وأمسك ميكروفون المسجد، وبعد أن حمد الله وصلى على خير البشر ودعا لصاحب النفس المطمئنة فى نعشه ، وقال: أنه والفقيد تحابا فى الله منذ خمسين سنة، لم يفارق خياله، ثم راح يحدث زوج أختى كأنه يجلس معه ويغبطه على مؤهلاته لاجتياز حساب القبر والحصول على أعلى الدرجات، كان يذكر الخلق الذى يؤهل صاحبه لدخول الجنة مثل الجود والكرم وحسن المعاملة وطيب المعشر، ثم يقول له وأنت كنت كذلك يوم كذا .. حين فعلت كذا.. وكذا .. فمثلك لا يحزن، تمنيت ألا ينقطع كلام هذا الرجل الذى دخل قلبى كأعذب ما قيل عن إبراهيم.. وطغى الاستماع إليه فسكتت أصوات النحيب والتعديد تنصت خارج المسجد للبهجة التى تنتظره كأنه مقدم على حفل زفاف..
:
وبعد أن رجعت النفس المطمئنة إلى ربها راضية مرضية، كما بشرنا مقرئ العزاء، تفرق المعزون، وانهمك عمال الفراشة فى فك الحبال وخلع الأعمدة الخشبية، وإطفاء الأنوار، ودخلنا غرفة المسافرين، لا أعرف كيف يمر النصف الثاني من أول ليلة علينا بعد رحيل إبراهيم.
:
سألت ناجى ابن خالى، أسميه جبرتى الأسرة لروحه المرحة وذاكرته الحاضرة بتاريخ العائلات والأنساب:
ـ من هذا الرجل الذى خطف قلوبنا بحديثه العذب فى المسجد عن إبراهيم؛ بحب ومتابعة وكأنه عايشه وعد خطواته فى الدنيا؟
ندت ابتسامة غير بريئة على شفتي ناجى، كسرت غيمة الحزن، وأجابنى بسؤال واستغراب:
ـ معقول.. أنت لا تعرفه ولاتتذكر شكله؟
قلت: لا والله!
اتسعت ابتسامته قليلا.. ثم قال:
ـ هذا هو الأستاذ... الذى جاء يخطب فائزة قبل المرحوم إبراهيم..
كنت أتصبب عرقاً من شدة الحر بعد أن توقفت المراوح، فقذف ناجى النبأ ككرة من الثلج فى صدرى، رحت أحافظ عليها ألا تسيح أو تتسرب من يدى، وانتفضت من مسند الكنبة، رغم شعورى بجلال الحزن وهمست:
ـ ياااه ع الدنيا.. غيرت شكله تماماً!
فسألنى «الجبرتى» مستعرضاً معلوماته:
ـ انت فاكر أبوك الحاج عبداللطيف الله يرحمه رفضه ليه؟
تراجعت أكثر غمامة الحزن أمام طراوة خفيفة دخلت المجلس جففت كتمة الأحزان وداعبت خيالى مع ذكره اسم أبى وسيرته؛
وقلت:
ـ طبعا لأنه جاء يخطبها فى أثناء الامتحانات.. قبل أن تحصل على الشهادة الثانوية؛ فقد كان الحاج يرى أن الشهادة لا تقل عن الشرف.. سلاح البنت..
لكن «الجبرتى» قال مازحا بثقة العالم بما لا أعلم:
ـ لا طبعاً.. يا خفيف!
فقلت مستعذبا حديثه:
ـ طب ليه يا فالح؟
قال:
ـ لأن العريس صاحب النصيب كان اسمه على اسم أخيك إبراهيم الذى مات قبل الخطوبة بسنتين تلاتة، ولما أخذوا رأى الحاج عبداللطيف، ضحك، ووافق فى ثلاتة كلمات؛ سلام على إبراهيم.. ربنا أراد أن يبقى اسمه عايش فى البيت!
رابط دائم: