بزيه الأزهرى الذى يصر عليه ولم يتخل عنه رغم دراسته فى لندن وحصوله منها على الدكتوراه استقبلنا الدكتور حسن الشافعى رئيس مجمع اللغة العربية فى مكتبه العريق المتواضع بمقر المجمع معبرا عن سعادته بأن يشارك قراء لـ «الأهرام» فى مناقشة القضايا والهموم المشتركة، ومؤكدا تحقق نبوءة الإمام محمد عبده للأهرام أنه سيكون منارة للفكر والثقافة والإعلام فى مستقبل الأيام. وطوف بنا حول جهود المجمع وخططه وتجديد الفكر وشروطه والتطرف وأسبابه وعلاجه، وكشف فى تواضع عن إضافته علما جديدا إلى المكتبة الإسلامية هو «علم القواعد الشرعية الاعتقادية» وهذا هو الحوار:
فى مناسبة الشهر المبارك كل عام وانتم بخير.. لكم لا شك ذكريات رمضانية؟
كل عام ومصر والأمة العربية والإسلامية بخير.. يسعدنى أن التقى قراء الأهرام الغراء التى أقرؤها منذ الأربعينيات.أبى كان يكلفنى بأن أقرأها له وانا طفل صغير. فكنت أقرأ للشعراء محمد الأسمر وعلى الجارم وشعراء تلك المرحلة ، وكلنا نعلم أن «الاهرام» أصبحت الآن أهرامات كما توقع لها محمد عبده.
أما رمضان فله رمزية خاصة فى صلاة التراويح واستماع القرآن بقراءات متعددة، هذا على العموم. ويحضرنى ونحن صبيان صغار مشاركتنا فى استطلاع الهلال فى مكان قريب من مسجد القرية الكبير، وكانت فرحتنا شديدة بقدوم الشهر الكريم لأننا سنصوم كالكبار، وأتذكر أيضا العادات والتقاليد الجميلة: التزاور ونسيان الخلافات، وتبادل الهدايا، ومن طقوس رمضان الخاصة قراءة القرآن فى البيت فى السهرة، وكان يسمى «التسهير».
أنتم اليوم شخصية مرموقة ترأس مجمع اللغة لكن مرحلة الطفولة والشباب تحتاج إلى إضاءة.
ولدت فى قرية بنى ماضى بمحافظة بنى سويف، و»ماضي« هو أحد زعماء بنى هلال. وفى قريتى حفظت القرآن الكريم، وفى منتصف الأربعينيات، الحقنى أبى بالمعهد الدينى فى القاهرة، وربيت فيه على يد اساتذة اجلاء من بناة مصر الحقيقيين، على رأسهم الشيخ أشهب القاضى الذى قرأنا عليه ألفية ابن مالك خمس سنوات بعدة شروح.

د. حسن الشافعى رئيس مجمع اللغة العربية
هذا إذا هو سر التمكن اللغوى والتفوق العلمي.. وماذا بعد المعهد؟
بعد تخرجى فى معهد القاهرة الدينى التحقت بكلية أصول الدين، وبعد عام واحد بدا لى أن ألتحق بكلية دار العلوم، وسُمح لى فدرست فى الكليتين فى وقت واحد، وعند التخرج عينت معيدا فى أصول الدين ثم اخترت دار العلوم لأستفيد بعلوم جديدة. وقمت بعمل رسالتى للماجستير عن الآمدي، وكانت أول دراسة عن الآمدى «المتكلم». ثم أنجزت أطروحة الدكتوراه على يديْ أستاذى ومكونى الفكرى والفلسفى المرحوم الدكتور محمود قاسم عميد كلية دار العلوم. وبعد مناقشتها وطبعها اتيحت لى الفرصة للسفر إلى لندن فى بعثة علمية فحصلت على الدكتوراه، ثم عدت الى مصر لأؤدى واجبى تجاه الشعب الذى أنتمى اليه، رئيسا لقسم الفلسفة فى دار العلوم وأستاذا فيه، ثم وكيلا للكلية، ثم سافرت معارا إلى باكستان وقمت مع فريق عمل مصرى رائع بتأسيس الجامعة الإسلامية فى إسلام آباد، كما عملت رئيسا لهذه الجامعة ست سنوات.
المجمع وخطط التطوير
ومتى صرت عضوا بمجمع الخالدين؟
عام 1994، بعد انتهاء رئاستى للجامعة الإسلامية. وكان استاذى الحقيقى المرحوم الدكتور شوقى ضيف.
ورئاسة المجمع؟
باختيارى من قبل زملائي، ورغم شعورى بثقل المهمة، فإننى أسعى لتطوير عمل المجمع.
وما خطة التطوير؟
الحقيقة نحن ازاء مشاريع كبيرة متعددة، أذكر منها ثلاثة: اولها إصدار المعجم الكبير الذى سيبلغ نحو اربعين مجلدا. وسيكون اوسع ما عرفت العربية من المعاجم، ولكنه لن يغنى عن المعجم التاريخى للغة العربية الذى سيصدر عن اتحاد المجامع العربية. الثاني: أننا سنستصدر من الدولة قانونا شاملا للغة العربية، وقد أعددناه فعلا، ونوقش فى وزارة العدل، وربما يحال عن طريق مجلس الوزراء إلى مجلس النواب للبت فيه. وأخيرا: تطوير المجمع وتحديث الأدوات، وكذلك طريقة العمل طبقا للثورة الرقمية الحالية، وأرجو أن يكون المجمع فى هذا رائدا للهيئات المصرية الأخري.
من المعروف أنه سيكون هناك فرع جديد للمجمع بمدينة أكتوبر؟
نعم، هناك الآن مقر لاتحاد المجامع العربية فى أكتوبر تبرع بتكلفته «مأمون» الأمراء العرب الشيخ الدكتور سلطان القاسمي، حاكم الشارقة عضو المجلس الأعلى لدولة الإمارات العربية المتحدة. وقد وفرت الدولة المصرية مساحة الأرض المطلوبة للبناء، والواقع أن البنية التحتية لهذا المقر: المبنى والأجهزة والأدوات والمكتبة، فى طور التكوين. وأود أن أوضح أن مصر احتضنت هذا الاتحاد أربعين عاما، منذ 1971 عندما كان عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين رئيسا للمجمع ، وظل مجمع القاهرة يدعو الأعضاء ويرتب نشاطات الاتحاد ويتحمل مسئولياته ونفقاته طيلة هذه المدة.
وكيف سيكون العمل بين المقر الجديد والمقر الرئيسي؟
المهمة الرئيسية لاتحاد المجامع، وقد بدأت فعلا، هى إعداد معجم تاريخى للغة العربية، يرصد لحظة ظهور الكلمة، سواء فى العصر الجاهلى أو فى صدر الاسلام أو الأموية او العباسية او الدول اللاحقة وصولا إلى الوقت الحاضر، على لسان شوقى ونظرائه...هذا التتبع التاريخى وان كان هناك طرف منه فى المعجم الكبير، لكنه لا يستقصى ذلك..فلكل لغة حية فى العالم معجم بل أكثر من معجم أعدته أكثر من هيئة لتاريخ تلك اللغة، يرصد تطورات مفردات تلك اللغة فى الألفاظ والمعاني. ورصد هذا التطور فى كل عصر بالنسبة لكل كلمة نطقت بها العرب، وبالنسبة للكلمات الأساسية التى نسميها »الجذر« وفكرة الكتابة نفسها منذ الجاهلية حتى الوقت الحاضر، هذا هو ما يعمل فيه اتحاد المجامع فى مبناه الجميل، ويشارك فيه نحو 15 مجمعا فى العالم العربى ، وقمنا فى هذا المشروع بأمرين: أولهما إعداد المنهج ، والثانى تدريب عدد من الخبراء والمحررين بكل مجمع على حدة، فمجمع القاهرة مثلا ستكون فيه ثلاثة فرق تعمل على إنجاز مهمتها فى المعجم التاريخي. وستخصص لها الأعمال من قبل الأمانة العامة الموجودة فى 6 أكتوبر، وسيكون الإشراف الفنى والتمويل بالتعاون مع مجمع الشارقة، والعمل يجرى على قدم وساق.
ومتى تتوقع إنجاز هذا المشروع؟
خلال خمس سنوات لا أكثر إن شاء الله، وأرجو أن يتحقق هذا المشروع العظيم خلال هذه المدة الوجيزة فهو تحد حقيقي، لكننا مصممون على إنجازه.
تجديد الفكر
كتبت كتابا مهما فى تجديد الفكر الإسلامى ناقشت فيه المفهوم والدواعى والخطوات.
الحقيقة هذه قضية تشغل أوساط الفكر الدينى فى مصر والعالم الإسلامي، فترسيخ الاتجاه الوسطى ومقاومة الأفكار المنحرفة هذه مهمة وكلها الرسول صلى الله عليه وسلم للعلماء قال : «يحمل هذا العلم (يعنى العلم الشرعي) من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين ( يعنى الغلو فى الدين ايا كانت صورته) وتأويل الجاهلين (يعنى تفسير غير المؤهلين للتفسير ) وانتحال المبطلين (يعنى من يضيف الى الدين ما ليس منه). فالمهمة إذا محددة، لكن من الناحية الواقعية يضعها علماء أصول الفقه فى معادلة شبه رياضية.
كيف؟
النصوص محددة ومحصورة (القرآن والحديث الصحيح والحسن) لكن الظروف والحوادث المتجددة غير منحصرة، فكيف نُخضِع غير المحصور للمحصور إذًا لابد من الاجتهاد باستنباط الأحكام للمسائل الجديدة من الأصول القديمة.
لكن فى الواقع تتعالى أصوات تهرف بما لا تعرف فى قضية تجديد الفكر الديني.. لقد سمعت من يزعم أنه بعد وفاة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ليس من حق أحد مطلقا الحكم على احد بالإيمان أو بالكفر.
نعم، هناك شروط يجب أن تتحقق فى من يتصدى للتجديد، وأعلى الناس صوتا فى الدعوة إلى التجديد هم أقلهم كفاءة له، وأهم الشروط الواجبة فى من يتصدى لقضية التجديد حددها رجل عليه إجماع فى الأوساط الدينية وغير الدينية هو ابن رشد، فى كتابه فصل المقال:
أولا: إتقان العربية، ثانيا:الإلمام التام بالشريعة، ومعرفة الفكر الإسلامى لا جانب واحد منه فحسب، ثالثا : الإلمام بالفكر الإنساني، فمعرفة الثقافة الإسلامية وحدها لا تكفي، بل يجب أن نعرف العالم الذى نعيش فيه فالمطلوب هو الرسوخ فى العلم.
فى تجديد الفكر تدعو إلى حداثة إسلامية أصيلة، لا منغلقة ولا جامدة.. ماذا تقصد؟
الحداثة الأصيلة هى التى تواكب العصر وتعالج قضايا ومشكلات الحاضر ملتزمة فى ذلك بالأصول، أعنى أن نفسر النصوص الشرعية فى ضوء قواعد العربية والضوابط التى تحافظ على هذه الأصول. ما قدمته هو مقترحات حول طبيعة التجديد وما ينبغى أن يوضع له من ضوابط ومن أهمها ما اقترحه وحدده الفيلسوف الإسلامى الكبير «ابن رشد» كما أشرت.
هذه الرؤية هى أساس ما ذهبت اليه فى دعوتى إلى تجديد الفكر الإسلامي، وأظن ان هذه القضية تشغل كل المفكرين المسلمين وبالأخص الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر بوصفه رئيسا لهيئة كبار العلماء فى الأزهر.. وربما نجد حصادا يواجه الفكر المتطرف والأفكار الداعشية التى اقتحمت الحياة الاسلامية وقدمت وجها قبيحا للثقافة الإسلامية. وروج لذلك أعداء هذه الثقافة. ونرجو على الصعيد العملى أن تنتهى المعركة مع هؤلاء. أما المعركة الفكرية فمفتوحة ومتصلة ويتولى الأزهر وشيخه مواجهتها.
غياب المنهج
فى كتابك "مقال فى المنهج" ترى أن المنهج غائب فى دراسة العلوم الإسلامية.. لماذا يغيب المنهج؟
لأن الأساس فى الفكر هو التصدى لمشكلة. دون مشكلة لا فكر، ولحل المشكلة لا بد من أسلوب لمواجهتها ومنهج لتحليل عناصرها، وأخيرا النتائج. وقد تتحقق نتائج أو لا تتحقق، المهم أن يكون هناك أساس منهجي، وهذا ما نفتقده، لذلك أقول إن المنهج غائب.
علم جديد
أنت صاحب مشروع ثقافى فكري.. ما مشروعك؟
لا ازعم اننى صاحب مشروع، وبتواضع صادق اقول إننى أضفت إلى الفلسفة الاسلامية ودراسات علم الكلام فرعا جديدا او علما جديدا هو «علم القواعد الشرعية الاعتقادية»، أصدرت فيه كتابا أول ، وسأصدر فيه إن شاء الله كتبا أخري.
العقل والنقل
فى إشكالية المراوحة بين النقل والعقل.. لكم رؤية
الحل عند ابن رشد الذى قال إن الحكمة أخت الشريعة، وقال هذا موريس بوكاى قبل إسلامه ، قال إن الكتاب الوحيد الذى يتفق مع القوانين العقلية والمكتشفات العلمية هو القرآن الكريم.
لكن بعض رموز الصوفية أعلوا من دور العقل
فى الدراسات الحديثة هناك إدخال للعقل فى غير مجاله.
كيف؟
هناك مجال للغيب يجب أن نقبل فيه الوحى لأن العقل لا يستطيع الحكم فيه ، فالصراط مثلا وكيف يكون من الغيبيات ولا يمكن للعقل الحكم فيه هذه أمور غيبية لايتدخل فيها العقل ، وأنما يتدخل فى تفسير النصوص الزمنية التى تتعرض للأحكام، فيحدد القضية الأساسية ويقيس أو يقارن بين الفرع الجديد والتطبيق القديم وهو ما يسمى بالأصل ويجمع بينهما فى علة، مثلا الخمر حرمت ليس لأنها سائل ولا لأنها غالية الثمن ولا لأنها تصير إدمانا، ولكن لأنها تغيب العقل، وهو أحسن ميزة للإنسان فى مواجهة الملائكة ، « كل مسكر خمر وكل خمر حرام» ، هنا يتدخل العقل.

د. حسن الشافعى رئيس مجمع اللغة العربية
التصوف والفلسفة
ألفت فى التصوف فصولا ما العلاقة بين التصوف والفلسفة؟
الفلسفة فى المفهوم المصرى لها ثلاثة حقول: الأول منهجي؛ الدهشة والتساؤل، وهذا هو سقراط، والسؤال وعدم التقليد والتنبه للأحداث مبدأ قرآنى أصيل. وإذا كنا ننظر حولنا فكيف ننظر؟ ما أسلوب النظر؟ هذا هو المجال الأول المنطق ومنهج البحث.
الثانى هو مجال العقيدة والفلسفة، هنا لكل مفكر أن يرى ما يرى ويقول هذه فلسفتي، لكن المبادئ المشتركة لكل حضارة هى التى تمثل القيم الرئيسية فضلا عن القيم الإنسانية الكبرى : الحق والخير والجمال .
الثالث هو مجال الأخلاق والسلوك ، وهذا هو مجال التصوف. والكاتبون فى الأخلاق أنواع متعددة،
هناك من يكتب بروح أرسطية كالفارابى وابن سينا وهناك من يكتب بروح دينية بحتة كالغزالي، وهناك من يكتب بطريقة هى أقرب إلى السياسة كالفارابى - فى المدينة الفاضلة يرى أن مهمة الدولة هى أن تمكن كل مواطن من أن يبلغ كماله الخاص.
وأرى أن أعمق تناول للأخلاق لا هو بالطريقة الأرسطية ولا بالطريقة الدينية البحتة التى لا تقوم على أصول فكرية ولا هو بانتهاج خلط السياسة بالدين، وإنما بالدراسة العميقة للإنسان وحاجاته الروحية. وهذا ما نجده فى التصوف الإسلامى بدءا بالحكيم الترمذى كما نجده عند زميل الغزالى فى المدرسة النظامية الراغب الأصفهانى الذى كتب كتابا رائعا يشرح فيه مفهوم خلافة الإنسان عن الله فى الأرض، فيرى أنها تتحقق بثلاثة عناصر هي: القيادة ولو لبيته وأهله، والعبادة التى خلقنا جميعا من أجلها، والعمارة وهى المهمة الموكلة للإنسان فى الأرض لا التخريب. ويرى أنه لا يصلح لهذه الخلافة إلا من يتحقق فيه الكمال الخُلُقي، وهذا فكر عجيب كأنه معاصر. وهذا هو التناول القرآنى لقضية الأخلاق.
الغزالى
أشرت إلى أن الأصفانى زميل للغزالى وللمناسبة فقد تحدثت عن دور الغزالى فى صياغة منهج لأصول الفقه وعلم الكلام
الغزالى مفكر مظلوم، لأنه معروف عند الدارسين باعتباره إماما صوفيا روحيا ، والواقع أن أهم ابداع للغزالى أنه فقيه اصولي، كتب «العلة والتعليل» وكتب «المستصفى فى أصول الفقه»، وهو الاصل فى رأى الدارسين لكتاب الموافقات للشاطبي، وكان شيخ الأزهر يدرس «المستصفي» لطلبة العلم فى الأزهر. الغزالى يجب أن يعرض عرضا جديدا كفقيه أصولى إلى جانب كونه شيخا صوفيا.
محمد عبده
لكم بحث عن جهود الشيخ محمد عبده وجهوده فى تجديد الفكر الإسلامي، خاصة فى علم الكلام
الإمام محمد عبده مجدد، يمثل الفكر الإسلامي، وناقش قضايا كثيرة مهمة فى حاشيته على الدوانى فى علم الكلام، وقد دافع عن الاتجاه الحقيقى لابن رشد، ونفى أن يكون ملحدا كما زعموا، وبسبب جرأته بل بطولته تعرض لهجوم قاس، وهذا طبيعى لأن صاحب الفكر لا يمكن أن يرضى الجميع
تأثير الفلسفة فى المجتمع
هل للفلسفة الاسلامية تأثير فى المجتمع الإسلامى؟
التأثير حدث فى الخارج، الدارسون الغربيون توقفوا عن ترديد أن الفلسفة الإسلامية هى مجرد صدى للفكر الإغريقي، وكانوا يزعمون أن الوجوه السمراء غير مؤهلة للفكر الفلسفي، والآن يعتذرون عن ذلك. اما عن تأثيرها فى مجتمعاتنا فضعيف، لأن الإنسان ليس عقلا فحسب. إذا تكلمت بالعقل لا تتجاوز فروة الرأس، لكن إذا توغلت فى الإنسان فلمست قلبه وأشواقه، واحتياجاته الاجتماعية، يمكنك التأثير فيه، ولكى يتحقق التاثير لا بد من تغيير النظرة إلى علم الأخلاق الإسلامية، إظهار الأخلاق القرآنية القائلة بالخلافة عن الله، المتمثلة فى القيادة والعبادة والعمارة، وأخلاق التصوف، وبغير ذلك لن تؤثر الفلسفة الإسلامية فى الجمهور.
أى تصوف؟.. نحن نرى تقبيل عتبات وتطويح أذرع وثنى أجساد ورقصا وتصدية وتبجحا فى استجداء المال..
كل هذه بدع حاربها رجال التصوف الصادقون ..وأضرب لك مثلا بالشيخ محمد زكى ابراهيم، متصوف حق بالغ الرقة والتأثير، حارب البدع والخرافات التى شوهت وجه التصوف، ولذلك تعرض للهجوم من المنتفعين.
الجهل سر التطرف
نرى فى بعض المجتمعات الإسلامية صورا من العنف فى السلوك والتطرف فى الفكر.. ما التأويل؟
محدودية العلم.. الجهل يحتاج إلى أن يُدرس، وليس العلم فقط. الجهل ناتج ضيق المساحة العقلية والزمانية والمكانية، الإنسان هو الوحيد الذى يتمتع بالذاكرة، وتتراكم لديه التجارب. لابد من معرفة الماضى للانطلاق إلى واستشراف المستقبل وهذا التوجه ضعيف جدا فى الفكر الإسلامي. ولا بد من معرفة العالم الذى نعيش فيه، وهناك تجارب الأمم الأخري، فنحن لسنا وحدنا. ولا بد من استشراف المستقبل، وهذا جانب ضعيف جدا فى الفكر الإسلامى، فيجب النظر إلى المستقبل انطلاقا من الحاضر والماضى.
أما من أشرت إليهم من المتشددين والمتطرفين كالداعشيين ومن يشبهونهم فينظرون إلى غيرهم من المسلمين على أنهم جنس آخر، وانا أذكر - وكنا فى إسلام آباد أن بعضهم كان لا يلقى علينا السلام لأنه لا يعتبرنا من الأمة، فضلا عن أن نكون من علمائها. هؤلاء جهال ما يعرفونه محدود جدا.. والمعروف أن العالم الحقيقى متواضع لأنه يعرف حدود علمه، اما الجاهل فيظن أنه بمحدود علمه يعرف كل شيء. هذه هى مشكلة النبت الجديد؛ ضيق الفكر والعجز، وهؤلاء لا فائدة منهم فى قضية التجديد بل هم أعداؤها. وعلينا أن نفرز هذه الاتجاهات المتشددة وأن نبين وهذا ما يحدث الآن، فالمفتى يكتب فى تفكيك الفكر المتشدد، وهيئة كبار العلماء معنية بإصدار مطبوعات عن القضايا المثارة وخاصة التى يتشبث بها هؤلاء، فهم مثلا يتحدثون عن الجهاد ويختزلونه فى القتال، ويتحدثون عن دار الحرب ودار الإسلام. ويستبيحون دماء مخالفيهم من المسلمين، وهذه المسألة وفدت على مصر من خارجها. كما أشرت
نحن والغرب
فى مناسبة وفود الأفكار المضللة، هل ترى أن للغرب يدا فى ما يحدث فى بلادنا؟
بالتأكيد، لكن ليس من مفهوم المؤامرة، فى أمريكا 200ألف طالب عربى يدرسون، وسيعودون إلى بلادهم..وسيكون لهم تأثير قوى فى مجتمعاتهم بعد عودتهم.
هناك من يرى أن بيننا وبين الغرب سجالات تبلغ حد التدافع والصراع، مثلما نسمع أصواتا تتحدث عن التلاقى والوفاق؟
لا محل للمواجهة، فالمسلمون فى أدنى حالاتهم الحضارية والاجتماعية، ورحم الله المفكر الدكتور أحمد كمال أبو المجد الذى تنبه إلى ضرورة الحوار مبكرا، قبل عقود، وله جهد واضح منذ أكثر من أربعين عاما فى محاولة التقريب وعدم المواجهة والتوافق وبناء حوار، ومقاومة التطرف ايا كان دينه ولونه، يساريا او أصوليا، محليا أو عالميا، بحيث لا يبقى الا الاتجاه الوسطى المعتدل الذى يتفق مع طبيعة الثقافة الاسلامية والروح المصرية ومن يقول بالمواجهة أحمق، إذًا لا سبيل إلا الحوار، والسجال الدائم، وهذا قائم، احيانا يكون حارا ساخنا وأحيانا يكون هادئا، والحقيقة أن الأزهر باعتباره مؤسسة دينية وطنية حريص على أن يدير حوارا مع كل الهيئات والاتجاهات والتيارات فى أوروبا وأمريكا، ويدرسها ويعنى بها ويتابع الفكر انطلاقا من مصالحنا وفكرنا، ليس فقط مع الزعامات الدينية. ويجب أن نتشبث بالحوار.
وما رأيك فى مقولة الشاعر البريطانى كبلنج «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا»، وأنه فى حالة قلق دائم وتوجس؟
أقول إن المفكر الفرنسى رينيه جينوه قال بغير ذلك قبل أن يسلم ويسمى نفسه عبد الواحد يحيي، هو يقول لا بد من الحوار بين الشرق والغرب، ويرى أن الغرب أحوج إلى الحوار من الشرق لأن حضارته مادية فقيرة فى الإلهامات الروحية والاجتماعية والفكرية أيضا، لكنى أقول إننا أيضا نحتاج الى الغرب بمثل ما هو محتاج إلينا وعلى قدم المساواة. هم يدرسوننا جيدا وعندهم ما ليس عندنا، وهو استشراف المستقبل الذى أدعو اليه.
طه حسين
فى كتابك فى فكرنا الحديث والمعاصر تعرضت لفكر طه حسين فى قضيتين جوهريتين هما الهوية القومية المصرية والتعليم.
فى القضية الثانية "التعليم" فرأيه دقيق وصائب، لقد انتقد اللورد كرومر ومساعده دانلوب إذ أفسدا التعليم المصري، ودفاعه عن العربية فى هذا الجزء من الكتاب فى منتهى الروعة حرى بأن يكتب بماء الذهب.
أما كلامه عن الهوية المصرية فكان بسبب توهم أن مصر بمعاهدة 36 قد نالت حريتها الفكرية والثقافية، وقد بالغ فى الأمل كما حدث للبعض بعد كامب ديفيد. وهذا كان خطأ من جانبه لأنه خدع بالدعاية التى صاحبت تلك المعاهدة التى جرفتها الحرب العالمية بعد سنوات، كما رأى أن مصر تتجه دائما إلى الغرب، إلى أوروبا وإلى الإغريق، وهذا خطأ ومخالف للحقيقة. ورأيى أن أهم شيء يعبر عن طبائع الشعوب هو الأسطورة، والأسطورة المصرية تقول إن الطائر المقدس يطير مصر الى الجزيرة العربية فيضع بيضه هناك حتى تظهر نار مقدسة، فيفقس البيض ثم يعود مرة أخرى إلى مصر هذه هى العلاقة الروحية بين مصر والجزيرة.
لك رأى أيضا فى بعض آراء عميد الأدب
أنا أعامل المفكرين بآخر ما قالوه، فى العشرينيات كانت قضية الشعر الجاهلى غائمة فى فكر طه حسين ولكنه عدل ذلك وتراجع عن رأيه، والحقيقة أنه بدون الشعر الجاهلى لا يمكننا فهم القرآن، وفى كتابه مرآة الاسلام ستجد أن أول جملة فى هذا الفصل هى: «القرآن الكريم معجزة النبى صلى الله عليه وسلم على رسالته» وهذا هو طه حسين الحقيقى الذى كتب فى الإسلاميات: على هامش السيرة والوعد الحق.

د. حسن الشافعى فى أثناء حواره مع مندوب «الأهرام»
رابط دائم: