فى تاريخ البشرية بكل روادها وصفوتها وقادتها نكاد لا نعرف حياة نُقلت إلينا أنباؤها وحُفظت لنا وقائعها فى وضوح تام كما حُفظت حياة محمد بن عبدالله رسول رب العالمين ورحمته المهداة إلى البشر أجمعين، ومع ذلك تتجدد أحداث سيرته مهما قرأناها وحفظناها كأنما نعيشها معه للمرة الأولى، وإن كانت كل أيام حياته ناضرة إلا إن أياماً بذاتها كانت توثق للبشرية معاناته صلى الله عليه وسلم فى بناء هذا الصرح العظيم، الكاتب الكبير خالد محمد خالد اختار عشرة أيام من تلك التى تكشف عظمته كبشر يوحى إليه.
1
فى نهار رمضان سنة تسع وستمائة للميلاد وبينما الفتى العابد الناسك معتكفا وحيداً، حدثت المفاجأة التى غيرت كيمياء الحياة وناموسها، تأوهت الجبال، اختلط ضوء النهار بنور السماء، واختار رب العالمين رسوله، جاء اليوم الموعود «يوم الوحى» والاصطفاء، واهتز قلب الرجل لتبدأ الرحلة التى غيرت التاريخ البشرى كله، ولا تظن أن ساعات هذا اليوم كانت فى حجم تلك الحروف الهزيلة الضعيفة عن وصف لحظة واحدة مما جرى فى غار حراء وما استتبعه وما سبقه:
«فقال: اقرأ
قلت ما أنا بقاريء
فأخذنى.. فغطّنى ضمّ بقوة واعتصار حتى بلغ منى الجهد
ثم أرسلنى «تركنى» فقال: اقرأ
قلت: ما أنا بقاريء
فأخذنى فغطّنى الثالثة حتى بلغ منى الجهد
ثم أرسلنى، فقال:
اقرأ باسم ربك الذى خلق
خلق الإنسان من علق
اقرأ وربك الأكرم».
يا الله، إنها النبوءات التى سمع بها المصطفى، لكن آنيّ له أن يستوعب كل هذا الجلال الذى هبط عليه فى خلوته التى اختارها بعد أن ضاقت عليه خلوة البيت فانطلق إلى الصحراء وقيظها ورمالها متخذا من غار حراء مكاناً يهمس فيه للواحد الأحد الذى يعلم بوجوده ولا يعرف كيف يناجيه، هو يتضرع ويستمع لنبض الدم فى العروق وسط هذا الصمت الذى تسمو فيه روحه وتصفو، لكنه ينتظر إشارة، علامة، نورا، ضوءا، فجرا،.. يبكى ويبتهل وينتظر فى رحلة بدأها منذ الصبا حين أدار ظهره للأصنام وعبادتها وتوجه نحو نداء الروح.
2
هذه مكة،تموج بالمسرات والمباهج، وأولئك العرب الذين جعلتهم الصحراء والتقاليد جبابرة منطلقون فى شهواتهم وأمجاد عشائرهم حتى وإن كانت بالقتل والسلب والنهب، شوارع مكة تموج بالعشائر والقبائل والذبائح، قوافل تجارتهم تروح وتجيء وأسواقهم عامرة بالمبارزات الشعرية والقتالية، والأصنام جاثمة حول الكعبة وفى فنائها ومن حولها الوافدين يهتفون لـ»اللات والعزة وهبل»!.
وهناك وسط كل هذا الزحام وصليل السيوف ونداءات الفجور والغرور، هناك بين تلك القلوب القاسية التى تئد بناتها وتغرس السيف فى البطن والرقبة وتُغير على الآمنين، هناك.. روح إنسان فطره الله على كل ما هو فاضل وكامل وعظيم، إنسان تهفو روحه لنور بعيد وسط كل هذا الظلام والضجيج، وآنيّ له أن يعرف وكل هؤلاء فى ذلك البلد لا يعرفون سوى تلك الآلهة الصماء فى وطن كان يوما أرضا للحنيفية السمحة التى هتف بها إبراهيم:
إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل
واصطفى من ولد إسماعيل كنانة ومنهم قريش
ومن قريش بنى هاشم ومن بنى هاشم هذا الفتى الأمين
أعطى ظهره للأصمنام والحياة اللاهية و راح يعتكف بكل أشواقه وعزمه، حُببت إليه الخلوة فكان يكثر منها ويستزيد، لم تتسع خلوات البيت لآفاق روحه، فتوجه نحو الصحراء الصارمة متحديا جبالها كأنما يتحسس أقدام أبيه إبراهيم، يشد الرحال إلى غار حراء يقضى فيه شهرا كل عام، حتى جاءت اللحظة التى لم تخطر على قلب بشر وهتفت السماء باسم رسولها ونبيها.. «يوم الوحى» الاصطفاء «وجاءه الملك «، أى عالم مبهر بالجلالة فُتحت أبوابه للدنيا فى هذا اليوم؟
«.. فقال: اقرأ..»
أى مصير كانت ستلقاه البشرية لو لم يكن «يوم الوحى» يوم اقرأ باسم ربك..يوم القرآن ومحمد والإسلام على رأس أيامها؟!، لم تكن «صلْ» ولم تكن «تعبّد»، ولا «صُم»، كانت «اقرأ»، هذه الكلمة التى لخصت جوهر الإسلام ومستقبله فهو دين حضارة قبل أن يكون دين كهنوت، جاء لينشيء عالما جديدا بكل ما تحمل كلمتا «عالم وجديد «، كانت «اقرأ» لكى يستيقن الناس عبر الزمان أن هذه الحضارة عطاء السماء، هبة ربانية أُختير أستاذها ومُعلمها وبانيها وهو لا عهد له من قبل بقلم ولا بكتاب، فلن يكون مخترعا لهذا الدين وتلك الحضارة، وإنما هو «ُمبلغ «عن الله، ناقل عطاياه من السماء إلى الأرض، سيمتلك بين يديه الشريفتين ما يغير كيمياء الزمن وكيمياء البشر والحياة كلها:
قلت ما أنا بقاريء
فأخذنى فغطّنى الثالثة حتى بلغ منى الجهد
من يدرى يتساءل المؤلف لعل الضمة الكبرى كانت مقصودة لتغيير كيمياء جسده عليه أفضل الصلاة والسلام، « ضمنى حتى ظننت أنه الموت» ربما لتتسع كى روحه كى تحتمل عبء الرسالة وأهوال النضال من أجلها.
3
يغادر الرسول الغار مسرعا.. وهو يساءل نفسه عما جرى يتلفت وراءه وأمامه وعن يمينه وشماله، فيطمئن إلى أنه وحده وليس هناك من يتبعه، يلتمع الآفق بضياء عجيب ومهيب فإذا هو الملك الذى كان معه فى غار حراء، وتستقبل أذناه هذا النداء:
أنت رسول الله، أنا جبريل
فيغشاه وقع المشهد، وتزداد قدماه التصاقا بالأرض ويغيب الضوء ويستأنف النبى سيره مقتلعا من الرمال خطاه وجسده مرتعد يرتجف كالزلزال فلايكاد يبلغ داره حتى يُلقى بنفسه فى حضنها وبين يديها وتهتف السيدة الطيبة الرءوم خديجة بنت خويلد:
»ابشر يا ابن العم وأثبت».
وبينما كان وجهها يضيء بنور العارفين التّوابين كان القلق والخوف يتملكها من الداخل وهى ترى قرة عينها على هذا النحو: «دثرينى دثرينى.. زملينى زملينى»
ـ فوالذى نفس خديجة بيده لا يخزيك الله
فيقول لها بصوت واهن:
« لقد خشيت على نفسى»
فتجيبه: كلا.. فوالذى نفس خديجة بيده لا يخزيك الله أبدا
إنك لتصل الرحم وتُصدق الحديث
وتحمل الكلّ وتكسب المعدوم
وتعين على نوائب الحق «.
لم تعش السيدة خديجة التجربة النورانية الخاطفة، لم تمر بتلك اللحظات التى عاشها نبى الله المصطفى كأنها قرن من الزمان، لكنها استطاعت السيطرة على خوفها وهلعها وهدأتْ روحه، فليس من طبيعة الأشياء أن تنجو السيدة خديجة من ذهول المفاجأة رغم كلماتها الحانية، لذلك يقول خالد محمد خالد طلبتْ النجدة من ابن عمها «ورقة بن نوفل» لتجد تفسيرا وتضفى على الروع مزيدا من السكينة والهدوء،كان «ورقة» زاهدا عابدا مثل غيره ممن استهجنوا عبادة الأوثان والأصنام وأضنى نفسه بحثا عن الدين الحق، حتى أدركه الإعياء وألقى الرحال على مرافيء النصرانية متمثلا فى ذلك المذهب الذى يرى المسيح بشرا وليس إلها، ويردد ورقة:
»..هذا هو الناموس الذى أنُزل على موسى.. ليتنى أكون حيا إذ يخرجك قومك».
4
»يا أيها المدثر قم فآنذر»
ونهض النبى الكريم قائما وجهه وقلبه لله، وبين يديه رصيد كبير ونادر من الخُلق العظيم وعظمة الشخصية واستقامتها.
يا معشر قريش
أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقيّ؟!
نعم.. فما جربنا عليك كذبا قط
إذن، أنا رسول الله إليكم».
لم تصدق قريش نبيها الأمين؟ لم تسمح لقلبها أن يلين ويرق،أصيب القوم الكافرون بالجنون، فماذا يفعلون وهذا الذى يخبرهم بعطايا السماء هو محمد الأمين!، محمد الذى شهدوا له بالحكمة والصدق حين اطمأنوا إليه «يوم التحكيم» فحُقنت دماء القبائل، كان ذلك قبل خمسة أعوام وقريش تختلف فيما بينها حول الأحق برفع الحجر الأسود وإعادته إلى مكانه، وجاء الأمين واقترح ما أرضاهم جميعاً ووضعوا الثوب أسفل الحجر ورفعت كل قبيلة طرفاً منه فتساوت الحقوق بحكمة الفتى الذى كان فى الخامسة والثلاثين من عمره، فماذا يفعلون اليوم وهو يردهم عن دين آبائهم ويحطم لهم ما توارثوه عن آبائهم ويدعوهم إلى الإيمان؟!.
ماذا يفعلون وقد بدأت قافلة صغيرة تسير نحو «الأمين» فى صدارتها:»خديجة وعلى وأبو بكر وزيد بن حارثة ثم يسارع عثمان.. وسعد بن أبى وقاص والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وعبدالرحمن بن عوف وبلال وحبّاب وعمار وياسر وسمية وسعيد بن زيد وفاطمة بنت الخطاب ومصعب بن عمير».
ويأتى عام الحزن ويفقد رسول الله عمه الحبيب «أبا طالب» وزوجته الوفية «خديجة « وتفقد الوثنية صوابها ولا تخجل قريش من ملاحقة المصطفى ولا يخجل سادتها من اقتراف إهانات صغيرة وهابطة ضد هذا الذى كانت تتحدث عن فضائله وتتعامل معه كأميرها وسيدها رغم حداثة سنه، هاهى ذى تغرى به سفهائها فيلقون عليه التراب والروث وتنحنى ابنته فاطمة فوق ردائه باكية وتميط عنه الأذى فيجفف دمعها فى صبر المصطفين الأخيار:
»لا تحزنى يا بُنيه فإن الله مانع أباك «
ويتوحش قساة القلوب وينادى مناد بينهم بمقاطعة بنى هاشم وعزلهم عن الحياة وصبّ العذاب والأذى على كل من يؤمن برسالة محمد،واشتد العذاب وتأوهت الصحراء لجسد بلال بن رباح العارى على صهد رمالها وصخورها.
»واصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا»
5
ويصبر النبى.. لا بأس.. إن النصر قريب، ويصبر المؤمنون برسالته، لكن العزيز عليهم الرءوف بهم لا يطيق عذابهم وإن طاق عذابه، فيأمرهم بالهجرة إلى الحبشة راضيا أن يبقى وحده صابراً محتملاً مفكراً فى مخرج للدعوة من هذا الضيق، فهو «منذر.. مُبلغ.. نذير «، حتى يأتى «يوم الطائف « وما أدراك ما يوم الطائف.
يوم أن بكى نبى الله، إذ أخذه على نفسه الحنان فسقطتْ دمعة غالية من عينيه، إنه منذ ولد حتى هذا اليوم يوم الطائف أى طوال ثمان وأربعين عاما وهو يعيش بين الناس فى مهرجان حافل بالمحبة والحفاوة والاحترام، وهاهو اليوم يلقى الذى يلقاه من سفهاء ثقيف الذين لاحقوه فأدمى الصخر قدميه الشريفتين فآوى إلى بستان وأسند ظهره لشجرة وبسط كفيه إلى السماء مناجيا متضرعا يناجى ربه محزونا كما لم يبتهل بشر من قبل:
» اللهم أشكو إليك ضعف قوتى
وقلة حيلتى وهوانى على الناس
يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين
وأنت ربى، إلى من تكلنى..
إلى بعيد يتجهمنى أم إلى عدو ملكته أمرى
إن لم يكن بك غضب على فلا أبالى
لك العتبى حتى ترضى..»
إنه درس الحياة العظيم الذى مهد الارض ليوم جليل هو «يوم العقبة» حيث نهاية عصر الاضطهاد وبداية عهد آخر للعزة والفخر، والعقبة شهدت أياما ثلاثة، أهمها يوم العقبة الأخير فى السنة العاشرة للبعثة إذ التقى صلى الله عليه وسلم فى موسم الحج بنفر من الخزرج إحدى أكبر قبيلتين بالمدينة فكانوا أنصار النبوة التى واجه نبيها الأمين أياماً أكثر صعوبة «يوم حمزة، يوم حنين، يوم الفتح ويوم الوداع» حتى اكتمل نور رسالته للبشر أجمعين.
> الكتاب: عشرة أيام فى حياة النبى
المؤلف: خالد محمد خالد
ـ دار ثابت للنشر والتوزيع (1986)
رابط دائم: