رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

محمد صلى الله عليه وسلم..
الأسطورة فى قلب التاريخ

صلاح سالم

لكل دين عبقريته الخاصة فى البحث عن معنى كلى لوجوده. قد تنبع هذه العبقرية من التحديات التى يواجهها، أو الغايات التى يستهدفها، أو من الدور التاريخى المنوط به. ولأن المسيحية هى المحطة الكبرى الثانية فى مسار الدين التوحيدى الذى يتجذر فى اليهودية، فقد واجهت منذ اللحظة الأولى تحديا أخلاقيا هائلا يتعلق بكيفية فتح الطريق إلى الله ليسع كل المؤمنين بدلا من إغلاقه على العشائر الإسرائيلية، ليصبح الميثاق بين الله والإنسان شاملا لا عرقيا، ويصير الخلاص متاحا بفعل الإيمان الروحى وليس بصدفة الميلاد القسرى، الأمر الذى كان ينفى كل قيمة أخلاقية أو معنى وجودى للحضور الإنسانى فى العالم. وهكذا جاءت دعوة يسوع ضد شكلانية اليهود، وحرفية الفريسيين، بإيمانهم الطقوسى المزيف، وصرامتهم الظاهرة فى الشريعة، مع ذبول حياتهم الروحية وخلوها من التعاطف والبر.

...........................

وعلى هذا تمثلت عبقرية المسيحية الأولى فى روحانيتها الشديدة، وتساميها المفرط على الواقع الدنيوى، إلى درجة تكاد تتناقض والطبيعة البشرية فى حالتها العادية، حيث بشر يسوع بدين مجرد، يمثل محاولة للإجابة عن سؤال: كيف تحيا فى ذاتك وتواجهها لتقمع شهواتها، وليس عن سؤال: كيف تعيش فى العالم وتحيا مع الآخرين؟. لقد تحدث يسوع كثيراً عن العدل والسلام، وعن شوق النفس إلى سماء الأب، كما كان يتحدث عن التوكل والصبر، لكنه لم يصرح قط بضرورة الانشغال بالدنيا، أو الثورة على الظلم، ولم يدعو قط إلى محاولة تغيير العالم الخارجى نحو الأفضل، إذ نظر إلى ذلك كله على أنه نوع من خداع النفس؛ لأن العالم الحقيقى هو ملكوت السماء، وعلى الإنسان أن يرتقى إليه تاركاً خلفه عالمنا الخاوى، الذى لا سبيل إلى إصلاحه، للشيطان وحده، يهيمن عليه أو حتى يتورط فيه!. ومن ثم ولدت أسطورة المسيح، صاحب المثال الروحى الشاهق، المنشود فى كل زمان، الذى تمكن من أن يحب أعداءه ويبارك لاعنيه، إنه العاشق العظيم صاحب أعذب قصة حب فى التاريخ، قصة الفداء والصلب، الموت والقيامة التى نحتفى بها هذه الأيام، فكل عام وأقباطنا بخير. غير أنها الأسطورة التى هُزمت أمام الواقع الدنيوى الصعب، الذى انفلتت فيه الإرادة إلى حد الطغيان، فرحل المسيح من دون أن يشهد انتصاره على من أنكروه، أو يترك بصمته الجلية على وجه مجتمعه وزمانه، وإن كانت أسطورته، مثله، قد قامت من جديد، لتهمس بحديثها الأخير فى أذن التاريخ.

على النقيض، كانت أسطورة النبى محمد أقل رومانسية وأكثر واقعية، إنه النبى الذى ولد دون معجزة، ومات دون إعجاز، وبين الميلاد والموت عاش حياة كاملة، بإنسانية خالصة، فهو الزوج والأب والمحارب والقائد والزعيم السياسى، الذى واجه الوثنية والشرك والطغيان، فأسس مدينته المنورة بحضوره قبل رحيله، لتنبت منها الإمبراطورية والحضارة معا، وكلاهما كان بصمته الأسطورية لكن على وجه التاريخ، وهو الأمر الذى أثار بالدهشة مستشرقين كثيرين دفعهم إلى التفتيش عن أسباب ذلك النجاح، الذى لم يصبه المسيح، فانحاز أغلبهم إلى الهامشى منها، كمقولة السيف وادعاءات العنف، ولم يبذلوا الجهد الكافى لاكتشاف السر الأكثر أصالة، ممثلا فى تلك البساطة العبقرية للإسلام ورؤيته الشفافة للوجود الإنسانى، واختلاف سياق النبوة بين العظيمين: محمد والمسيح.

لقد انطوى الإسلام، كالمسيحية، على نزعة إنسانية أصيلة، تؤكد على روحانية الميثاق بين الله والإنسان، عبورا على كل الأعراق والأجناس. غير أن الإسلام، عكس المسيحية، انطوى على نزعة إيجابية لتغيير العالم والتأثير فى التاريخ. أرجأ المسيح وحواريوه تحقيق ملكوت الرب إلى الآخرة، على اعتبار أنه مستحيل التحقيق فى الحياة الدنيا؛ لأن الإنسان خاطيء بطبعه، قاصر بطبعه، ولا يمكن أن يستقيم. أما محمد وصحبه فاعتبروا تحقيق الملكوت مهمة الإنسان فى الحياة الدنيا لا فى الآخرة. ولذلك فقد سعوا إلى تقويم عجلة التاريخ كلما انحرفت عن الطريق، ولو ضحوا بأنفسهم فى سبيل ذلك بدلا من انتظاره الخجول فى السماء!. ومن ثم تبزغ المفارقة الكبرى بين (الإسلام الأول)، و(المسيحية الأولي)، فالشهيد المسيحى الأول القديس (إتيان) دعا لجلاديه بالغفران والرحمة ما يثير العجب لفرط تسامحه إزاء الشر ويأسه من إصلاح الملكوت، أما الشهيد المسلم الأول (خبيب بن عدي) فدعا على قاتليه غاضبا وثائرا: «اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً»، تحسرا منه على ضياع فرصته فى إصلاح ذلك الملكوت.

يصوغ القرآن رؤية للتاريخ ترسم معالم هذا الإصلاح، فالله خلق العالم ووضع له نظاماً واقعياً، صاغ قواعده فى سنن تاريخية ومجتمعية ليسير البشر على مقتضاها، ويصوغوا واقعهم فى إطارها. ومن ثم يصبح التاريخ فى نظر الإسلام بمثابة سجل المحاولات البشرية الدائبة لتحقيق الملكوت الإلهى، وتنضوى أبعاده الثلاثة فى علاقة جدلية، فالحاضر هو نتيجة الماضى، والمستقبل ينهض على ما نقوم به الآن، فإذا كان ثمة مصاعب أو أخطاء نعانيها اليوم فمن الممكن تلافيها غدا لأنها ليست قدرا محتوما، بل هى محصلة تفاعل إرادتنا التى نملكها مع التاريخ الذى لم ينته بعد، والذى يبقى فى نظر المسلم فضاءً للأمل فى غد أفضل مهما يكن اليوم شاقا أو عسيرا. ولعل ذلك هو ما يبرر وصف المستشرق الكندى (ولفرد كانتول سميث) للإسلام بأنه «دين مذكر»، قاصدا إيجابيته وقدرته على التأثير فى حركة التاريخ.

ومن هذه الناحية يشبه النبى الكريم محمد كليم الله موسى «النبى المجاهد»، أكثر كثيرا مما يشبه يسوع المسيح «النبى الزاهد». ولو أن محمدا أخذ بمبدأ يسوع المفرط فى السلم ما كان الإسلام تعدى المدينة، ولا دخلت فيه مكة، ولا توحدت القبائل العربية تحت لوائه، ولا تكونت الإمبراطورية الإسلامية، ولما أصبح دينا عالميا. ومن ثم فعندما يطرح الجهاد الإسلامى على أنه المقابل الإسلامى للحروب الصليبية، ويُنظر إلى اللفظين على أنهما مترادفين، كما يتصور صامويل هانتنجتون، فليس ذلك إلا من قبيل القياس الخاطيء، فثمة تناقض بين الحروب الصليبية التى تعد تطوراً متأخراً فى التاريخ المسيحى، ابتعاداً جوهرياً عن القيم المسيحية المثالية كما جاءت فى الأناجيل وجسدها المسيح، وبين الجهاد الإسلامى كمفهوم بنيوى فى صلب دين عالمى شامل سعى إلى إصلاح حركة التاريخ.

يرجع البعض عنصر (الإيجابية) فى الإسلام إلى التراث اليهودى، المنشغل بالعالم الأرضى، وقد اعتبره الفيلسوف الألمانى هيجل استمراراً لليهودية، ووصفه بـ (الحسية) حتى فى تصوره للنعيم الأخروى، وهو وصف لا يمكن إطلاقه إلا من وجهة نظر المسيحية المفرطة فى المثالية، والتى بلغت ذروتها فى موعظة الجبل (الإصحاح الخامس من إنجيل متي). وربما كانت رؤية هيجل صحيحة ولكنها تظل ناقصة إذ يشتمل الإسلام على عناصر كثيرة غير يهودية، تغذى موقفه الجدلى / التوفيقى بين الشريعتين السابقتين عليه؛ فمن دون تخل عن روحانيته كالمسيحية، دعا إلى تغيير العالم، وتجديد التاريخ ولو عبر الجهاد الحربى كاليهودية.

يضع فيلسوف الأديان الأشهر، مرسيا إلياذة، النبى محمد على مفترق طريق التحول من المرحلة الثانية إلى المرحلة الثالثة (الأخيرة) من مراحل التحول الروحى للجنس البشري؛ أى على الحافة بين عصر سيادة المسيحية / التقليدى وبداية العصر العلمانى الحديث. ومعنى ذلك حسب فهمنا أن الإسلام يمثل نقطة التوازن المفصلية بين العقل والإيمان، كونه أكثر الأنساق الدينية عقلانية، وفى الوقت نفسه أكثر الأنساق المعقولة روحانية. ولهذا استطاع أن يتفاعل مع العالم الخارجى انطلاقا من فهم موضوعى للطبيعة البشرية، يدرك عمق المعاناة الإنسانية، ويدعو إلى النضال ضد أسباب الشر والألم، إيمانا بأن هذا النضال ليس فقط ممكنا، بل أنه المهمة الأساسية للحضور الإنسانى على الأرض.

ورغم أن الروحانية الإسلامية رأت دوما فى النبى محمد النموذج الذى يجب أن يُقتدى به؛ فإنها لم تنظر إليه قط باعتباره مخلصا، مهمته تقديم الفداء لتابعيه، فالمسلم أصلا غير موصوم بالخطيئة الأصلية، ومن ثم فلا حاجة إلى فداء من الأصل، بل تكفى الأعمال الصالحة مع الإيمان الروحى لتحقيق الخلاص الإنسانى، ونيل الرحمة الإلهية. وهكذا رأت الثقافة الإسلامية، فى تياراتها الأكثر عقلانية وتفتحا، أن الإنسان كائن حر، مسئول عن عواطفه، وأفكاره، وتقديراته، وأن جميع المسلمين مدعوون للقيام بهذه المحاولة إزاء حركة التاريخ، دون وصاية أحد. وعلى هذا يدعونا الإسلام (القرآني) أفرادا، وجماعات، إلى التحرر والترقى ولو عبر الألم والمعاناة، التجربة والخطأ، كى نستحق جميعا مهمة الخلافة الأرضية، النازعة إلى بلوغ التقدم وتحقيق العمران، وهى نزعة تنويرية أصيلة، يسعى القرآن إلى رسم مسارات تحققها عبر قيم وقوانين لا تستقيم حركة التاريخ إلا على هديها. فالتقدم، مثل الانحطاط، يرجعان إلى سنن وأسباب عقلية، وليس إلى الانتماء لدين معين، فقوله تعالي: (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون) يلهمنا بالآلية المنطقية لقضية الصعود والهبوط، التقدم والتأخر. فالظلم والعدل، الفساد والصلاح، هما قانوناً الترقى والانحطاط، والصلاح هنا ليس مجرد عبادة، صوم رمضان أو اعتكاف فى مسجد، بل عمارة الأرض وحسن إدارتها عبر الاكتساب الدائم للمعرفة، والممارسة المستمرة للكفاح الأخلاقى.

وهنا تصبح الحضارات كافة، بما فيها الإسلامية، عرضة لتحديات التدهور والانهيار بمجرد غياب شروط الفعل الحضارى هذه، أو فقدانها الحد الأدنى من حضورها المطلوب، وهو ما يحدث غالبا عندما تستنفد الجماعة قوة تدفقها، ومبررات استمرارها، ومن ثم يسهل على أى منافس لها أن يوجه لها ضربة تقصيها عن موقع ريادتها أو تهمش وجودها، الأمر الذى يفسح الطريق أمام الجماعات الأكثر فاعلية واستعدادا للحلول محلها. ومهما بدا لفترة من الوقت أن دولا ما أو حضارة ما قد حققت تفوقاً ساحقا أو ريادة نهائية فى مواجهة المعاصرين لها، فإن إرادة الله سوف تحول بالقطع دون استمرار خضوع الجنس البشرى لتلك السيطرة الأحادية، فالقرآن الكريم يحدثنا عن مبدأ (المداولة)، كفعل ديناميكى ضرورى يتيح إمكانية التنافس الدائم بين الجماعات والأمم والشعوب والحضارات، ويوسع فرص تداول الريادة والتقدم بين الناس، فالأيام دول تضع أقواماً وترفع آخرين فى جدل لا يتوقف. وعلى هذا فالسقوط، إن حدث لأمة من الأمم، لا يجب أن يكون دافعا لليأس فليس السقوط نهائيا والتخلف ليس وضعا حتميا، بل مجرد واقع طارئ له أسبابه، ومن ثم يمكن تجاوزه بتجاوز تلك الأسباب، فحركة التاريخ معقولة ومنتظمة، والتدافع البشرى مستمر، والأمل الإنسانى فى الترقى قائم دائما، الأمر الذى يفتح الباب على مصراعيه أمام كل حركة تجديد تستهدى بسنن الزمن الحديث، لتزيد من رقى مجتمعها وتمدين أهلها، تحقيقا لوظيفة الاستخلاف الإلهى التى جسد النبى محمد، على رأس الإسلام الحنيف، صورتها الأرقى وذروتها الأسمى، التى هبطنا طويلا عنها ويجب أن نصعد مجددا إليها، وإلا فلا قيمة كبيرة لعباداتنا، ولا معنى جوهريا لوجودنا.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق