لقد كان العرب قوما أقوياء النفوس كأن أخلاقهم سيول دفاقة، لها من شدة حزمهم وقوة إرادتهم أحسن سور وأمنع حاجز. وهذه وأبيكم أم الفضائل، وذروة الشرف الباذخ. وقد كان أحدهم يضيفه ألد أعدائه، فيكرم مثواه وينحر له، فإذا أزمع الرحيل خلع عليه وحمله وشيعه، ثم هو بعد ذلك لايحجم أن يقاتله متى عادت به إليه الفرص. وكان العربى أغلب وقته صامتا فإذا قال أفصح، ويزعم أن العرب من عنصر اليهود، والحقيقة أنهم شاركوا اليهود فى مرارة الجد وخالفوهم فى حلاوة الشمائل ورقة الظرف وفى ألمعية القريحة وأريحية القلب، وكان لهم قبل زمن محمد (عليه السلام) منافسات فى الشعر يجرونها بسوق عكاظ فى جنوب البلاد، حيث كانت تقام أسواق التجارة فإذا انتهت الأسواق تناشد الشعراء القصائد ابتغاء جائزة تجعل للأجود قريضا والأحكم قافية، فكان الأعراب الجفاة ذوو الطباع الوحشية الوعرة يرتاحون لنغمات القصيد ويجدون لرناتها أية لذة فيتهافتون على المنشد كالفراش ويتهالكون.
.............................................
وكان بين هؤلاء العرب التى تلك حالهم أن ولد محمد ــ عليه الصلاة والسلام عام 580 ميلادية، وكان من أسرة هاشم من قبيلة قريش، وقد مات أبوه قبيل مولده، ولما بلغ عمره ستة أعوام توفيت أمه وكان لها شهرة بالجمال والفضل والعقل، فقام عليه جد شيخ كان قد ناهز المائة من عمره وكان صالحا بارا. وكان ابنه عبدالله أحب أولاده إليه فأبصرت عينه الهرمة فى محمد صورة عبدالله فأحب اليتيم الصغير بملء قلبه، وكان يقول: ينبغى أن يحسن القيام على ذلك الصبى الجميل الذى قد فاق سائر الأسرة والقبيلة حسنا وفضلا. ولما حضرت الشيخ الوفاة والغلام لم يتجاوز العامين عهد به إلى أبى طالب أكبر أعمامه رأس الأسرة بعده فرباه عمه وكان رجلا عاقلا كما يشهد بذلك كل دليل على أحسن نظام عربى.
ولما شب محمد وترعرع صار يصحب عمه فى أسفار تجارية وماأشبه، وفى الثامنة عشرة من عمره نراه فارسا مقاتلا يتبع عمه فى الحروب. غير أن أهم أسفاره ربما كان ذاك الذى حدث من قبل هذا التاريخ ببضع سنين رحلة الى مشارف الشام، اذ وجد الفتى نفسه هنالك فى عالم جديد إزاء مسألة أجنبية عظيمة الأهمية جدا فى نظره أعنى الديانة المسيحية. وإنى لست أدرى ماذا أقول عن ذلك الراهب سر جياس «بحيرا الراهب» الذى يزعم أن أبا طالب ومحمدا سكنا معه فى دار، ولا ماذا عساه يتعلمه غلام فى هذه السن الصغيرة من أى راهب ما، فإن محمدا لم يكن يتجاوز إذ ذاك الرابعة عشرة ولم يكن يعرف الا لغته. ولا شك فى أن كثيرا من أحوال الشام ومشاهدها لم يك فى نظره الا خليط مشوش من أشياء ينكرها لا يفهمها، ولكن الغلام كان له عينان ثاقبتان ولابد من أن يكون قد انطبع على لوح فؤاده أمور وشئون فأقامت فى ثنايا ضميره ولو غير مفهومة ريثما ينضجها له كر الغداة ومر العشى وتحلها له يد الزمن يوما ما فتخرج منها آراء وعقائد ونظرات نافذات. فلعل هذه الرحلات الشامية كانت لمحمد أوائل خير كثير وفوائد جمة.
ثم لاننس شيئا آخر وهو انه لم يتلق دروسا على استاذ أبدا، وكانت صناعة الخط حديثة العهد اذ ذاك فى بلاد العرب. ويظهر لى ان الحقيقة هى أن محمدا لم يكن يعرف الخط والقراءة، وكل ما تعلم هو عيشة الصحراء وأحوالها، وكل ما وفق إلى معرفته هو ما امكنه أن يشاهد بعينيه ويتلقى بفؤاده من هذا الكون العديم النهاية، وعجيبة وأيم الله أمية محمد، نعم انه لم يعرف من العالم ولا من علومه الا ما تيسر له أن يبصره بنفسه أو يصل الى سمعه فى ظلمات صحراءالعرب، ولم يضره ولم يزر به انه لم يعرف علوم العالم لا قديمها ولا حديثها لأنه كان بنفسه غنيا عن كل ذلك، ولم يقتبس محمد من نور أى انسان آخر ولم يغترف من مناهل غيره، ولم يك فى جميع أشباهه من الأنبياء والعظماء أولئك الذين أشبههم بالمصابيح الهادية فى ظلمات الدهور من كان بين محمد وبينه أدنى صلة. وإنما نشأ وعاش وحده فى أحشاء الصحراء، ونما هنالك وحده بين الطبيعة وبين أفكاره.
ولوحظ عليه منذ فتائه أنه كان شابا مفكرا. وقد سماه رفقاؤه الأمين رجل الصدق والوفاء; الصدق فى أفعاله وأقواله وأفكاره. وقد لاحظوا أنه ما من كلمة تخرج من فيه إلا وفيها حكمة بليغة. وإنى لأعرف عنه أنه كان كثير الصمت يسكت حيث لا موجب للكلام فإذا نطق فما شئت من لب وفضل وإخلاص وحكمه، لا يتناول غرضا فيتركه إلا وقد أنار شبهته وكشف ظلمته وابان حجته واستثار دفينته، وهكذا يكون الكلام وإلا فلا. وقد رأيناه طول حياته رجلا راسخ المبدأ صارم العزم بعيد الهم كريما برا رءوفا تقيا فاضلا حرا رجلا شديد الجد مخلصا وهو مع ذلك سهل الجانب لين العريكة جم البشر والطلاقة حميد العشرة حلو الايناس، بل ربما مازح مداعب، وكان على العموم تضيء وجهه ابتسامة مشرقة.
وكان محمد جميل الوجه، وضىء الطلعة حسن القامة زاهى اللون له عينان سوداوان تتلألآن. وانى لأحب فى جبينه ذلك العرق الذى ينتفخ ويسود فى حالة غضبه «كالعرق المقوس الوارد فى قصةالقفازة الحمراء لو الترسكوت» وكان هذا العرق خصيصة فى بنى هاشم ولكنه كان أبين فى محمد وأظهر. نعم، لقد كان هذا الرجل كان عادلا صادق النية، كان ذكى اللب شهم الفؤاد, لو ذعيا كأنما بين جنبيه مصابيح كل ليل بهيم, ممتلئا نارا ونورا، رجلا عظيما بفطرته لم تثقفه مدرسة ولاهذبه معلم وهو غنى عن ذلك، كالشوكة استغنت عن التنقيح، فأدى عمله فى الحياة وحده فى أعماق الصحراء.
وما أروع وما أوضح قصته مع خديجة وكيف أنه كان أولا يسافر فى تجارات لها إلى أسواق الشام وكيف كان ينهج فى ذلك أقوم مناهج الحزم والأمانة، وكيف جعل شكرها له يزداد وحبها ينمو، ولما زوجت منه كانت فى الأربعين وكان هو لم يتجاوز الخامسة والعشرين، وكان لا يزال عليها مسحة من ملامحه، ولقد عاش مع زوجه هذه على أتم وفاق وألفه وصفاء وغبطة، يخلص لها الحب وحدها، ومما يبطل دعوى القائلين ان محمدا لم يكن صادقا فى رسالته، بل كان ملفقا مزورا أنه قضى عنفوان شبابه وحرارة صباه فى تلك العيشة الهادئة، المطمئنة، لم يحاول أثناءها إحداث ضجة ولا دوى مما يكون وراءه ذكر وشهرة وجاه وسلطة. ولما يك إلا بعد الأربعين أن تحدث برسالة سماوية ومن هذا التاريخ نبتدئ حوادثه حقيقية كانت أو مختلفة، وفى هذا توفيت خديجة. نعم لقد كان حتى ذاك الوقت يقنع بالعيش الهادئ الساكن، وكان حسبه من الذكر والشهرة حسن آراء الجيران فيه وجميل ظنونهم به. ولم يك إلا بعد أن ذهب الشباب وأقبل المشيب أن فار بصدره ذلك البركان الذى كان هاجعا وثار يريد امرا جليلا وشأنا عظيما، ويزعم المتعصبون من النصارى والملحدين أن محمدا لم يكن يريد بقيامه الا الشهرة الشخصية ومفاخر الجاه والسلطان.. كلا وأيم الله، لقد كانت فى فؤاد ذلك الرجل الكبير ابن القفار والفلوات، المتوقد المقلتين العظيم النفس المملوء رحمة وخيرا وحنانا وبرا وحكمة وحجى واربة ونهى ــ أفكار غير الطمع الدنيوى، ونوايا خلاف طلب السلطة والجاه. وكيف لا وتلك نفس صامتة
وهو رجل من الذين لا يمكنهم إلا أن يكونوا مخلصين جادين، فبينما ترى آخرين يرضون بالاصطلاحات الكاذبة ويسيرون طبق اعتبارات باطلة، ترى محمدا لم يرض أن يلتفع بمألوف الاكاذيب ويتوشح بمتبع الأباطيل. لقد كان منفردا بنفسه العظيمة وبحقائق الأمور والكائنات. لقد كان سر الوجود يسطع لعينيه كما قلت بأهواله ومخاوفه وروانقه ومباهره، لم يك هنالك من الأباطيل ما يحجب ذلك عنه فكان لسان حال ذلك السر الهائل يناجيه «هأنذا».. فمثل هذا الإخلاص لا يخلو من معنى إلهى مقدس، وما كلمة مثل هذا الرجل إلا صوت خارج من صميم قلب الطبيعة، فاذا تكلم فكل الآذان برغمها صاغية وكل القلوب واعية وكل كلام ما عدا ذلك هباء وكل قول جفاء وما زال منذ الأعوام الطوال منذ ايام رحلاته وأسفاره تجول بخاطره آلاف من الأفكار: ماذا انا؟ وما ذلك الشيء العديم النهاية الذى اعيش فيه والذى يسميه الناس كونا؟ وما هى الحياة وما هو الموت؟ وماذا أعتقد؟ وماذا أفعل؟ فهل أجابته عن ذلك صخور جبل حراء أو تلك القفار والفلوات؟ كلا ولا قبة الفلك الدوار واختلاف الليل والنهار ولا النجوم الزاهرة والأنواء الماطرة.. لم يجبه لا هذا ولا ذاك، وما للجواب عن ذلك الا روح الرجل والا ما اودع الله فيه من سره.
وهذا ما ينبغى لكل انسان أن يسأل عنه نفسه، فقد أحس ذلك الرجل القفرى ان هذه كبرى المسائل وأهم الأمور وكل شىء عديم الأهمية فى جانبها.
وكان اذا بحث عن الجواب فى فرق اليونان الجدلية او فى روايات اليهود المبهمة أو نظام وثنية العرب الفاسد لم يجده.
وقد قلت إن أهم خصائص البطل واولى صفاته وآخرها هى ان ينظر من خلال الظواهر الى البواطن، فأما العادات والاستعمالات والاعتبارات والاصطلاحات فينبذها جيدة كانت او رديئة وكان يقول فى نفسه: «هذه الأوثان التى يعبدها القوم لابد من ان يكون وراءها ودونها شىء ما هى الا رمز له واشارة اليه، والا فهى باطل وزور وقطع من الخشب لا تضر ولاتنفع، وما لهذا الرجل والأصنام، وانى تؤثر فى مثله اوثان ولو رصعت بالنجوم لا بالذهب، ولو عبدها الجحاجح من عدنان والاقيال من حمير؟ اى خير له فى هذه ولو عبدها الناس كافة؟ انه فى واد وهم فى واد.. يعمهون فى ضلالهم وهو ماثل بين يدى الطبيعة قد سطعت لعينيه الحقيقة الهائلة، فإما أن يجيبها والا فقد حبط سعيه وكان من الخاسرين. فلتجبها يا محمد! أجب. لابد من أن توجد الجواب.. أيزعم الكاذبون أنه الطمع وحب الدنيا هو الذى أقام محمدا وأثاره. حمق وايم الله وسخافة وهوس. أى فائدة لمثل هذا الرجل فى جميع بلاد العرب وفى تاج قيصر وصولجان كسرى، وجميع ما بالأرض من تيجان وصولجانات، وأين تصير الممالك والتيجان والدول جميعها بعد حين من الدهر؟ كلا.. إذن فلنضرب صفحا عن مذهب الجائرين القائل إن محمدا كاذب، ونعد موافقتهم عارا وسخافة وحمقا، فلنربأ بنفوسنا عنه لنترفع.
وكان من شأن محمد أن يعتزل الناس شهر رمضان، فينقطع الى السكون والوحدة دأب العرب وعادتهم، ونعمت العادة. ما أجلها وأنفعها، لاسيما لرجل كمحمد؟ لقد كان يخلو إلى نفسه فيناجى ضميره صامتا بين الجبال الصامتة، متفتحا صدره لأصوات الكون الغامضة الخفية. أجل، حبذا تلك عادة ونعمت، فلما كان فى الأربعين من عمره وقد خلا إلى نفسه فى غار بجبل «حراء» قرب مكة شهر رمضان ليفكر فى تلك المسائل الكبرى إذ هو قد خرج إلى خديجة ذات يوم وكان قد استصحبها ذلك العام وأنزلها قريبا من مكان خلوته فقال لها أنه بفضل الله قد استجلى غامض السر واستشاركا من الأمر، وانه قد أنارت الشبهة وانجلى الشك وبرح الخفاء، وأن جميع هذه الاصنام محال وليست الا اخشابا حقيرة، وأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فهو الحق وكل ما خلاه باطل، خلقنا ويرزقنا وما نحن وسائر الخلق والكائنات إلا ظل له وستار يحجب النور الابدى والرونق السرمدى. الله أكبر ولله الحمد: ثم الإسلام.. وهو أن نسلم الأمر لله ونذعن له ونسكن إليه ونتوكل عليه. وأن القوة كل القوة هى فى الاستقامة لحكمته والرضا بقسمته أيا كانت فى هذه الدنيا وفى الآخرة.. ومهما يصيبنا به الله ولو كان الموت الزؤام فلنتلقه بوجه مبسوط ونفس مغتبطة راضية ونعلم انه الخير وأن لا خير إلا هو.
ولقد قال شاعر الألمان وأعظم عظمائهم «جوته» إذا كان ذلك هو الإسلام فكلنا اذن مسلمون. نعم، كل من كان فاضلا شريف الخلق فهو مسلم. وما قيل إن منتهى العقل والحكمة ليس فى مجرد الإذعان للضرورة فان الضرورة تخضع المرء رغم أنفه ولا فضل فيما يأتيه الإنسان مكرها بل فى اليقين بأن الضرورة الأليمة المرة هى خير ما يقع للإنسان وأفضل ما يناله وأن لله فى ذلك حكمة تلطف عن الأفهام وتدق عن الأذهان، وانه من الأفن والسخف أن يجعل الإنسان من دماغه الضئيل ميزانا لذلك العالم وأحواله. بل عليه أن يعتقد أن للكون قانونا عادلا وإن غاب عن إدراكه. وأن الخير هو أساس الكون، والصلاح روح الوجود والنفع لباب الحياة. نعم عليه أن يعرف ذلك ويعتقده ويتبعه فى سكون وتقوى.
أقول: وما زالت هذه الخطة المثلى والمذهب الأشرف الأطهر، وما زال الرجل مصيبا وظافرا وحرا وكريما وسائرا على المنهج الأقوم وسالكا سبيل السعادة ما دام معتصما بحبل الله متمسكا بقانون الطبيعة الأكبر الأمكن غير مبال بالقوانين السطحية والظواهر الوقتية وحسابات الربح والخسارة. نعم هو ظافر إذا اتبع ذلك القانون الكبير الجوهرى ــ قطب رحى الكون ومحور الدهر ــ وليس بظافر إذا فعل غير ذلك. وحقا أن أول وسيلة تؤدى إلى اتباع هذا القانون هى الاعتقاد بوجوده ثم بأنه صالح، بل لا شىء صالحا غيره! وهذا يا إخوانى هو روح الإسلام! وهذا هو أيضا روح النصرانية.
والإسلام والنصرانية يأمراننا بأن نتوكل على الله قبل كل شيء. وأن نفطم النفس عن الشهوات، وننهى القلب عن الهوى، وألا نجمح فى عنان المنى، وأن نصبر على البث والأسى، وأن نعرف أننا لا نعرف شيئا، وأن نرضى من الله كل ما قسم ونعدها يدا بيضاء ونعمة غراء ونقول الحمد لله على كل حال وتبارك الله ذو الفضل والجلال ونقول: «إنا بقسمة الله راضون ولو كان ما قسم لنا المنون».
فمن فضائل الاسلام التضحية بالنفس فى سبيل الله، وهذا اشرف ما نزل من السماء على بنى الأرض. نعم هو نور الله قد سطع فى روح ذلك الرجل فأنار ظلماتها. هو ضياء باهر كشف تلك الظلمات التى كانت تؤذن بالخسران والهلاك وقد سماه محمد (عليه السلام) وحيا و«جبريل». وأينا يستطيع أن يحدث له أسماء؟ ألم يجئ فى الإنجيل أن وحى الله يهبنا الفهم والادراك؟ ولاشك ان العلم والنفاذ إلى صميم الأمور وجواهر الاشياء لسر من أغمض الأسرار لايكاد المنطقيون أن يلمسوا منه إلا قشوره، وقد قال نوفاليس: «أليس الايمان هو المعجزة الحقة الدالة على الله؟» فشعور محمد اذ اشتعلت روحه بلهيب هذه الحقيقة الساطعة بأن الحقيقة المذكورة هى أهم ما يجب على الناس علمه لم يك إلا أمرا بديهيا، وكون الله قد أنعم عليه بكشفها له ونجاه من الهلاك والظلمة، وكونه قد أصبح مضطرا الى اظهارها للعالم أجمع هذا كله هو معنى كلمة «محمد رسول الله» وهذا هو الصدق الجلى والحق المبين.
ويخيل الينا ان الصالحة خديجة أصغت إليه فى دهشة وشك ثم آمنت وقالت: «أى وربى انه لحق». ونتصور أن محمدا شكر لها ذلك الصنيع ورأى فى ايمانها بكلمته المخلصة المقذوفة من بركان صدره جميلا يفوق كل ما أسدت إليه من قبل، فإنه ليس أروح لنفس المرء ولا أثلج لحشاه من أن يجد له شريكا فى اعتقاده. ولقد قال نوفاليس: ما رأيت شيئا قط أكد ليقينى وأوثق لاعتقادى من انضمام إنسان آخر الى فى رأيى. نعم إنه لصنيع أغر ونعمة وفيرة، وكذلك ما انفك محمد يذكر خديجة حتى لقى ربه حتى إن عائشة زوجه الصغيرة المحبوبة تلك التى اشتهرت بين المسلمين بجميع المناقب والفضائل طول حياتها هذه السيدة البارعة الجمال والفطنة سألته ذات يوم: ألست الآن أفضل من خديجة؟ لقد كانت أرملة مسنة قد ذهب جمالها وأراك تحبنى أكثر مما كنت تحبها. فأجاب محمد: «كلا والله لست أفضل منها». كيف وهى التى آمنت بى والكل كافر ومنكر، ولم يكن لى فى هذا العالم إلا صديق واحد وهذا الصديق هى. وآمن به مولاه (زيد بن حارثة) كذلك وعلى هؤلاء الثلاثة أول من آمن به.
وجعل يذكر رسالته لهذا ولذاك فما كان يصادف إلا جحودا وسخرية حتى إنه لم يؤمن به فى خلال ثلاثة أعوام إلا ثلاثة عشر رجلا وذلك منتهى البطء وبئس التشجيع ولكنه المنتظر فى مثل هذه الحال. وبعد هذه السنين الثلاث أدب مأدبة لأربعين من قرابته، ثم قام بينهم خطيبا فذكر دعوته، وانه يريد أن يذيعها فى سائر أنحاء الكون، وانها المسألة الكبرى بل المسألة الوحيدة، فأيهم يمد إليه يده ويناصره؟ وبينما القوم صامتون حيرة ودهشة وثب على وكان غلاما فى السادسة عشرة وكان قد غاظه سكوت الجماعة فصاح فى أحد لهجة انه ذلك النصير والظهير، فإنه لايحتمل ان القوم كانوا منابذين محمدا ومعاديه وكلهم قرابته وفيهم أبو طالب عم محمد وأبو على. ولكن رؤية رجل كهل أمى يعينه غلام فى السادسة عشرة يقومان فى وجه العالم بأجمعه كانت مما يدعو الى العجب المضحك، فانفض القوم ضاحكين. ولكن الأمر لم يك بالمضحك بل كان غاية فى الجد والخطر! أما على فلايسعنا إلا أن نحبه ونعشقه فإنه فتى شريف القدر كبير النفس يفيض وجدانه رحمة وبرا ويتلظى فؤاده نجدة وحماسة وكان أشجع من ليث، ولكنها شجاعة ممزوجة برقة ولطف ورأفة وحنان، وقد قتل بالكوفة غيلة، وانما جنى ذلك على نفسه بشدة عدله حتى حسب كل إنسان عادلا مثله، وقال قبل موته حينما استشير فى قاتله: «ان أعش فالأمر الى، وأن أمت فالأمر لكم، فإن آثرتم أن تقتصوا فضربة بضربة، وأن تعفوا أقرب الى التقوى».
وكان فى عمل محمد هذا اساءة ولاشك الى قريش حراس الكعبة وخدمة الاصنام. وانضم إليه منهم رجلان أو ثلاثة أولو بأس ونفوذ. وسرى أمر محمد ببطء ولكنه سريان على كل حال. وكان عمله بالطبع سيئ الوقع لدى كل انسان، حيث جعلوا يقولون: من هذا الذى يزعم انه أعقل منا جميعا والذى يعنفنا ويرمينا بالحمق وعبادة الخشب. وأشار عليه أبوطالب أن يكتم أمره ويؤمن به وحده وأن يكون له من نفسه ما يشغله عن العالم وألا يسخط القوم ويثير غضبهم عليه فيخطر بذلك حياته. فأجابه محمد: «والله لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته» كلا، فإن فى هذه الحقيقة التى جاء بها لشيء من عنصر الطبيعة ذاتها لا تفضله الشمس ولا القمر ولا أى مصنوعات الطبيعة. ولابد لتلك الحقيقة من أن تظهر برغم الشمس والقمر مادام قد أراد أن تظهر، وبرغم قريش جميعها وبكره سائر الخلائق والكائنات. نعم، لابد من أن تظهر ولا يسعها إلا أن تظهر. بذلك أجاب محمد ويقال: «انه اغرورقت عيناه». لقد أحس من عمه البر والشفقة وأدرك وعورة الحال وعلم أنه أمر ليس بالهين اللين ولكنه أمر صعب المراس مر المذاق.
واستمر يؤدى الرسالة الى كل من أصغى إليه، وينشر مذهبه بين الحجيج مدة اقامتهم بمكة، ويستعمل الأتباع هنا وهناك وهو يلقى أثناء كل ذلك منابذة ومناوأة ومناصبة بالعداوة ومجاهرة وشرا باديا وكامنا. وكانت قرابته تحميه وتدافع عنه ولكنه عزم هو وأتباعه على الهجرة الى الحبشة فوقع خبر ذلك العزم من قريش أسوأ موقع وضاعف حنقهم عليه فنصبوا له الأشراك وبثوا الحبائل وأقسموا بالآلهة ليقتلن محمدا بأيديهم. وكانت خديجة قد توفيت وتوفى أبوطالب، وتعلمون أصلحكم الله أن محمدا ليس بحاجة الى أن نرثى له ولحاله النكراء إذ ذاك ومقاومة الضنك وموقفه الحرج، ولكن اعرفوا معى أن حاله إذ ذاك من الشدة والبلاء كما لم ير إنسان قط، فلقد كان يختبئ فى الكهوف ويفر متنكرا الى هذا المكان وإلى ذاك لا مأوى ولا مجير ولا ناصر، تتهدده الحتوف، وتتوعده الهلكات، وتفغر له أفواهها المنايا، وكان الأمر يتوقف أحيانا على أدنى صغيرة كأجفال فرس من أفراس اتباع محمد فلو حدث ذلك لضاع كل شيء، ولكن أمر محمد ذلك الأمر العظيم ما كان لينتهى على مثل تلك الحال.. فلما كان العام الثالث عشر من رسالته وقد وجد أعداءه متألبين عليه جميعا، وكانوا أربعين رجلا كل من قبيلة ائتمروا به ليقتلوه، وألفى المقام بمكة مستحيلا، هاجر إلى يثرب حيث التف به الانصار، والبلدة تسمى الآن المدينة اى مدينة النبى، وهى من مكة على 200 ميل، تقوم وسط صخور وقفار، ومن هذه الهجرة يبتدئ التاريخ فى المشرق. والسنة الأولى من الهجرة توافق 226 ميلادية وهى السنة الخامسة والخمسون من عمر محمد، فترون انه كان قد اصبح اذ ذاك شيخا كبيرا، وكان أصحابه يموتون واحدا بعد واحد ويخلون امامه مسلكا وعرا وسبيلا قفرا وخطة نكراء موحشة، فلو انه لم يجد من ذات نفسه مشجعا ومحركا ويفجر بعزمه ينبوع امل بين جنبيه فهيهات أن يجد بارقات الأمل فيما يحدق به من عوابس الخطوب ويحيط به من كالحات المحن والملمات، وهكذا شأن كل انسان فى مثل هذه الأحوال. وكانت نية محمد حتى الآن أن ينشر دينه بالحكمة والموعظة الحسنة فقط، فلما وجد أن القوم الظالمين لم يكتفوا برفض رسالته السماوية وعدم الإصغاء إلى صوت ضميره وصيحة لبه حتى أرادوا أن يسكتوه فلا ينطق بالرسالة - عزم ابن الصحراء على أن يدافع عن نفسه دفاع رجل ثم دفاع عربى، ولسان حاله يقول: «وأما وقد أبت قريش إلا الحرب فلينتظروا أى فتيان هيجاء نحن! وحقا رأى» فإن أولئك القوم اغلقوا آذانهم عن كلمة الحق وشريعة الصدق وأبوا إلا تماديا فى ضلالهم يستبيحون الحريم ويهتكون الحرمات ويسلبون وينهبون ويقتلون النفس التى حرم الله قتلها ويأتون كل اثم ومنكر وقد جاءهم محمد من طريق الرفق والأناة فأبوا إلا عتوا وطغيانا، فليجعل الامر اذن الى الحسام المهند والوشيج المقوم والى كل مسرودة حصداء وسابحة جرداء! وكذلك قضى محمد بقية عمره وهى عشر سنين اخرى فى حرب وجهاد لم يسترح غمضة عين ولا مدر فواق... وكانت النتيجة ما تعلمون!.
رابط دائم: