ما هى دبى، حقا وببساطة: ما هى؟
سأجيبك على الفور ودون كلام كبير: هى سيدة باهرة الحسن، مصنوعة من الضوء الخالص، ترتدى قمرين كقرطين صغيرين بأذنيها وتنتعل حذاء فضيا. لا تلتفت يمينا ولا يسارا وهى تشمخ بأنفها نحوسماء مرصعة بالنجوم، وكلما تكاثر ضحاياها من المعجبين على الجانبين، أشاحت بعينيها الجميلتين بعيدا وهمست: لم أبلغ مرادى بعد!
.......................
لا أحد يعرف على وجه الدقة ما الذى تبتغيه هذه المدينة التى لا تعرف نهاية للطموح ولا لحظة استرخاء فى ركضها المتواصل نحوقمة لا يراها أحد غيرها. صارت دبى اسما بارزا على خارطة السياحة العالمية ورقما مهما فى عالم مهرجانات التسوق، فضلا عن مكانتها الراسخة كمركز دولى للمال والأعمال، لكنها أبدا لا تقنع وشعارها المرفوع دوما: هل من مزيد؟
حين تلقيت تلك الدعوة الكريمة للمشاركة فى ملتقى «آرت دبى» للفنون التشكيلية، لم أشعر بكثير من الحماس فى البداية. قلت بعقل بإلى ها هى المدينة الصاخبة التى تستحم فى الضوء على وقع الصخب المميز لعواصم البيزنس العالمى مثل هونج كونج وسنغافورة ونيويورك، تبحث لنفسها عن لحظة استرخاء فنية حتى تقنعنا أنها ليست – كما قد يتبادر إلى أذهاننا – مدينة بلا قلب. زاد حماسى حين عرفت أن برنامج الزيارة يتضمن رحلة إلى بينإلى الشارقة للفنون التشكيلية، فكثيرا ما قرأت عن التوجه الثقافى لتلك الإمارة بقيادة الشيخ سلطان القاسمى المعروف مصريا باسم «حاكم الشارقة وحكيمها».
اشتعل حماسى من أول عمل وقعت عليه عيناى، فالملتقى العالمى يضم 500 فنان من 80 دولة على نحوجعل من «آرت دبى» فى نسخته الثالثة عشرة حدوتة عالمية زاخرة بكل ما هوجديد فى الرسم والتصوير والنحت والجرافيك، فضلا عن فنون الأداء. نحن إذن أمام منصة حقيقية للأعمال الفنية الحديثة لاسيما من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وجنوب آسيا.
هنا يتضح الوجه الآخر للمدينة ذات الشهرة العالمية والتى تستقطب الأثرياء بوعودها المغوية فى فنون الترفيه، فالفن التشكيلى له نصيب من الكعكة. أعجبنى ما أعلن عنه منظموالملتقى من أنه «نقطة التلاقى للفنون والفنانين من مختلف أنحاء العالم والوجهة الاستكشافية الأبرز للتمتع بمختلف الأساليب الفنية القادمة من مناطق قد تغيب عن المعارض الفنية الغربية التقليدية»، لكن لم تعجبنى فكرة أن الملتقى «يستقى روحه النشطة وتوقه للابتكار والتجدد من وحى الحياة سريعة الوقع فى مدينة دبى وطموحها الذى يلامس السماء»، فالإنجاز الحقيقى هوأن يطوع الفن المدينة لمقتضياته وليس العكس.
كان برنامج الرحلة مزدحما للغاية. وصلنا مساء الأحد وغادرنا صباح الخميس. وثلاثة أيام لا تكفى أبدا للإحاطة بكل تفاصيل الحدث خصوصا حين تتخلله زيارات لمعالم ثقافية رائعة بدبى مثل حى «سكة» الذى يشبه خان الخليلى ويحتوى على معارض فنية دائمة وكذلك مركز «جميل» للفنون المقام على شاطئ خور دبى. الانطباع الأول الذى يعتريك بقوة عبر مطالعتك السريعة أن «آرت دبى» يكرس للتجريب ويحتفى بكل ما مدهش وغير نمطى. هذا التوجه القوى لا يقتصر على الأعمال المشاركة فى الملتقى فقط، بل يمتد لتلك الموجودة بمركز «جميل» وحى «سكة». دبى إذن مدينة الفنون التشكيلية «التجريبية» لكن ما أخشاه أن يؤدى ذلك لبخس فنون أخرى أقل تجريبا ولا ينشغل أصحابها بـ «موضات» ما بعد الحداثة، كما أخشى أن يكون الاحتفاء بالتجريب هدفه خطف الانبهار سريعا من عيون سائح ليس لديه وقت للتعمق أوالتذوق ويبحث عن متعه الصغيرة المتلاحقة فى مدينة معروفة بإيقاعها اللاهث السريع.
النسخة الثالثة عشرة من «آرت دبى» تحظى بالعديد من الإضافات الجديدة اللافتة، منها برنامج «رزيدنتس» للإقامة الفنية حيث يبرز أعمال فنانين أقاموا فى الإمارات ضمن برنامج إقامة فنية يستغرق من أربعة إلى خمسة أسابيع عاش فيها الفنانون على أرض الإمارات وامتزجوا بالثقافة المحلية لينعكس الموضوع فى النهاية على أعمالهم المشاركة. هناك كذلك «آرت دبى بورتريتس» وهى سلسلة أفلام وثائقية قصيرة تسلط الضوء على فنانين مشاركين فى المعرض لتكون بمثابة توثيق بالصوت والصورة لأعمالهم.
وبحسب بابلوديل فال، المدير الفنى لآرت دبى، فإن أهمية هذا البرنامج تنبع من فكرة «نظرتنا للآخر» أوالعدسة التى من خلالها نبصر الآخرين، وبطريقة غير مباشرة، نبصر أنفسنا. هؤلاء الفنانون يحظون بفرصة للابتعاد مؤقتا عن بيئتهم الفنية ومحيطهم الثقافى ليواجهوا تحدى التأقلم والانخراط فى السياق الإماراتى، حيث تخرج من تحت أياديهم أعمال جديدة بالكامل من وحى اقامتهم بالإمارات.
وتبدى منيرة الصايغ، القيّمة الفنية الإماراتية، واحدى المسئولات عن هذا البرنامج حماسا شديدا لفكرة الاقامة الفنية، باعتبارها فرصة رائعة لينغمس فنانون أجانب فى النسيج الإماراتى ويندمجوا فى أحاديث ونقاشات جماعية مطولة مع أقرانهم من ثقافات مختلفة قبل أن يشرعوا فى تنفيذ أعمالهم. منيرة ذات الشعر القصير والابتسامة التلقائية الخارجة من القلب درست تاريخ الفن التشكيلى وتعمقت فيه لكنها بدلا من أن تصبح مجرد فنانة تشكيلية أخرى، اختارت بدلا من ذلك أن تشارك فى صناعته عبر تحكيم المسابقات وتنظيم المعارض ووضع رؤى استراتيجية لهذا القطاع الحيوى.
الجميل، أن دبى لديها أماكن مخصصة لاستضافة الفنانين المشاركين بمثل هذه البرامج، فهناك على سبيل المثال «حى دبى للتصميم» ومركز «تشكيل» فى دبى و«بيت 15» و«معرض421» فى أبوظبى ليمتلك كل فنان نقطة انطلاق محلية تساعده على التعرف على الساحة الفنية الإماراتية والتحاور مع محيطه الفنى المحلى، بالإضافة إلى منحه مساحة عمل مريحة توفر له فرصة التجاوب مع محيطه وتجربته بطريقته الخاصة.
رابط دائم: