أكتب إليك مشكلتي أملاً في أن أجد حلا أو تفسيراً لها، فأنا من أشد المعجبين ببريدك ذائع الصيت، وسنى ستة وستون عاماً، وأنتمى إلى عائلة عريقة بإحدى قرى مركز أوسيم بالجيزة، وقد عشقت العمل الاجتماعى، فتطوعت للإصلاح بين الناس، وكم من مشكلات نفسية واجتماعية لجأ أصحابها إلىّ، وساعدتهم فى حلّها، وأنا متزوج بسيدة فاضلة كانت تشغل منصب مدير عام بالتربية والتعليم، ولى منها ثلاثة أبناء أكبرهم سيدة تعمل محاسبة بإحدى شركات قطاع الأعمال، ومتزوجة من رجل فاضل، والثاني طبيب، ومتزوج من طبيبة، والثالثة مدرس مساعد بكلية الطب ومتزوجة من زميل لها،
ولا توجد فى قاموس حياتى كلمة (لا) لأى إنسان سواءً استطعت أن أقدم له الخدمة التى يطلبها أو لم أستطع، إذ أحاول بشتى الطرق مساعدته عن طريق معارفى، ولا أجد سعادتي إلا فى نظرة حب بأعين الناس حين يقابلوننى فى أى مكان، فهى عندى تساوى الدنيا كلها، وهناك كثيرون يربطنى بهم حب عميق ومودة دون أن أعرف أسماءهم، والحمد لله يسير على نهجى أبنائى، وأعضد فيهم ذلك، فأن تعيش بين الناس محباً ومحبوباً هو أسمى معانى الحياة لأن حب الناس هو من حب الله عز وجل، وفضلاً عن علاقتى الطيبة بالكبار والشيوخ، فإن الشباب والأطفال يلتفون حولى، وأسعد بوجودهم، وأنظّم لهم رحلات جماعية لتعميق المحبة بينهم، وقد دأبوا على مداعبتى، ومناداتى بالـ (King)ولكن تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن، فلقد أردت أن أكون رسولاً للحب ولم الشمل بالقرية، وأن نتناول الطعام من إناء واحد، ولم لا ونحن نجوب القرية كلها في أقل من خمس دقائق، ولكن هيهات أن يتحقق ذلك، فلقد اصطدمت أحلامى بصخرة عاتية، ولم تجد محاولاتى طريقا لرأب الصدع وتقريب وجهات النظر بين الناس، بل إن هناك من فسّر الأمر بأننى أسعى إلى تحقيق مصالح شخصية، وأصبحت هدفاً مباشراً للبعض وذويهم ومساعديهم للنيل منى، وقد حدّثت أحدهم فى مسألة هو طرف فيها، ففهم كلامى بمعنى آخر لم أقصده، وأخذ موقفا منى، ولم أره كعادتنا كل جمعة لمدة أسبوعين، وعندما قابلت أحد المقربين حمّلته رسالة بالسؤال عنه، فإذا به يرد علىّ بكلام أعف عن ذكره، واعتقدت أن من نقل إليه سؤالى عنه، قد قام بتحريف كلماتى، ولكن اتضح فيما بعد أن الرجل نقلها بأمانة، وفحواها الاطمئنان عليه من باب تقريب وجهات النظر.
والغريب أن البعض يعتبرون أن علاقتى الطيبة بمن يختلفون معهم عداء لهم، وبالطبع فإن رؤيتهم خاطئة، فدورى هو السعى إلى الإصلاح ما استطعت، فإن لم أوفق فى ذلك، فليس أقل من أن أحرص على علاقاتي الطيبة وعلاقات المحبة لكل الأطراف، ولا تعنى علاقتى الحسنة بطرف ما رفضاً للطرف الآخر، فلم تدخل قلبى ذرة كراهية لأحد، والمؤسف أننا نعيش الآن فى مجتمع تسود فيه المصالح الشخصية على حساب العلاقات الإنسانية، وقبرت فيه كثير من القيم والمبادىء والأخلاق، فماذا أفعل؟، هل أعتزل الناس، وأتخلى عن علاقاتى الطيبة بهم؟، وهل أترك القرية إلى بيتي العامر بإحدى مدن الجيزة؟، أرجو أن تشير علىّ بما يمكن أفعله فى ضوء ما ذكرته لك من مواقف وأحداث.
> ولكاتب هذه الرسالة أقول:
هناك دائما اتجاه معاكس يصادفه أى منا فى حياته، إذ إنك لن ترضى كل الناس، ومن الطبيعى أن يحبك البعض، ويبتعد عنك آخرون، فهناك اختلاف بين البشر فى كل شىء، وليس هذا هو المعيار الذى يبنى المرء على أساسه علاقته بالآخرين، فقط عليك اتباع منهجك على تقوى الله، ومراعاة المصالح العامة، وقضاء حوائج الناس دون أن تنتظر المقابل أو تلقى بالا لمن يحاولون عرقلة عطائك وعملك الخيرى، فهذا من صفات أهل الفضل والإحسان، وهو مسئولية اجتماعية، ومن أهم القيم الإنسانية التى قامت عليها نهضة الأمم لما يحققه من آثارٍ إيجابية على الفرد والمجتمع، ومن هذا المنطلق يجب نشر ثقافة العمل التطوعي والخيرى، وإنشاء قاعدة بيانات وشبكة معلومات لأدبيات العمل الإنسانى، وتدعيم سبل التعاون والتنسيق بين جمعيات وهيئات العمل الخيرى والإفادة من تجارب الآخرين.
والحق أن سعيك للصلح بين الناس من أعظم الأعمال التى يحبها الله عز وجل، حيث يقول رسـول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصدقة والصلاة، فقال أبو الدرداء: قلنا بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين»، فالإصلاح بين الناس عبادة عظيمة، والمصلـح هو ذلك الشخص الذى يبذل جهده وماله وجاهه ليصلح بين المتخاصمين، وقلبه من أحسن الناس قلوباً، ونفسه تحب الخير، وتشتاق إليه، ويقع فى حرج مع هـذا وذاك، لكنه لا يحيد عن الهدف الاسمى الذى يسعى إليه، ويحمل هموم الآخرين ليصلح بينهم، فكم بيت كاد أن يتهدّم بسبب خلاف سهل بين الزوج وزوجته، فإذا بهذا المصلح بكلمة طيبة، ونصيحة غالية، وربما مال مبذول، يعيد المياه بينهما إلى مجاريها، وكم من قطيعة كادت أن تكون بين أخوين، أو صديقين، أو قريبين بسبب زلة أو هفوة، وإذا بهذا المصلح يتدخل لإنهاء خلافهما.
إن الخلاف أمر طبيعى، ولا يسلم منه أحد من البشر، فخيرتهم وقع بينهم خلاف فكيف بغيرهم؟، فهـاهم أهل قباء صحابة رسول الله الذين أنزل الله فيهم قوله: «فيهم رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين» (التوبة 108).. هؤلاء القوم حدث بينهم خلاف، وأصلح النبى أحوالهم.. أيضا فإن أبا بكر الصدّيق، وعمر بن الخطّاب رضى الله عنهما حصل بينهما شىء من الخلاف، فليس العيب الخلاف أو الخطأ، ولكن العيب هو الاستمرار والاستسلام للأخطاء !! فعلينا أن نتحرّر من ذلك بالصلح والمصافحة والمصالحة .. والتنازل والمحبة حتى تعود المياه إلى مجاريها، فاستمر فى منهجك الداعى إلى الصلح، وتدعيم أواصر المحبة، وأرجو ممن أساء فهمك أن يعيد النظر فى موقفه، وعلى كل مصلح أن يتحرى العدل، وأن يحذر كل الحذر من الظلم لقوله تعالى: «فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين» (الحجرات 9)، ولا تتعجل في حكمك وتريّث الأمر، فالعجلة قد يُفسد فيها المصلح أكثر مما أصلح، هداك الله إلى ما فيه الخير لك ولقريتك وللناس أجمعين.
رابط دائم: