-
أنت أمام امرأة صنعت «حكايتها» بمزيج من القوة والحلم
ما بين «كنت نفسى»، و «خلطة أمانى»، تراوح الاختيار لعنوان هذه الاوراق التى تسرب الى قارئها رغبتين.. أولاهما ان «يكون نفسه»، ليكسب نفسه، وثانيهما ان يدرك، ان حرصه ان يكون نفسه، لا ينبغى ان ينسيه، ان فى كوامنه جبالا.. محيطات من «الحب»، والتسامح، بتجلياته الواسعة، وانها لا تتناقض وأى نزعة واقعية، فى ان يناطح السماء. وتلك هى فحوى «خلطة أمانى» السحرية، والساحرة، وأمانى هى الدكتورة أمانى قنديل، «باحثة» السياسة والاقتصاد، التى دخلت حيز «الندرة» العربية، فى الكشف والافصاح عن «ثنايا التجربة» الحياتية، واهدائها فى أريحية الى التواقين للحياة.. لم تكن الحياة لأمانى قنديل، التى عاشت الصبا فى منيا القمح شرقية، تعنى فى أى لحظة الدخول فى القوالب السابقة التجهيز، سواء تلك التى يفرضها المجتمع مباشرة، أو يمارس ضغوطه غير المباشرة لارغامك على الدخول فيها، وائدا أى خيار مغاير عنها، مهما كان خصبا أو متفردا.. شدتنى تلك الأوراق التى تقف على تخوم حياة باحثة مصرية، تفضلت على قارئها «بفحوى» تجربة حياتها التى يمكن من زاوية، ان تكشف فى نفس الوقت عن جوانب للوطن الذى خرجت من أرضه، جوانب فيها الحلاوة والمرارة، والكمد والفرح، و هى أيضا ما يمكن أن نرى فيها «خلطة الوطن السحرية».. تلقت تعليمها الجامعى فى عهد عبدالناصر، وعملت وحصلت على الماجستير فى عهد السادات، ولمعت وبرعت فى عملها فى عهد مبارك، حين انهت رسالتها للدكتوراة وأصبحت تقود مدرسة جديدة فى علم السياسة، تكسر الحواجز بين العلوم الاجتماعية ويمتد صداها الى المنطقة العربية ثم الولايات المتحدة وأوروبا. فى اصدار محدود العدد، حمل عنوان «أوتوجراف» اهدتنا الدكتورة التى رأست الشبكة العربية لمنظمات المجتمع المدنى عصارة حياة، ان سألت عن أجمل مافيها سوف يكون هو القدرة على أن تحتفظ بحقك فى الاختيار والتفرد، ان تحمل صخرتك للصعود، حتى لو كنت وحيدا، زادك الوحيد قادم من يقينك بالله أكيد، وأيضا مما انبته الله داخلك من رغبة فى ألا يكون مرورك بالحياة، بصمة على ماء، بل حفر على صخر.
فى لحظة، فرضها انتقال من بيت لآخر، راحت تفرز اوراقها التى كاد النسيان ان يطويها.. شهادات.. أوراق بحثية.. وثمة «أوتوجراف» يحمل توقيعات اصدقاء وأمنيات زملاء و أصدقاء، قبيل الانطلاق للحياة العملية بعد اتمام الدراسة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية.. عام 1970.. أمنيات بالسعادة.. سعادة تكاد ان تكون محددة الملامح.. زواج وأولاد.. طريق واحد صبت فيه اغلب الأمنيات، الا ربما نفر قليل.. كأنما كان ظهور الاوتوجراف «علامة» او اشارة، دفع الدكتورة أمانى ليس لمجرد استرجاع «المشوار»، ولكن لتأمل ذلك المشوار الذى لم يتبع الا صاحبته، التى لم تكن خلاله الا نفسها.. غمرها الرضا عن الرحلة التى قاومت خلالها اى «فرض» او «املاء». تقول: «أدركت انى كنت سعيدة والحمد لله فى حياتى «كنت نفسى»، سارت حياتى باختياراتى وليس من املاءات او تحت ضغوط اجتماعية، شعرت بالرضا عن رحلة عمرى، و قررت ان اكتب صفحات من حياتى.. لا ادعى سيرة ذاتية و لكن اسجل خبرات، بعضها حلو وبعضها مر و جميعها صنعت «خلطة أمانى». انت امام امرأة صنعت «حكايتها» بمزيج من القوة و الحلم.. من الدأب و الرقرقة فى المشاعر.. انسانة امتلكت «ارادة»، لا تكف عن البحث عن ذاتها و بقدرة على ان تستخرج من كتلة الوجع «نسيرة» أمل.. عبقرية ان تعثر وسط المرار، ما يزيد تشبثك بالحياة. امرأة لا تندرج تحت «النموذج» المصكوك اجتماعيا.. مفطورة على «الطموح والمنافسة» او كما وصفها مدرس الجغرافيا فى المرحلة الثانوية: «هناك من يهوى تسلق الجبال.. فهل انت منهم؟» هى بالفعل من هؤلاء، القادرين على بناء «مدينتهم الفاضلة» طوبة حلم وطوبة ارادة، قابضين على احلامهم.... خطوتها دائما باتجاه هدف واع للامام. تصف مشهدا جرى ربما فى مرحلة الصبا.. لما راحت تجرى، فى بيتهم الفسيح بمنيا القمح شرقية، التى كان الوالد يعمل بها طبيبا و يدير مستشفاها العام، رافعة علما من الورق، هاتفة: «انا بنت.. انا بنت، انا حرة.. أنا حرة».. يدهشك ان بداخل هذا التكوين الواثق الثابت، امرأة تحب الحب نفس، لا يمكنها و لم يمكنها ان ترتبط بغير ان تحس هذا الحب، الحب ليس ضعفا، الحب قوة وعطاء مهما تأخر حضوره فى حياتها، بل انها تصنع منه خيمة تتسع لكل من تتعامل منه، بإدراك للطبيعة الانسانية التى تتسع فيها مساحات اللون الرمادى. «القدرة على العطاء هى مصدر قوة الشخصية، ترتبط بدرجة عالية من التسامح»... فى عام 1967، تجلس فى لجنة امتحان كلية الاقتصاد والعلوم السياسية.. فجأة تصل الى الممتحنين اصوات أزيز الطائرات، ثم تتوالى الانفجارات، ويدخل الدكتور عبدالملك عودة معلنا الغاء الامتحانات، مصر دخلت الحرب. بداية الوجع أو «اكتشاف» الوهم، اللحظة التى تغير بعدها كل شىء.. «لم تعد مصر.. هى مصر التى نعرفها» مظاهرات الطلبة فى عام 1968 يقوم بها الشباب، مطالبين بمحاكمة المسئولين عن هزيمة 67. بعدها بسنوات سوف تكتشف امانى قنديل «وهما» آخر لكنه يخصها. «أحلام قد تكون اوهاما»..حين التحقت بكلية الاقتصاد آواخر الستينيات، كان المستقبل بالنسبة للاغلبية من الطلبة والطالبات، يعنى اما العمل فى السلك الدبلوماسى او العمل الأكاديمى، كانت هى الوحيدة التى تحلم بالعمل فى الاعلام.. كان داخلها بقايا مذاق تحدثه الكلمة المذاعة، فى داخلها، وشكل نجاح وشهرة ابن عمها حمدى قنديل، دافعا آخر لتصور ان الاعلام بامكانه ان يسهم فى التغيير. عملت ثمانية اعوام فى الاذاعة، حققت نجاحا باهرا وسافرت فى منح دراسية للاعلام، وأثار هذا النجاح، حفيظة حزب اعداء النجاح، وبدأ «سلو الفاشلين» الراغبين فى افشال الجامعين، فى التربص والحصار، وتحول هذا المناخ الى سؤال سألته امانى قنديل لنفسها: «هل هذا ما كانت تحلم به»؟ هل هذا هو الطريق الذى مفروض ان تحقق فيه خطوات صعود باتجاه المستقبل؟ وجاءت الاجابة بصورة عملية: خرجت من باب ماسبيرو الى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية وتسجل رسالة للماجستير، وسيلة للتحرر من الحلم الزائف وتدشينا لطريق جديد بعد ثمانى سنوات. بعد ان ناقشت رسالة الماجستير، ذهبت الى ماسبيرو؟ وجدتهم اخرجوا مكتبها من الحجرة الى «الطرقة»، واحدة من طرقات الدور، ووزعوا برامجها على آخرين، و توجت رئيستها التى فى عمر امها المشهد بعبارة «عايزة اوريكى انك ولا حاجة»! المشهد المصرى بامتياز فى اجتثاث أحلام أصحاب القدرات.. المشهد الذى يتكرر، بحذافير جوهره «الشرير»، بصور مختلفة عبر الازمان! بكت لشهر كامل.. وامها تحاول التخفيف بأن هذا اول دروس حياتها، لم تكن تعرف انه النقطة التى تخلق منها طريقا جديدا. فجأة اتصلت بها صفية المهندس استدعتها لمكتبها.. دعت معها جميع الزملاء و«الرئيسة» الموتورة، طلبت صفية المهندس بعد التحقق من الوقائع، ان تعتذر الرئيسة لامانى قنديل، رفضت أمانى ان تقوم واحدة فى عمر امها بالاعتذار لها، وبدلا من ذلك طلبت من صفية المهندس «قبول» استقالتها. تقول امانى قنديل انها لحظة اتضحت فيها الرؤية «أدركت ان قوتى الحقيقية التى افتش عنها سوف تكون فى البحث العلمى وهو الذى سوف يحمل اسمى»، عملت مدرسا مساعدا فى المركز القومى للبحوث الاجتماعية بعد حصولها على الماجيستير، واختارت موضوعا للدكتوراة جعل لها قدما فى السياسة وقدما فى الاقتصاد.. اول رسالة يشرف عليها الدكتور على الدين هلال: «صنع السياسة الاقتصادية فى مصر بين 1974-1981.. حصلت على منحة فى السوربون لمدة عام (لاعادة التأهيل) ومعطيات الرسالة التى سوف تكون حالتها التطبيقية الانفتاح الساداتى. احدى ثنايا التجربة التى ترويها الدكتورة امانى قنديل، الشق الانسانى الذى نجحت فى ان تمس به أوتارا فى منتهى الرهافة والشجاعة فى البوح والمواجهة التى ربما غير مألوفة فى مثل هذه الأدبيات العربية.. سوف يمتزج الحزن والفرح، السعادة والآلم، فى لحظة شكلت علامة ثانية فى مشوار امانى قنديل.. فى الوقت الذى توشك فيه على الانتهاء من رسالة الدكتوراة، وبينما هى فى منحتها الفرنسية، « دق بابى وانا فى باريس ما أطلق عليه الحزن العظيم « يتسلل المرض اللعين الى جسد الصديقة والحبيبة، الام التى هى السند والدافع والتى أمتلكت طوال الوقت «حضور الحياة» فى حياة امانى قنديل وفوق هذا الحضور ثمة نهر من مشاعر التعاضد والتعاطف يوثق لعلاقة تتجاوز البنوة والأمومة، الى حيز انسانى ارحب،ربما اسس لها انخراط او انشغال الاب بزيجة ثانية. تخرجت عام 1970 وحمل لها الاوتوجراف من الزملاء امنيات السعادة فى الاطار المرسوم مسبقا وسابق التجهيز «الزواج» بعد الشهادة، لكنها ظلت ما يقرب من سبعة عشر عاما بغير ارتباط وأيضا دون الدخول فى اى قالب نمطى للعيش.. عاشت مستقلة وعانت فترات من الوحدة الضاغطة بعد رحيل الام.. رافضة تلك النظرة التى تستنكر ان تعيش المرأة وحدها تحت اى ظرف. ايا كانت مكانتها او علمها او ثقافتها. عام 1985 حصلت على الدكتوراة التى تهديها الى امها و التى لولا حسم ودفع المشرف على الرسالة دكتور على الدين هلال ما انهتها.. «الى امى رحمها الله، والى سنوات كفاحها الطويلة، لعلى حققت امنيتها ووفيت العهد». لما ينبغى على الجميع ان يتخذ نفس المسار؟ هذا سؤال «التمرد» المفيد.. الذى سلكت طريقه، فلم تتزوج لاجل الزواج فى حد ذاته، و لم تمتثل «لماكينة» النمطية الاجتماعية، التى نساق اليها حتى ولو لم تكن ملائمة.
رفضت ما سمته الزواج باسلوب ادارى ولم ترتبط الا بعد سبعة عشر عاما من التخرج، اختارت بحب غير تقليدى الطبيب الذى يوما اسعفها من وجع تبع لحظة الظلم التى كانت فارقة، وغيرت مسار حياتها حين القوا فى ماسبيرو بمكتبها الى الطرقات..بعد سنوات من الحب والخصام، كما تقول، ذهبت عام 1987، هى والدكتور مختار عبدالحميد الى المأذون، و بمهر خمسة وعشرين قرشا، عقد القران و تم ابلاغ الاخوة الذين هم خارج البلاد بالتليفون، لا صخب ولا ضجيج، فى اليوم التالى راحت الى عملها بالمركز القومى و فى يدها الشمال «دبلة» زواج.. «تزوجت»! لم تنقض بالزواج لا تطفلات المجتمع ولا ضغوطه.. لازم تخلفى.. انوثة الست فى الانجاب.. والأدهى كان التوغل أكثر لمعرفة من المسئول عن عدم الانجاب، بدعوى الاهتمام، وكان ردها ان كل شيء هو «رزق» والاولاد رزق من عند الله.. انشغلت الدكتورة امانى كأى امرأة فى البداية حتى شحب الامل فصارت القناعة بأن كل ما يأتى به الله خير لها وزوجها.
تحولت طاقتها الفياضة فى العطاء الى «أمومة منثورة» على الجميع صارت اما دون انجاب وجدة دون أمومة.. «ماما امانى» ام لكل من يحتاج.. امرأة قوية قادرة على اتخاذ القرار وادارة الحياة، لكن لها قلب يفيض بالحب والرحمة والود.. تماسها والعمل السياسى استثناء جاء باختيارها عام 2000، ضمن المجلس القومى للمرأة، أما ما اختارته هى فكان البحث العلمى « الحر» والتفانى فى العمل التطوعى مصريا ثم لا حقا عربيا كمؤسسة للمنظمة العربية الاقليمية التى تغطى شبكة العمل الاهلى.. العربى.
أكثر ما يستلفت النظر فى «خلطة امانى» القدرة على الاستقلال بالرأى والحفاظ على هذا الاستقلال مهما كانت الظروف، والحصافة فى وجهات النظر وحماية حقها فى ان تخالف المجموع مادامت هذه قناعاتها «وخبراتها كباحثة مستقلة، هكذا و بهذا المعيار تحكم على شخصيات بارزة كسوزان مبارك والقذافى وصدام حسين والحريرى».
رابط دائم: