رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

بين الـ«نجيبين»..
قراءة «نجيب سرور» للثلاثية.. بين الأيديولوجية والفن

خالد عميرة

ربما لم تحظ ثلاثية نجيب محفوظ بدراسة أكثر إمتاعا، وأعمق فهما، وأرقى إبداعا، من تلك التى صاغها الشاعر والمسرحى الكبير نجيب سرور، والذى يعد أحد أهم الكتاب والمثقفين المصريين فى النصف الثانى من القرن العشرين.

ففى دراسته يأخذنا سرور فى رحلة شيقة داخل عوالم الثلاثية، وبالتحديد الجزء الأول منها «بين القصرين»، وقد نشرت فصول من هذه الدراسة فى مجلة الثقافة اللبنانية عام 1959 (عقب 3 سنوات فقط من صدور الرواية)، وأنجز سرور فصولا أخرى منها تواليا حتى 1963، ثم جمعت وقام محمد دكروب بتحقيقها وتقديمها فى كتاب تحت عنوان «رحلة فى ثلاثية نجيب محفوظ» عام 1989.

.............................................

وقد استهل سرور دراسته عن «بين القصرين» وليس الثلاثية بمحاولة فهم وتوضيح منهج محفوظ الروائى قبل الولوج إلى عالمه القصصى، الذى يصفه قائلا: «هذا العالم الرحب الشامل العميق الكبير المزدحم بمشاكل الفن والحياة»، ثم يستطرد: «ولنقف هنيهة لنختار الباب الذى سندلف منه إلى هذا العالم.. إلى قصر التيه»، وهكذا فبمجرد البدء فى مطالعة دراسة سرور سنكتشف أننا أمام نص أدبى موازى، فكل جملة، وكل كلمة، مصاغة بعناية ودقة وحرص «صائغ» ماهر، يعرف قيمة الجوهرة التى بين يديه، والتى هو بصدد تقييمها!. ثم يشير سرور إلى الطريقة التى انتهجها محفوظ فى بنائه الروائى داخل «بين القصرين»، فيوضح أنها بنائية «غاية فى البساطة وغاية فى التعقيد أيضا»، حيث يختار أولا «مشكلة نموذجية.. قضية نموذجية، تلخص مجتمعنا الكبير فى صراعه، فى تأزمه، فى تمزقاته، كل ذلك فى فترة تاريخية معينة، ثم يختار شخوصه، مراعيا فى كل شخصية أن تكون نموذجا مكثفا يلخص الآلاف بل الملايين التى يزدحم بها الواقع فى تلك الفترة التاريخية».

وهنا يلح سؤال: هل بالفعل يقوم الروائى، خصوصا لو كان بحجم وموهبة محفوظ، بهندسة عمله بهذا الشكل الذى أشار إليه ولو ضمنيا نجيب سرور؟.. وهل بالفعل تأتى كل شخصية تعبيرا نموذجيا عن مجموعة من البشر؟.. أشك، خصوصا لو لاحظنا حجم التداخل والتشابه النسبى بين الشخوص، فياسين يحمل كثيرا من صفات السيد أحمد عبدالجواد، وأمينة تتوافق فى نواح عديدة مع أم حنفى، وعائشة، وخديجة، كما أن فهمى وكمال يجمعهما الكثير، أما زبيدة وجليلة وزنوبة فالفروقات بينهن تكاد تكون منعدمة، ففى النهاية يكتب محفوظ شخصيات من لحم ودم، فإذا تم «هندستها» فقدت كثيرا من حيويتها وروحها و»طبيعيتها».

عموما.. هذا هو الخط العريض - فى رأى سرور - «شخوص نموذجية تعيش مشكلة نموذجية»، أما المسار الروائى فمقسم إلى مجموعة من اللوحات، وهى فى «بين القصرين» إحدى وسبعون لوحة، وكل لوحة عبارة عن لحظة زمنية، لحظة تتضمن تاريخها فى داخلها، فمحفوظ يعرفنا على شخوصه واحدا بعد الآخر، وكل منهم يظهر فى لحظة نموذجية مختارة، تتكشف فيها ملامحه، ثم يدخله طرفا فى لحظة نموذجية أخرى تتكشف من خلالها علاقته بآخر، حيث تتضح جوانب أو بعض جوانب الطرفين السلوكية والنفسية والشكلية أيضا، «هكذا يتم التعارف بدأب وصبر وإخلاص» بين شخوص الرواية وبعضهم البعض، وبين هؤلاء الشخوص والقارئ الذى يتعرف عليهم واحدا إثر واحد.

ثم يبدأ سرور توضيح ما سبق تطبيقا على شخصية «أمينة»، التى يراها الشخصية الأهم فى مسار الرواية، فإذا كان محفوظ قد اختار أسرة السيد أحمد عبد الجواد كمنظار يرصد به حركة المجتمع الكبير فى الخارج، فإنه اختار أمينة لتكون منظارا يرصد به حركة الأسرة، فالرؤية فى «بين القصرين» محدودة بأمينة كنموذج بشرى يلخص مشكلة نموذجية لأسرة، وهذه الأسرة تلخص المجتمع الكبير. وهنا ينصرف سرور إلى إصدار حكم قاطع، وربما متجاوز بشكل ما حين يكتب: «إن «بين القصرين» لم تكتب إلا لتجسيد أزمة الأسرة خاصة وأزمة المجتمع عامة من خلال التجسيد المعجز والرائع لأزمة أمينة، أزمة المرأة فى المجتمع الإقطاعى»، معتبرا أن هذا هو المفتاح الأهم للرواية، بل ويخلص سرور إلى أن كل النساء أمينة، وأمينة هى مصر المستسلمة، العاجزة عن المطالبة بحقوقها أمام المستبد، التى لا تملك إزاءه إلا السمع والطاعة، وهذا تصور يبدو به قدر كبير من التعسف، فضعف أمينة واستكانتها لا يمكن مقارنته بقوة «هنية» أم ياسين وتمردها، أو «ملاوعة» الغوانى زبيدة وزنوبة وجليلة وقدرتهن على التحكم فى الرجال واستلاب عقولهم.. وأمواله، أضف إلى ذلك أن ما صنعته مصر بالمحتل قبل وبعد 1919 (زمن الرواية) لا يمكن قياسه بخنوع أمينة، وهذا الحكم المتعسف نسبيا ينزع الشخصية من سياقها الزمانى والمكانى اسنادا لمعايير مذهبية وأيديولوجية غلبها سرور (أحيانا) على المعايير الفنية والنقدية، فلا تكاد تخلو فقرة فى الدراسة، حين يتعلق الأمر بأمينة من كلمات «الإقطاع»، «المجتمع الإقطاعى»، «النظام الاجتماعى الإقطاعى»، «الإطار الإقطاعى».... الخ، ثم يستند سرور فى تفسيراته إلى «إنجلز» مستعينا بكثير من كتاباته، فينقل عنه مثلا: «وبظهور الفوارق فى الملكية الفردية يظهر العامل الأجير فى كل مكان مع الرق، ويظهر احتراف النساء للبغاء، مع الاستسلام الإجبارى للإماء، وعلى ذلك فقد كان الميراث الذى انتقل للمدينة عن طريق الزواج الجماعى نعمة ونقمة، فمن ناحية نجد الزواج، ومن ناحية أخرى نجد البغاء»، ثم يفسر سرور الأمر: «وهكذا يرتبط ظهور الزواج والبغاء بالهزيمة التاريخية للمرأة، ثم بالملكية الفردية، ويتحول العمل الإنسانى إلى سلعة»، وهنا يتبدى، كما فى مواضع أخرى بالدراسة، وكما سبق القول الرؤية الأيديولوجية التى تتحكم فى سرور أثناء تقده الفنى، ولعل هذا هو المأخذ الأهم على دراسته، فالسيد أحمد عبدالجواد لا يمكن اعتباره إقطاعيا (بالمعنى الأوروبي)، كما لا يمكن وصم النساء فى الرواية رغم تبايناتهن الشخصية ( أمينة مريم زبيدة.... وغيرهن) بالعبودية.

وإن كان المأخذ السابق لا ينتقص من قدر الدراسة الممتعة والمهمة، والتى كانت سباقة فى عدة أوجه، لعل أهمها تلك المقارنة الرائعة بين «هاملت» و»ياسين»، تلك المقارنة التى تبدو مستحيلة للوهلة الأولى، بين حضيض شهوانية ياسين، وقمة نبل هاملت، «لكن أشد الأشياء غرابة قد يكون أكثرها قربا من الواقع» كما يقول سرور، وكما ذهب فى تحليله النفسى للشخصيات.

وتضمنت الدراسة أيضا فصلا مهما يعقد فيه سرور مقارتة بين الثلاثية ومسرحية»آل باريت» للكاتب «رودلف بيزييه»، ورغم التباعد الزمنى بين العملين (مسرحية بيزييه تدور أواسط القرن التاسع عشر)، والتباعد المكانى بين شارع «بين القصرين» بالقاهرة وشارع «وينبول» بلندن، والتباعد الثقافى والاقتصادى، نقول إنه رغم كل هذه التباينات، فإن سرور قد عقد تلك المقارنة استنادا إلى أن «الظاهرة توجد حيث تتوفر شروطها الموضوعية»، و»لأنه إذا كانت أزمة الأسرة وأزمة المرأة هى هى فى الطور الإقطاعى فليس فى مقدور محفوظ ولا بيزييه أن يكتب غير ما كتب»، ليعود سرور من جديد إلى مرجعيته الأيديولوجية عند تفسير الأمور، حتى لو كان ذلك على حساب الطعن فى عبقرية محفوظ بشكل ما، وهو ما لفت شقيق سرور نظر الأخير إليه، وحثه على إعادة النظر فى تلك المقارنة، لكن سرور لم يلتفت لمآخذ أخيه، مستندا إلى ثقته وثقة القارئ فى عبقرية محفوظ الطاغية، والفوارق التى رصدها بين العملين حتى لو اتفقا فى بعض الخطوط العريضة، فما كان لبيزييه أن يكتب عن أزمة مجتمعه غير ما كتب، وما كان لمحفوظ أن يكتب غير ما كتب عن أزمة مجتمعه وحالة القهر التى تعيشها أسرة تحت «أحمد عبدالجواد»، أو بلد تحت «المحتل الإنجليزى». ولعل خير ما يمكن أن نختم به هذا العرض لدراسة سرور الشيقة، هو ما كتبه سرور نفسه تعبيرا عن أصالة محفوظ الفكرية والإبداعية، وتواضعه، وإخلاصه، وصبره، وكراهيته للإعلان عن الذات، حيث قال: «وليكن نجيب محفوظ قدوة لكل المخلصين لفنهم ممن لم ينبتوا بعد من تحت التراب، وليوقنوا كما أيقن هذا الرجل أن قوى العالم أجمع لا يمكنها أن تقتل فنانا أصيلا بالسلب أو بالإيجاب، وأن نقاد العالم أجمع لا يستطيعون أن يخلقوا من الأقزام عمالقة، ولا من العمالقة أقزاما، وأن النصر فى النهاية للإخلاص والإصرار والثقة بالنفس واحترام الكلمة».. تجدر الإشارة إلى أن هذا ما كتبه سرور عن محفوظ عام 1959.. قبل نوبل بنحو ثلاثين عاما كاملة!.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق