مرَّ قصر الإليزيه على مدى تاريخه بسلسلة هزات شعبية عنيفة أصابته بالتصدع وأصبح فى حاجة دائمة إلى سرعة ترميم.
بدأت المواجهة مع الشارع الفرنسى عام ١٩٦٨ فى عهد الجنرال شارل ديجول عندما انفجرت أحداث مايو منذ ٥٠ عاما نتيجة لتراكمات فرضتها ظروف محلية ودولية خلال حقبة الستينيات، وتصاعدت الاحتجاجات فى الشانزليزيه مع انتقال مسار الاقتصاد الفرنسى من مرحلة النمو إلى مرحلة ركود بدأت تلقى بظلالها على العمال ومستوى المعيشة والبطالة.
وهدأت الأوضاع نسبيا بقدوم الرئيس الراحل فرانسوا ميتران إلى السلطة عام ١٩٨١، واكتسب ثقة الشعب بإجراءات إصلاحية جريئة كرفع الراتب الأدنى ١٠٪، و٢٥٪ للإعانات العائلية والسكنية، و٢٠٪ لإعالة ذوى الاحتياجات الخاصة، وصولا إلى إلغاء عقوبة الإعدام وإنشاء ضريبة على الثروات الكبيرة ومضاعفة ميزانية الدولة فى قطاعات الثقافة والبحث العلمى والتشغيل والإسكان، وتأميم البنوك والمجموعات الصناعية الكبري.
وبذلك التقط الفرنسيون أنفاسهم خلال ولاية ميتران، ودخلت المظاهرات الفئوية فترة «بيات شتوي» إلى أن تسلم القيادة الرئيس الأسبق جاك شيراك، فاستعاد «مارد» المظاهرات نشاطه ليخضع الرئيس لرأى الشعب عام ٢٠٠٦ بعد احتجاجات شعبية ضد قانون عقد العمل المؤقت، وسرعان ما استبدله شيراك بقرارات تساعد معظم الشباب على إيجاد فرص عمل، فضلا عن اندلاع مظاهرات أخرى ضد حظر الحجاب الإسلامى فى المدارس، مع الإبقاء على إمكانية ارتداء القلنسوة اليهودية والصليب المسيحي، ونجحت مسيرات الغضب فى إجبار نظام شيراك على التراجع واحترام الحريات الدينية.
وبظهور الرئيس اليمينى نيكولا ساركوزى بعد رحيل شيراك، بلغ «العصيان المدني» عنفوانه مع «قنبلة» ضواحى باريس التى شهدت انفجار غضب المهاجرين ضد «عنصرية» ساركوزى وكراهيته للأجانب ورفضهم القوانين المهددة لوجودهم ودفعتهم إلى النزول وإحراق البلاد، وتقاطعت هذه الأحداث مع احتجاجات رافضة لمشروع برفع سن التقاعد من ٦٠ إلى ٦٢ عاما، حيث رأت الحكومة الفرنسية وقتذاك أن تمديد سنوات العمل القانونية قبل الإحالة للتقاعد يشكل أفضل خيار لتأمين حاجات التمويل المقدرة بـ70 مليار يورو بحلول عام ٢٠٣٠، وانطلاقا من هذه القناعة لم يتراجع ساركوزى عن القانون وتحدى «عصيان» الفرنسيين!
ولم ينج الرئيس السابق فرانسوا أولاند من «شِباك» المظاهرات، حينما خرج الآلاف إلى شوارع باريس تنديدا بسياساته حول عدة قضايا أبرزها قانون السماح بزواج المثليين، وفرض ضريبة جديدة تتعلق بالبيئة وقضايا أخري.
وعلى مدى مشوار الرؤساء السابقين داخل الإليزيه فى استقطاب المواطن الفرنسي، سجَّل الرئيس الحالى الشاب إيمانويل ماكرون - ٣٩ عاما - رقما قياسيا فى وقوع المظاهرات الشعبية ليشتعل الشارع بالاحتجاجات ومسيرات الغضب، إلى الحد الذى تظاهر فيه أكثر من ١٠٠ ألف موظف من العاملين بالقطاع العام، رفضا لخطط التقشف التى تتضمن تجميد رواتبهم وخفض أعدادهم، وكان المشهد أول تعبئة لجميع النقابات العمالية منذ ١٠ سنوات، فى ظل ما صدرته قرارات ماكرون «التقشفية» من تغليب مصلحة الشركات الكبرى والأغنياء على أولويات الطبقة المتوسطة وشريحة الفقراء.
وطفت حركة «السترات الصفراء» على السطح مؤخرا تأثرا بحالة هذا الحراك العمالى الذى وصل إلى ١٢ احتجاجا فى بضعة أسابيع من تولى ماكرون الحكم، واستلهمت الحركة اللون الأصفر الذى يرتديه قائدو السيارات ليعكس الضوء عند الخروج على الطريق فى حالات الطواريء تجنبا لوقوع الحوادث.
وتسعى هذه الحركة الشعبية - غير التابعة لمؤسسة رسمية أو تيار سياسى معين – لإجبار ماكرون على التراجع عن قراراته الأخيرة.
كما حظيت «السترات الصفراء» بدعم أحزاب من اليمين مثل الجمهوريين و«التجمع الوطني»، إلى جانب حزب «فرنسا الأبية» اليساري، بقيادة النائب جان لوك ميلانشون، بما يعنى أن الأزمة حشدت المعارضة الفرنسية ضد حكومة ماكرون.
واكتفت الحكومة الفرنسية فى البداية بالصمت، قبل أن يخرج رئيس الوزراء، إدوار فيليب، ليُعلن عدم تراجع حكومته، وعلى سبيل التصريحات المخففة قال فيليب إن الرسوم الجديدة لـ«الضرورة البيئية» وتأمين سيارات كهربائية أو صديقة للبيئة لأعداد كبيرة من الأسر.
ولكن هل يمكن أن تهدأ النار فى فرنسا؟ وهل يمكن أن يتراجع ماكرون؟
الوضع بات يفرض على الرئيس وحكومته قراءة تاريخ المظاهرات والعصيان الشعبى ومعارك أسلافه الرؤساء، ومن رجحت كفته فى الميزان الفرنسى.
رابط دائم: