من بين مئات من الحقائق والزوايا الإنسانية فى حياة عميد الأدب العربى أنه لولا هذه السيدة ما كان طه حسين الذى نعرفه، إنها الصندوق الأبيض الذى فك شفرات عبقرية هذا الإنسان وأطلق لها العنان! فستبقى حياة طه حسين دراما مثيرة مليئة بالشجن والمحن والحياة إلى آخر العمر، فيها من الحزن والفرح وفيها من الهزيمة والانتصار وفيها من المعارك والمكائد، لكن فيها أيضا من الأسرار الإنسانية التى يكشف عنها المحبون يوما بعد يوم، كيف عاش هذا الطفل الأعمى الفقير الذى كان آخر طموحات والده هو ترتيل القرآن على المقابر أو فى الموالد والبيوت، حين كان القرآن رفيق حياة المصريين فى أفراحهم وأتراحهم، وكيف أصبح هذا الأعمى عميدا للأدب العربي؟ ثم تمكن من تغيير المجتمع المصرى كله وكيف أزاح كميات هائلة من الصخور والعقبات من طريقه ومن عقول الناس، كيف لهذا الإنسان الذى عاش فى الظلام أن يشعل مصابيح النور فى القلوب والعقول ويفوق فى تأثيره أى وزير وأى ملك أو فرعون؟ بل يموت الملوك والفراعين ويبقى هذا الأعمى فى وعى المصريين حيا لا يموت؟
...........................
إجابات هذه الأسئلة حققها الكاتب والصحفى الكبير رجب البنا وقدمها فى آخر مؤلفاته الذى حمل عنوان (حياة طه حسين من عاجز إلى معجزة)!
يقع الكتاب فى 232 صفحة وصدر عن المكتبة الأكاديمية ويقدم فيه المؤلف زاوية جديدة تماما من حياة العميد، وهى الغوص فى حياة طه حسين الانسان، بشخصيته الصلبة التى لا تعرف اليأس ولا تعترف بالعجز!
ومن خلال 16 فصلا تناولها رجب البنا، عن دراساته وأبحاثه الأدبية ودوره الرائد فى فتح آفاق جديدة للثقافة العربية ومجانية التعليم التى طبقها أول وزير أعمى فى مصر بفضل نجيب الهلالى حين وافق طه حسين أن يتولى الوزارة وزيرا للتعليم من عام 1950 إلى يناير 1952 فحقق حلمه أن يصير التعليم كالماء والهواء لكل إنسان مصرى،وأسرار انتصاراته وانكساراته فى معاركه الفكرية التى أثارها أستاذا للجامعة ثم عميدا للآداب، ورئيسا لتحرير مجلة الكاتب، وموقفه من تطوير الأزهر، ومشاركته فى الحياة السياسية والحزبية، والتى أهلته أن يأمر فيطاع، ثم ارتقاؤه من مجرد عضو بمجمع اللغة العربية إلى رئاسة هذا الصرح العملاق، وأسس جامعتى الاسكندرية وأسيوط ووضع حجر أساس جامعة عين شمس، ورغم أن رجب البنا غطى هذه الجوانب بلغة العاشق المحب والمدين بالفضل فى وجوده العلمى والثقافى لطه حسين عندما كان على وشك الخروج من قطار التعليم بسبب مصروفاته التى لا تحتملها أسرته الفقيرة فى نفس السنة التى فرض فيها طه حسين مجانية التعليم، إلا أن رجب البنا مكننى من اكتشاف سر هذا النجاح كله فى فصل لم يتجاوز تسع ورقات حمل عنوان (الملاك الحارس)، ولولا هذا الملاك الحارس ما كان طه حسين ولاكانت النهضة التى خلقها شيئا مذكورا!
فمن هو هذا الملاك الحارس؟
إنها فتاة فرنسية من أسرة بسيطة نزحت مع أسرتها من باريس لتعيش فى جنوب فرنسا هروبا من الحرب العالمية الأولى فالتقت شابا مصريا طموحا يدرس فى السوربون اسمه طه حسين، ربما كان الأمر جنونًا، أن تلتفت فتاة فرنسية كاثوليكية جميلة اسمها سوزان بريسو من شاب شرقى معمم وأعمى ومسلم، شوقنى رجب البنا للعودة إلى مذكراتها التى صدرت بعد وفاته بعنوان معك، تقول:
لأول مرة أتحدث مع غريب أعمى.. وكانت آخر مرة، فقد صار قريبا من قلبى، وكنت ُ قد اخترت حياة رائعة. اخترت.. من يدرى؟
أبهرنى تفرده، عندما قال لى عن رغبته إلى من يقرأ له ويساعده فى إعداد رسالة الدكتوراه، وتطوعت فى أن أقوم بهذه المهمة،ثم زرته مع والدتى فى غرفة متواضعة وبدأت فى مساعدته على تعلم اللغة اللاتينية المقررة عليه!
وبسبب اندلاع الحرب الأولى انقطع الراتب الذى كانت ترسله الحكومة المصرية إلى المبعوثين فعاد طه حسين إلى مصر، وفى العام التالى عاد إلى باريس ومعه شقيقه لكن هذا الأخير انصرف عن مساعدته، فعرضت عليه سوزان أن يسكن فى بيت أسرتها وبعد تردد وافق وانتقل للعيش معهم، فلاحظت أنه كان شديد الخجل فى تناول طعامه أمام أحد، ثم رتب سيدة تقرأ له وسيدة أخرى تصحبه إلى السوربون لكن سوزان بعد فترة انفردت بكل هذه الأعمال بلا مقابل حتى توفر له ما يساعده على العيش، وبدأت تعلمه الحديث الصحيح باللغة الفرنسية حتى أجادها، وبعد فترة اعترف لها إننى أحبك فقالت وأنا لا أحبك، وابتعدت ومع البعد أدركت حجم الأثر الذى تركه فى قلبها، فأعلنت لأسرتها عن رغبتها فى تلبية نداء قلبها للزواج من هذا الشاب المصرى الكفيف القادم من ثقافة وبيئة مختلفة، واتهمتها الأسرة بالجنون إلا عمها القسيس، فضل أن يجلس معه بعض الوقت ثم خرج وأعلن مباركته للزواج منه فحدثت الخطوبة!
وبعدها تقول سوزان فى مذكراتها: حدث هذا الشيء الرائع: الفخر، واليقين من أنه ليس ثمة ما يدعو ُ للخجل، وليس هناك أية فكرة مِريبة أو بشعة أو منحطة يمكن تحدث بسبب الارتباط بهذا الملاك الذى أقاسمه حياته!
وواصلا العمل معا، تذهب معه إلى المكتبات وبحماس شديد ظلت تقرأ له النصوص الفرنسية والتاريخ والجغرافيا حتى نجح فى امتحان الإجازة فى اللغة الكلاسيكية ودبلومة فى الدراسات العليا ثم بدأ فى تسجيل رسالته للدكتوراه عن الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون، ثم تزوجا فى 19 أغسطس 1917. وفى يناير التالى حصل على الدكتوراه وبعدها أنجبا ابنتهما أمينة فى أكتوبر 1919 وعادا إلى مصر التى تقول عنها سوزان: صارت وطنى الأول أحبها كما أحب طه، أما هذا الفتى الذى وقعت فى غرامه فقد قال لى نعم يا صديقتى لقد ملئت بالحب لعل ما بيننا يَفُوق الحب..
وأترك كلمات الفتاة المغرمة تتحدث عندما عادت إلى مصر:تعرفت َعلى حَمَوى والد ووالدة طه وكانا يعيشان فى كوم أمبو قريبًا من أسوان، وقد استقبلانى بحرارة. وبعد تبادل التحيات التقليدية مع الزائرين المجاملين والفضوليين، قال عمى لابنه: «سأخرج مع زوجتك؛ فلا تنشغل بنا.» تناول ً ذراعى، وقمنا معا بجولة فى البلدة. وشاهد شباب القرية الشيخ حسين الوقور المعمم يتنزه متأبطا ذراع امرأة شابة سافرة، لكن هذه الفتاة الباريسية وجدت فى نظراتهم أن المشهدً لم يبدو أمرا خارقًا، أجنبية ومسيحية، تعتمر القبعة! لكنه كان كذلك فى تلك الحقبة. ولم أنس هذه اللَّفْتةَ على مدى 42 عاما على الإطلاق. وعندما يتحدثون اليوم فى الغرب عن التعصب الإسلامى لا أملك نفسى عن الابتسام ساخرة أو غاضبة وأتذكر هذا الرجل، الذى كان ذا مهنة بسيطة ولا شك، لكنها تتيح للأسرة حياةً كريمةً، والذى ُّ كان يحب القراءة والحوار مع الوجهاء، وكان يتميَّز بميزة طبيعية أدهشتني؛ هو حجم الاحترام الذى كان يلقاه فى القرية، عيناه الزرقاوان تتألقان بدهاء محبَّب، أما حماتى، فقد انصرفت بكليتها لتأمين راحتى وراحة طفلتى الصغيرة. كانت الحوالة المالية التى أرسلها والد طه هى التى سمحت لنا بشراء عربة لطفلتنا أمينة فى باريس. كان طه يحدثنى ُعن أبويه بحنان، وقد عرفت َّ أن َّ أمه تكسر أربعين بيضة كل صباح لصنع عجة الإفطار العائلية، وفى العيد الكبير كانوا يشترون عجلا وخروفًا: الخروف للبيت والعجل لتوزيعه على الفقراء. لم يكن بوسعى أن أتخيَّل أن حماتى وهى المسلمة المتدينة، يمكن أن تسأل طه عن أى نوع من النبيذ يجب شراؤه من أجلي؟ لقد أجبت بأننى لا أشرب الخمر على الإطلاق، ولقد كنت فى منتهى التأثر من هذا الاهتمام ِالودى الذى أحطت به.
وفى المجالس يسأل أحدهم: دكتور طه... هل أنت متزوج؟
فيرد: نعم يا سيِّدى!
هل ستصحب زوجتك؟
لا يا سيِّدي؛ لأنَّها فى فرنساَ!
فيرد الفضولي: وتركتها تذهب وحدها؟!
ـ نعم يا سيِّدي؛ فهى فرنسية فيرد الرجل لو كنت حرا لاشترعت قانونا يحرم الزواج من اجنبية أو فرنسية
فيرد طه: أرجوك يا سيدى اشترع هذا القانون، فإنى أستعجل ألا أستمع إلى مثل هذا ُ الكلام!
فينفجر الرجل ً ضاحكا، ومعه يضحك الجميع، ويأخذون فى المزاح، إلا أن الشيخ ُّ بخيت استأنف الكلام: «لكنى بعد كل شيء يا دكتور طه أود أن أفهم الأسباب الحقيقية ٌّ التى حملت مصريا ووطنيا طيِّبا عظيم الذكاء على الزواج من أجنبية... فكيف أقدمت على مثل هذا العمل؟
فيرد طه ببساطة: قابلت فتاة، وأحببتها؛ فتزوجتها. ولو لم أفعل لبقيت عزبًا أو لتزوجت من امرأةً مصريةً نفاقًا، لأننى أحب امرأة أخرى، وكنت سأجعل منها امرأة تعسة!
ـ هذا أمر ُّ لا أستطيع تصوره!
هذا أمر لن تستطيع تصوره دوما يا فضيلة الشيخ؛ فنحن لا ننظر إلى الأشياء بالطريقة المتفتحة نفسها أبدا.
ويجول بنا رجب البنا فى حياة العميد العاطفية.. وتتذكر سوزان: لم تكن الحياة مع طه سباقا من أجل السعادة فقد حسمها طه بقوله إننا لا نحيا لنكون سعداء.» وتعلِّق: «عندما يكون المرء شأن ً طه، فإنه لا يعيش ليكون سعيدا، وإنما لأداء ما طِلب منه، ثم تعود فيما ُ بعد مرةً أخرى إلى كلمة قالها طه: لعل ما بيننا يفوق الحب!
الحياة لم تكن مجرد قصة حب تتكرر كل يوم، لكنها كانت من النوع الأسطورى الذى يكشف عن نفسه عند غياب المحبوب ذات يوم، كان على سوزان أن َ تسافر إلى فرنسا لمدة ثلاثة أشهر، فلم تنقطع رسائل طه عنها كل يوم عامرة بصوته الذى لم يفارقها: «أحبك رغم صوت مدافع الحرب. لكنى أنتظرك وأنتظرك.. ولا أحيا إلا على هذا الانتظار.
فماذا فعل الحب بهذا الملاك الحارس؟
الاجابة عند رجب البنا يقول بالفم المليان لولا هذا الملاك ما كان طه حسين مع احترامى للموهبة والإصرار والعزيمة، باعتراف طه حسين نفسه: إننى أرى بعينيك، وبدونك أشعر أننى أعمى حقا!
هذا هو العميد عندما يحب وعندما يشتاق أو تبعد عنه سوزان يوما يكتب: وأنت بعيدة تغمرنى ظلمة بغيضة، وتكتب سوزان فى مذكراتها ماهو أكثر من ذلك ويصلح لعالمنا خاصة: لمن يتحدثون عن التعصب الإسلامى لا أملك نفسى من الابتسام لأنى عرفت الإسلام على حقيقته ممثلا فى طه وأهله وأصدقائه، يرفض التعصب ويحترم الأديان والأنبياء جميعاّ! وبادلته نفس المشاعر الإنسانية النبيلة.
حين وقع العدوان الثلاثى على مصر عام 1956وغضب طه حسين لوجود قوات فرنسية فى صفوف دول العدوان شاركته سوزان فى تعبيرها عن الحزن، وكانت شديدة الغضب من حكومة بلادها لأنها شاركت فى هذا العدوان ضد بلدها وبلد طه والتى منحتها الجنسية المصرية منذ زواجهما، لذلك شجعته على إعادة الوسام الرفيع الذى سبق أن منحته له الحكومة الفرنسية، فمنحه عبدالناصر قلادة النيل العظمى عام 1965، وأكمل صنيع طه حسين فأعلن مجانية التعليم الجامعى، لكن طه حسين كان قويا بزوجته وشريكة حياته ورفيقة دربه، لا يطيق فراقها لأنها كانت أساس شعوره بالموجودات تحدثه عن الشمس والنور والظلمة وعن النجوم والجبال فكأنه يشعر بكل ذلك ويعرفه فى الزمان البعيد، فكانت أساس قوته وهو يتحدى الملك فؤاد ويرفض حضور مؤتمر عن العميان لما فى موضوعه من شفقة وتمييز بين البشر، وحارب ديكتاتورية إسماعيل صدقى باشا، وخاض العديد من المعارك السياسية والأدبية كان فيها صلبا وقويا، لكنه كان يجلس وحيدا عند غيابها ودموعه تنساب ويشعر بدونها أنه ضائع.
فلم يكن طريق العميد سهلا فهو مستطيع بغيره، وكان يتألم لأنه حتى لا يستطيع أن يرى نور حياته زوجته وابنته وولده مؤنس،لكن أكبر خصائص العميد الانسانية وأروع الدروس التى نهديها إلى أبنائنا كما أهداها رجب البنا إلى أبنائه وأحفاده أنه (أكثر الناس حرصا على أن أظهر مافى من عيب وما فى آرائى من اعوجاج.. وليس ما يعنينى أن يقولوا أخذنا عن فلان وإنما يعنينى حقا أنا أكون نافعا لهم).. فصدق فيه قول توفيق الحكيم إنه أسطع ضوء للفكر العربى فى القرن العشرين تعلمنا منه أن التعليم هو أداة التغيير وأن الديمقراطية هى السبيل إلى العدل الاجتماعى، لكل هذا استحق أن يبقى حيا حتى الآن وسيبقى طه حسين العاشق والطموح والمحب ما بقى فى الإنسانية من آلام تحتاج إلى قلب ومشاعر وضمير.
رابط دائم: