-
أبوه يخاطبه بـ «نجلى حضرة صاحب العزة».. ويضع على جبينه ألف قبلة
-
إحسان عبدالقدوس يلجأ إليه بعد ملاحقته بتهمة «الإثارة الجنسية».. ويشكو له خيبة أمله فى توفيق الحكيم
-
عبد الوهاب يعتذر له.. والشعراوى ينصفه بأثر رجعى
هل تستطيع أن تتخيل إحسان عبدالقدوس، ذلك البرنس المتوج على قلوب ملايين القراء، الوسيم ومحطم قلوب العذارى من القارئات، أمير الروايات العاطفية التى اعتدنا أن نتهمها بالسطحية، لا لشىء سوى غيرتنا منه ومن حضوره الهائل، هل تستطيع أن تتخيله وهو يكتب وجعه ويرسم يأسه ويعانق خيبة أمله؟ فعل إحسان ذلك فى حالة واحدة فقط وهو يكتب رسالة إلى عميد الأدب العربى!.
عبدالقدوس لم يكن حالة خاصة أو استثنائية، فقد تحول طه حسين إلى سماء مفتوحة وأفق أخضر وبحيرة فضية تلوح على البعد وهى تفيض نضجا واحتواءً، فكتبوا له بحبر القلب عن كل شيء وقد خلعوا أقنعة الوجاهة الاجتماعية وتحرروا من قيود الادعاء الكاذب بالتماسك.
....................................................
لتكن بداية إبحارنا مع رسائل النخبة الموجهة إلى طه حسين حميمة للغاية. وأعنى تحديدا رسالة من والد طه نفسه إلى ابنه.. هنا أنت على موعد مع اللياقة حيث ستطالع درسا رفيعا فى فن التخاطب حتى لو كان بين أب وابنه!
يقول الشيخ الوالد فى 4/10/1938:
نجلى حضرة صاحب العزة الدكتور طه بك حسين أقبلك ألف قبلة وأدعو لك بدوام الرفاهية وكمال الصحة وأرجو أن يكون أفراد الأسرة الغالية بخير وبعد. لم يصلنى ما يطمئننى على مسعاكم فى مسألة حفيدنا «محمد ربيع» نجل عبدالحميد ابن عمكم خالد وقد حضر بطرفى مسرورا ومتأثرا جدا إثر محادثتكم له تليفونيا ومستبشرا بقبول رجائه.
وقد عرفنى بأن ابنه طرد من المدرسة لعدم دفع المصاريف وجميع أفراد عائلته فى زعل شديد مخافة ضياع مستقبل ولدهم، ولما لاحظت حالته تستدعى الشفقة هالنى ذلك فاضطررت لتكرار رجائى، وأملى عظيم فى أن تجعلوا لهذه المسألة المكانة الأولى من همتكم، وأنا موقن تماما بأن أضعاف هذه المسألة ميسورة لديكم، فأرجو وألح فى الرجاء، ووالدك معذور جدا فى هذا الإلحاح؛ لأهمية ذلك لدى خصوصا وأن فى استطاعتكم تنفيذ هذه الرغبة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
والدكم حسين على سلامة
مع النحاس
ومن الأدب، ننتقل إلى رئيس الوزراء شخصيا، حيث كان طه حسين يهدى كتبه إلى النحاس باشا، والذى بدوره كان يرد على تلك الرسائل بآرائه وملاحظاته النقدية التى ترينا وجها آخر للزعيم المهتم بالفكر والأدب، ولنقرأ معا رده على طه حسين بعد أن أهداه كتابه الأشهر «الأيام» الذى يعد السيرة الذاتية له فى جزئها الثانى.
يقول النحاس فى رسالته:
مصر الجديدة فى 5 أبريل 1940
عزيزى حضرة صاحب العزة الدكتور طه حسين بك.
قرأت هديتك الجزء الثانى من كتابك «الأيام» فراقنى فيه سلاسة التعبير ودقة التصوير. ولقد اجتذب إعجابى أوله حتى أتيت آخره وخرجت منه بأشياء فيها الكثير من الطرافة والعجيب من الوقائع.
رأيت فيه وصفا صادقا لحياة الشظف والضيق التى عانيتها. حياة كنت أمينا جد الأمانة على وصف كل ما فيها فذكرت شرها وخيرها وأنصفت من شاركتهم فيها أو أشركوك هم فيها، فى غير تجن ولا إنكار لحسنات من أحسن منهم. وإن كنت قد تغاضيت عن سوءات من أساء منهم فلم تشأ أن تذكر أشخاص المسيئين، شأن رجل الخلق والعفة وسعة الصدر.. ولقد استطعت ببراعتك الوصفية وسيرك فيما كتبت مع الطبيعة والحقيقة أن تنتقل بقرائك إلى الحياة التى حييتها حتى يحسوا كأنهم شاهدوا عيشتك فى «الربع» ورأوا ما ذقت من المر.
ولا أكتمك أن كتابك زاخر بالصور الفنية الطريفة، والوقائع الحقيقية الرائعة، فهو جدير بأن يُقرأ ويقتنى.
المخلص
مصطفى النحاس
مع مصطفى عبدالرازق
وكما يلاحظ الباحث الأدبى إبراهيم عبدالعزيز فى كتابه الذى اتخذناه مرجعا فى هذا المقال وهو «رسائل طه حسين»، فإن الدكتور طه سبق أن مر بمحنة مع كتابه «فى الشعر الجاهلى»، الذى تم محاكمته بسبب ما يحتويه من آراء. وهذا ما جعله يتعاطف مع الشيخ على عبدالرازق مؤلف كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، والذى مرّ بأزمة مشابهة.
يقول الشيخ على عبدالرازق فى واحدة من رسائله لطه حسين:
عزيزى طه
أحييك وأحييى زوجتك العزيزة وأنجالك وأبلغكم جميعا تحية عائلتى وأرجو أن تجدوا فى مصيفكم من الراحة والمتاع ما يزيدكم عافية وصحة وسعادة.
لقد سرنى كثيرا أننى خطرت ببالك، وسرنى أكثر أنك كتبت إلىّ وأعجبنى هزلك وجدك، ونصحك ولومك، وخطؤك وصوابك، على أن شكرى إياك وإعجابى بك، وسرورى من أنك تفضلت فذكرتنى، لا تمنعنى من مخالفتك على بعض ما قلت خطابك، لا أبالى ضاق صدرك بهذا الخلاف أم اتسع، فقد أخذ الله علينا نحن الزعماء ألا نقر الناس إلا على الحق. ونحن نعلم أنكم يا رجال النبوغ العبقرى أحرج الناس صدرا بمن يخالفكم أو ينقدكم، وألينهم أذنا لسماع المديح والتمليق، ولكن الذى بنى على هذه الصفة نفوسكم، بنى نفوسنا على حب الخلاف والجدل واستكراه الملق والمديح، فأقام بذلك أسباب التفاوت كبيرا بين الزعامة ولولا أن الله خرق لك القاعدة وجعلك بين رجال العبقرية شاذا فجمع فيك بين النبوغ والزعامة، لما كان للتعارف بيننا من سبيل، ولكن الزعامة دوحة تضمنا معا، ثم يميزك بعد ذلك النبوغ المعبقر، فإذا نحن مختلفان».
على عبدالرازق
مع إحسان
غير أن الرسائل الموجهة لطه حسين تشتعل اشتعالا حين نصل لمحطة إحسان عبدالقدوس، وتحديدا فى تلك الرسالة التى تحكى أزمته الكبرى مع إحدى رواياته والتى أثارت ضجة وصلت إلى مجلس الأمة، وكاد إحسان أن يحقق معه فى نيابة الآداب بسببها. يقول إحسان:
أستاذى الكبير الدكتور طه حسين
تحية حب كبير واقتناع بك
قرأت فى «روز اليوسف» كلمة عتاب وجهتها لى؛ لأنى لا أرسل لك كتبى.. وهو عتاب شرفنى وأفرحنى.. والواقع أنه لم يصدر لى كتاب جديد منذ أكثر من عامين.. وقصتى الأخيرة التى تحمل اسم «أنف وثلاث عيون» رفضت الدولة التصريح بنشرها فى كتاب إلا بعد أن أحذف منها وأعدل فيها ورفضت أنا الحذف والتعديل، وبالتالى لم ينشر الكتاب.. ولكن ليست هذه هى المشكلة.. مشكلتى الحقيقية أننى منذ عامين وقد فقدت ثقتى فى نفسى إلى حد أنى لم أعد مقتنعا بأن لى إنتاجا أدبيا يستحق أن يقرأه أستاذى الكبير طه حسين.. ووجدت نفسى صريع أزمة نفسية قاسية أبعدتنى عن كل الناس، وكل مراكز الحركة، وكل من أحبهم.. واكتشفت فى نفسى أنى إنسان ضعيف.. غاية الضعف، بل اقتنعت أنى كنت دائما ومنذ أن ولدت، هذا الإنسان الضعيف.. أحمل ضعفى فى داخلى، وأحاول أن أخفيه تحت ستار من العناد الكاذب، والغرور المفتعل.. و لم أكن طول عمرى أستطيع أن أهرب من هذا الإحساس بالضعف، إلا عندما أمسك بقلمى وأكتب.. وقد كنت دائما أتحمل معاناة هائلة حتى أستطيع أن أهرب من ضعفى وأكتب.. ولكن فى السنتين الأخيرتين أصبحت هذه المعاناة أكبر من أن تحتمل.. وأكبر من أن أتغلب عليها.. فاستسلمت لضعفى، و لم أكتب خلال هذه الفترة سوى عدد قليل من القصص القصيرة.
> لماذا؟
> ماذا حدث لى؟
ربما كانت هذه الحملة المجهولة الظالمة التى وجهت ضدى وأنا أنشر قصة «أنف وثلاث عيون» مسلسلة فى مجلة روز اليوسف.. و لم تكن حملة أدبية ولم يقم بها أدباء، ولا حتى أنصاف أدباء، إنما قام بها بعض كتاب الصحف المشوهين، فى وقت كانت حالة الصحافة تبيح فيه لمثل هذه الأقلام أن تكتب فيه ما تشاء.. وكانت الحملة كما هى العادة تقوم على اتهامى بالإثارة الجنسية.. واحترت ماذا أفعل إزاءها، فالذين يكتبون ليسوا من الشخصيات المحترمة الذين يستحقون الرد عليهم.. وما يكتبونه ليس مناقشة موضوعية تستحق أن أشترك فيها. إنما هى حملة موجهة إلى شخصى.. فلم أجد إلا أن أسكت.. ولكن هذا السكوت أطمع فيّ صغار الكتاب، فاشتدت الحملة.. ثم أحاطتها ظروف كثيرة انتهت بأن قدم أحد أعضاء مجلس الأمة سؤالا عن القصة إلى الوزير المختص.. ولم يكن حضرة النائب أديبا بل إنه اعترف لى بأنه لم يقرأ القصة أصلا، ولكن قدمت له بعض فقرات منها.. إنه نائب كان يسعى لنشر اسمه فى الصحف.. فقط.
وفى هذا الوقت ذهبت إلى الأستاذ توفيق الحكيم وهو مجتمع بأعضاء لجنة القصة التابعة للمجلس الأعلى للفنون والآداب، وعرضت عليه الموضوع كله.. وقلت له: إن القضية قضية أدبية، وأن لجنة القصة هى صاحبة الحق فى أن تبدى رأيها فى هذا الاتجاه الأدبى، فإذا وجدت أنه اتجاه ليس من الأدب فى شىء، و أن نشره يعارض المصلحة العامة، توقفت عن السير فيه، رغم إيمانى به. ولأن الرأى هنا سيكون رأى لجنة من المختصين.. ثم لأنى لا أكتب فى هذا الاتجاه فحسب، ولكن معظم قصصى بعيدة كل البعد عن هذا الاتجاه، ورغم هذا فلو كان هذا الاتجاه صالحا للنشر فإن من حقى أن أسير فيه.. و.. و..
تكلمت كثيرا.. وتفضل أعضاء اللجنة والأستاذ توفيق الحكيم، وأيدوا هذا الاتجاه بل وهنأونى إليه فى حماس كبير.. فطلبت منهم أن يسجلوا رأيهم هذا فى محضر الجلسة، لا للنشر فى الصحف، ولكن فقط لألجأ إليه فى حالة تقديمى للمحاكمة إذا حدث وقدمت. وهنا تراجع الأستاذ توفيق الحكيم، وفهمت منه أنه لا يستطيع أن يسجل هذا الرأى الأدبى المحض، إلا بعد استشارة الأستاذ يوسف السباعى.. وكان يقصد استشارة الحكومة وخرجت من اجتماع اللجنة.. لست غاضبا، ولكن يائسا.. وأرسلت خطابا إلى الأستاذ توفيق الحكيم أعتذر له عن التجائى للجنة.
ولعل سيادتكم تذكر أن مثل هذه الضجة أثيرت عندما كتبت قصة «لا أنام»، والتجأت يومها إليك عندما كنت مجتمعا بأعضاء نادى القصة، وتفضلت أيامها وأيدت موقفى وشجعتنى عليه.. وكان التأييد الأدبى أيامها يكفى، ولكن فى هذه الحملة الأخيرة لم يكن التأييد الأدبى يكفى؛ لأن الحملة خرجت عن النشر فى الصحف إلى العرض فى ساحة مجلس الأمة.
إحسان عبدالقدوس
4/3/1966
مع عبدالوهاب
تعرف عبدالوهاب على طه حسين وكانت كما يلاحظ إبراهيم عبدالعزيز - عن طريق أحمد شوقى أستاذه فى الفن والحياة والذى كان يقوم بتعريفه بنجوم الأدب والفن والسياسة، وكان طه حسين ممن عرفهم شوقى، لعبد الوهاب، حينما كان يزوره أثناء رئاسته لتحرير جريدة «كوكب الشرق»، وقد أحس عبدالوهاب بموسيقية بيان طه حسين التى تهم فنانا مثله، ولا ينسى عبدالوهاب كيف حضر طه حسين تسجيل أول قصيدة ملحنة له وهى «الجندول»، يقول عبدالوهاب: ويومها أعتبر تلحين قصيدة الجندول علامة جديدة من علامات الفن العربى وانطلاقه»، ولا ينسى عبدالوهاب كذلك واقعة تدل على قوة إقناع طه حسين للآخرين فى أحلك حالاتهم شدة وقسوة.
ولم يكن أصعب من فراق الأحباء، شدة وقسوة، ومع ذلك كان طه حسين يرى فى مثل هذه الأمور دعوة للصبر والاحتمال واستلهام القوة على منازلة الشدائد، وليس أدل على ذلك من إقناعه للموسيقار محمد عبدالوهاب فى حضور أمير الشعراء أحمد شوقى، (وكانوا يصطافون فى لبنان 1927) بأن يغنى يوم إبلاغه بوفاة والده، بعد أن كان عبدالوهاب قد قام بتأجيل الحفل الذى كان من المفترض أن يقوم بإحيائه فى نفس اليوم، فعاد عبدالوهاب ليلغى التأجيل ويغنى بناء على نصيحة طه حسين: غنى كما تحس حزنا أو فرحا.
وليلتها شعر عبدالوهاب أنه كان فى أحسن حالاته من ناحية قدرته على الإجادة فى الغناء، ولم يكن مستغربا بعد ذلك ألا يتأخر عبدالوهاب عن طه حسين فى إجابة أى مطلب له، فهو القادر على إقناعه حتى بما لم يكن مقتنعا به، وسنلحظ أثر ذلك فى خطاب غامض المضمون كتبه عبدالوهاب إلى طه حسين إثر حفل غنائى كان المفترض أن يحييه عبدالوهاب فى الزقازيق بناء على طلب أحد أساتذة الجامعة، ولا نعرف لأى غرض، ولكن يبدو أن ذلك الأستاذ قد طلب إحياء الحفل بناء على التدخل لدى طه حسين وهو أحد أساتذة الجامعة لإقناع عبدالوهاب، وفيما يبدو فقد تأجل الحفل، الذى يبدى موسيقار الأجيال أسفه لعدم إتمامه بل ويسميه «الحفلة النادرة»!
يقول عبدالوهاب فى خطابه الغامض إلى طه حسين بدون تاريخ:
سيدى الأستاذ
تحية واحتراما وبعد
توجهت إلى الجامعة لغرض لقائك ولكنى آسف لعدم وجودكم، وقد وصلنى أمس خطاب من الدكتور برادة الذى اتفقت معه على إحياء حفلة مساء الأحد بالزقازيق، وما كنت أدرى أن أحدا تكلم معه بشأن تأجيل تلك الحفلة إلا أمس من شخص يتكلم معى بالتليفون، وإنى أرسل إليكم خطابى هذا لتعلموا مبلغ إحراج مركزى مع تقديم أسفى على حرمانى شخصيا من تلك الحفلة النادرة.
وتفضلوا بقبول فائق تحياتى
عبدالوهاب
مع الشعراوى
كان يحتفظ طه حسين برسالة صغيرة بتاريخ 20 يناير 1942 كاتبها أيضا شاب عربى هو محمد سرور الصبان الذى حرص على أن يسجلها من «مكة المكرمة إلى مصر المحروسة»، قائلا لطه حسين:
«يسرنى أن أقدم لكم تحايا شباب العرب فى هذه البلاد المقدسة الكريمة التى تقدر أدبكم القيم الرائع حق قدره والتى تعرفكم معرفة الروح» و «هذه البلاد التى تحفل بآثار سيد الخلق ورسول الإسلام والتى ألهمت الأستاذ سفره النفيس (على هامش السيرة) من حقها أن ترى الأستاذ الكبير، ومن حقه أن يفد إليها حاجا وزائرا ومستلهما للتاريخ ومستوحيا للديار والآثار».
ولقد كان أهل «هذه البلاد المقدسة الكريمة» مشوقين إلى طه، وكان طه مشوقا إلى بلادهم، وقد جاءته الفرصة حينما صار رئيسا للجنة الثقافة بجامعة الدول العربية، بل إنه لم يكن ليقبل اختياره لهذا المنصب لولا أنه علم أن دورة هذه اللجنة ستعقد فى المملكة العربية السعودية، وقد عبر عن ذلك فى حفل افتتاح دورة اللجنة الثقافية التاسعة التى عقدت فى «جدة» فقال:
حين شرفنى مجلس الجامعة العربية باختيارى مشاركا فى اللجنة الثقافية للجامعة، ترددت فى قبول هذا الشرف؛ لأن فيه أعباء لا ينهض بها إلا أولو العزم، ولكن لم أكد أسمع أن الدورة ستعقد فى هذا الوطن العزيز حتى أقبلت غير متردد، يدفعنى هذا الشوق الطبيعى الذى تمتلئ به قلوب جميع المسلمين مهما تكن أوطانهم، فهذا الوطن وطن العروبة والإسلام».
ويعبر عن مشاعره الأولى حين حل بالأراضى المقدسة، فيقول:
«أول ما شعرت به ومازلت أشعر به إلى الآن هو الذى يجده الغريب حين يؤوب بعد غيبة طويلة جدا إلى موطن عقله وقلبه وروحه بمعنى عام».
وقد كان الشيخ الشعراوى حاضرا هناك فى الأراضى المقدسة فى استقبال طه حسين، فقد كان محمد متولى الشعراوى يعمل بمكة المكرمة أستاذا فى كلية الشريعة ضمن البعثة التعليمية المصرية هناك، وحين سئل الشيخ عن ذكرياته مع طه حسين قال: «سمعت عنه وأنا طالب صغير؛ لأنه كان مثلما يقولون «عميد الأدب العربى»، وكنا مولعين بتتبع الأدباء، نقرأ لهم لعلنا نستطيع تكوين خميرة لغوية لأنفسنا، وأسوة لغوية فى الأسلوب، فكان طه حسين من هذا النوع لتميزه بالعرض الفاهم وسلاسة الأداء، فلم يكن يأتى بالمعانى المعقدة ليدخلها فى آذان الناس، لكنه كان يترك المعانى حتى تختمر لديه ثم تخرج للناس يسيرة سهلة بشكل طبيعى، بعكس كتاب آخرين كانوا يتعجلون ظهور أفكارهم إلى الناس قبل أن تنضج فى عقولهم وفى نفوسهم فيأتى عرضها بشكل ليس بسيطا ولا سهلا، فكنا مثلا نقرأ للعقاد الذى كان مشتركا فى المكتبات العالمية التى توافيه بأحدث كتبها قبل أن تصل إلى الناس، فتتكون لديه أفكار جديدة لا ينتظر حتى يهضمها فيذيعها على الناس فيكون فيها شىء من عسر الفهم.
أيضا عاصرنا صادق الرافعى وكان أسلوبه جامدا ولكنه جزل سهل، أما طه حسين فكان سلس الأسلوب كالمنفلوطى، فاستهوانا أسلوبه.
وعندما كبرنا بعض الشىء، وشغلنا إلى جانب أسلوب طه بمواقفه من الأزهر وبعض قضايا الإسلام، ظهر عندنا بالنسبة له وجدانان اثنان وجدان إعجاب بلغته وأسلوبه، ووجدان آخر تكون لدينا بسبب كتابة فى الشعر الجاهلى، ولما كبرنا أكثر وجدنا طه حسين علما من أعلام الوفد، وبلدنا كلها وفدية، فاجتمع مع حبنا لأسلوبه، حبنا لوفديته، فصار له فى نفوسنا مزيج «ملخبط» لذلك عندما قدمنى المصريون للاحتفال بطه حسين فى مكة، أردت تحيته بقصيدة ودعوت الله أن يعيننى على أن أوفى طه حسين حقه فيما له، وأمسك «أذنه» فيما عليه.
رابط دائم: