يصلح البحر...كبداية موفقة لإسبانيا تلك الأراضى المبهجة المتسعة فى الجنوب الأوروبى على مرمى البصر، فنحن أمام تلاحم مشاهد وألوان و بدايات ونهايات قصص شيقة. هى تصلح لك إذا كنت قارئا أومتابعا لخطوط الجمال و التحضر والعمارة التى تجمع بين ملامح الشرق ورؤى الغرب.
يعلن الوصول إلى العاصمة مدريد، بداية أكثر من حكاية لتتسع الرؤية فى العاصمة التى تشبه كثيرا مدينتنا الإسكندرية وشوارع ومبانى وسط البلد.
يقول الإسبان إن مدريد ليست مجرد عاصمة فهى مفتاح إسبانيا إلى الشمال الأوروبي، ووجودها بهذا الشكل والتكوين تحية لمنطقة البحر المتوسط وتأكيد لجمال مدنه. ولكن العارف بمدريد يراها بؤرة استقبال وتوحد للمجتمعات أو الأقاليم الإسبانية التى تحيا معا وتبدو العاصمة مركزا لها جامعا لكل شئونها.
مدن ومقاطعات وأقاليم صنعتها وقائع التاريخ والسياسة والاقتصاد، فمن يدخل إسبانيا ينظر إليها كباقة زهور تضم العديد من الألوان.
تستوقفك أشجار الرمان والزيتون والنارنج التى تفرض نفسها على الشوارع، لتبهرك إسبانيا بهذا الكم من التفاصيل الفنية والتاريخية والدينية وحتى الكروية.
تحتفظ مدريد بزيارة خاصة لملعب فريق ريال مدريد أشهر الفرق الكروية فى أوروبا والعالم خاصة أنه يحمل هو الآخر تاريخا كبيرا على قدميه.
قصته تعود إلى بدايات القرن العشرين وتحديدا عام 1902، ليـحقق تألقا منذ الخمسينيات ،ويحقق السيطرة على ملاعب أوروبا بوجود أفضل اللاعبين كجزء من القصة الاحترافية التى يتقنها،لنترك التفاصيل لرواية عشاق الساحرة المستديرة.
أيضا لابد من نظرة لمصارعة الثيران، والثور الهائج هو بطلها الحقيقى وليس المصارع أو الماتادور.
وهذا جزء من التراث يحصل على إطلالة خاصة على هذا الفن فى حلبة لاس فينتاس التى تتسع لآلاف المشاهدين الذين جاءوا متابعين لهذه التفصيلة المدهشة، التى منحها الإسبان مبنى رائع الجمال صاحب طرز عربية وقوطية.
أراد الإسبان أن يمنحوا مدنهم وضعية خاصة باحتفاظهم أيضا بهذا الكم من المبانى والبيوت التى تعود إلى القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ليبدو المشهد درسا موجها فى التنسيق الحضارى من هؤلاء الذى راعى معمارهم الا يخذل أى مشهد تاريخى مرت به البلاد.
وحتى القصر الملكى الذى يفتح أبوابه للزائرين، يحمل تعريفا بكل هذا الجمال الذى تحكى عنه أيضا التماثيل الوطنية لجويا و كريستوفر كولومبوس.
الكل موجود فى إسبانيا التى أرادت الاحتفاظ بأيام وليالى الأندلس ذات المعمار الفريد والمبانى الأوروبية والكنائس والكاتدرائيات، فى خلط عجيب للملامح العربية والقوطية والرومانية وما صنعته وقدمته أوروبا خلال عصر النهضة.
هو خلطة مميزة لشعب تقول عنه الباحثة دوروثى لودر.. عالم فى حد ذاته، فنحن لا ندرى شيئا عن القدامى سوى من كهوف التاميرا فى شمال إسبانيا التى تعود إلى عصور ما قبل التاريخ، ليأتى الآيبيريون وكانوا قوما مستقلين شرسى الطباع يجيدون فنون الصيد والحرب.
ومن بعدهم السلت الذين جاءوا من فرنسا، وامتزجوا مع الآيبيريين تدريجيا ليصبحوا شعبا واحدا تنحدر منه الأصول الإسبانية، ثم الفينيقيون والإغريق القادمون من شاطئ آسيا الصغري، وليفد القرطاجيون من شمال إفريقيا ليمتزجوا مع السكان، ومن بعدهم الرومان ليجعلوا من إسبانيا وحدة سياسية أوروبية.
وفى القرن الخامس الميلادى جاء الجرمانيون من الطرق الرومانية المعبدة وأظهروا قسوة ما لبثت أن اختفت ليعيشوا مع رعاياهم، وان كانوا يعانون انقساما، ليأتى العرب ويبرز اسم عبد الرحمن الداخل الذى يقال إنه زرع أول نخلة تثمر فى إسبانيا فى حديقة قصره.
يقول تاريخ المدن الإسبانية إن كل هؤلاء قد جاء كل منهم ببصمة خاصة قبل أن تبدأ إسبانيا عصرا جديدا مع كشوفها الجغرافية لتشكل كيانا منفردا.
ولهذا لا يكون من المبالغة أن نقول إن شعب ميجيل دى سيرفانتس الكاتب الكبير المعبر عن عالم الشقاء الذى وصل إلى نهاية الخمسينيات من عمره ليقدم أول تصور للقصة الخالدة »دون كيشوت« التى فتحت الأبواب أمام فن الرواية، وفرانسيسكو دى جويا أفضل من رسم لوحات تعبر عن الروح الإسبانية التى كانت تئن من الاضطرابات فى بدايات القرن التاسع عشر.
أما بيكاسو فقد قدم رؤية أخرى للفن مخالفة لتصوير الواقع منطلقا من مدينته ملقة التى تحتفظ بمتحف خاص لأعماله يشرح كيف تعايشت داخله كل هذه الروافد التراثية.
هل نكتفى بهذا، لا أعتقد فأمامنا الكثير فى أندلسية وخاصة أشبيلية التى تمزج الياسمين بالنارنج والماء، وغرناطة التى ترى قصورها الحمراء ليس فقط قريبا من حى البيازين ولكن من زاوية الشعراء أحمد شوقى ولوركا ونزار قباني، والكاتبة رضوى عاشور، والكاتب الأمريكى واشنطن إيرفينج، والموسيقى مانويل دى فايا كما يقول د. محمد الجمل، وقرطبة التى ما زالت تحفظ مسجدها، وبرشلونة صاحبة البهجة الإسبانية.
إنها إسبانيا التى كما يقول الكاتب سلفادور دى مادارياجا هى أرض واحدة.
رابط دائم: