مسحوراً بكل جديد فى مجال العلم والأحداث الجارية والفلك والبيئة.. منفتحاً على اللغة بكل رهافة حتى تحمل الجملة أبسط المفردات أغناها بالمعانى.. اعتاد أنيس منصور (1924 أكتوبر 2011) على الكتابة باللون الأبيض فهو على جماله وصفائه وبساطته ناتج عن انصهار كل الألوان.. كان فناناً تنبض اللغة فى يده بالحياة كاشفة عن عوالم جديدة.. وصف الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور أسلوبه فى الكتابة والتفكير بالشمبانيا: فى اللون والرشاقة والنشوة.. عن عمق فكره كتب عنه زكى نجيب محمود مقالاً فى الفكر المعاصر.. اختص فيه مقدمة كتابه «ساعات بلا عقارب» بالنقد والتعليق مؤكداً أنه لم يقرأ فى كل اللغات التى عرفها مقدمة بهذا الجمال.
وحين تعمقت صداقته بيوسف إدريس وعايشه فى أثناء أحاديثه وندواته قال له: الآن عرفت كيف تكتب! أنت تتخيل أحدا أمامك تحكى له.. فأنيس منصور يتحدث مثلما يكتب والكلام يخرج من فمه مطبوعاً ممهوراً بهذه اللغة المشدودة الخالية من أى حشو.. لغة كان لها الفضل فى أن يصبح عموده اليومى فى الأهرام (مواقف) من أعمدة الهيمنة التى تشكل عقل ووجدان قراء مصر والعالم العربى لمدة 35 عاما بصفة متصلة وهو رقم قياسى فى الصحافة العربية تلك الصلة النفسية التى كانت تربطه بالقارئ هى صلة جعلته دائما شأن أى قائد ناجح يستميل القارئ لاتجاهات جديدة يحدثه عنها ويوجد لديه ميولا ومزاجا عاما لمتابعة قضية ما يثير بها شهيته للجديد أو متابعة لشأن عام ممزوجا برؤيته الثاقبة، شأن كل الكبار كانت الناس تنتظر كلمته وسطح الأحداث يمور، كان يفضل أحيانا تفحص القاع وربما صدم القارئ وأدهشه، بما لم يخطر على باله.
كان يتطلع فى بداياته أن تكون كتبه قادرة على أن تأخذك من نفسك،تندمج معها، تنسيك موعدا غراميا من فرط الشغف، مما ذكره عميد الأدب العربى طه حسين عن كتابه الشهير (حول العالم فى 200 يوم ) نستحضر نبرات صوت العميد الذى كتب عنه قائلا:
«صاحب الكتاب حلو الروح خفيف الظل بعيد أشد البعد عن التكلف والتزيد، مرسل نفسه على سجيتها مطلق لقلمه الحرية فى الجد والهزل، وهو لا يقصد أن يبهرك وإنما يستجيب لطبعه ويظفر بإرضاء الطباع السمحة التى تكره التكلف والإحساس الذى لا يفارقك أثناء القراءة هو أنك مع الكاتب تشهد ما يشهد وتسمع ما يسمع وتقيم حين يقيم مع أنك لا تبرح مكانك. هى براعة الكاتب كأنك ظل له لا تفارقه وأشهد بأنى وجدت هذا الشعور منذ أخذت فى قراءة الكتاب إلى أن فرغت منه».
مقال أنيس منصور اليومى كان بعثرة للرؤى للقضية الواحدة فى أكثر من اتجاه ثم لملمتها للقارئ فى نهاية المقال المختزل مشفوعاً بالمعنى والخلاصة التى لا يفرضها بل هو دائم الطلب من التحقق فيما وراء الأخبار والأحداث بل انه كان يكف يده ويرد نفسه عن الإدلاء برأيه فى أى قضية مهما تكن درجة حرارتها وجماهيريتها، إذا وجد أنها استوفيت عرضاً وتحليلاً ونقاشاً من قبل زملائه الأفاضل.. لكنه كان بارعاً فى التقاط العلة وراء أهم الأحداث.. مصغياً بإلحاح للحظة التاريخية فى الشئون السياسية.. تفرده فى تنويع السرد منذ ممارسته فنون الكتابة فى منتصف الأربعينيات..إجادته تقنيات القصة القصيرة والمسرحيات والترجمات وكتابة سيرته الذاتية والدراسات النفسية أفادته كثيراً فى صقل الحكى ورهافة البوصلة والتقاط ما يستحق الكتابة: «أحياناً أكتب بسرعة فلا أعرف كيف أقرأ ما أكتب تكون درجة اليقظة والتنبيه عندى زائدة أكثر مما يجب فأحاول تخفيض اليقظة العقلية بتناول الطعام أو الانشغال بسماع الراديو».. وهو درس يعلمنا عدم الاندفاع فى الكتابة والموازنة بين البيئة الداخلية والخارجية لطقس الكتابة.. فالفن لا يحركه العواطف بل انها تظل واقفة حتى يكتب لها الكاتب عنواناً يضعها فى جملة مفيدة أو يجسدها الفنان فى لوحة ناطقة على حد تعبيره.
كان حريصاً على زلزلة أركان المعبد والتسلل بنعومة لهز بعض الثوابت الخاطئة عن المفاهيم أو الحكايات التاريخية أو العادات والأمثال أو الصور الجاهزة كان يشاغب قارئه ويصدمه حين يشعل شرارة التاريخ ليضئ الواقع أمامه: «الإنسان على الأرض هو الإنسان فى الفضاء، اكتشف كولومبس أمريكا منذ خمسة قرون لكنه ذهب إلى العالم الجديد بعقلية العالم القديم وقتل وانتهك الحرمات وسفك الدماء ذهب سفيراً للمتوحشين الإسبان.. عبور الأطلنطى مثل الدوران حول الأرضى والكواكب لم يغير من طبيعة الإنسان.. مثل السيارة الجديدة التى تعلق فيها زوجتك خمسة وخميسة منعا للحسد والمفارقة أن الخميسة والسيارة فى مكان واحد وينتقلان بسرعة واحدة فالحضارة الإنسانية تطوير للأدوات التى يستخدمها الإنسان.. تطوير للأطراف الصناعية بدلاً من المشى وليست تطويراً داخل الإنسان.. الذى مازال متوحشا».. وفى لجة الأحداث اليومية تندهش كيف تلتقط هذه العين حدثاً من ألف حدث وتستشرف رؤية من عشرات الشخصيات والأحداث ولا يخطئها الزمن.. فى عام 1998 وفى كتابه «حتى تعرف نفسك» كتب عن مقال بعنوان (الرجل الطفل) ومما جاء فيه: «المليونير الأمريكى دونالد ترامب رجل ناجح حليوة وفلوسه كتير جدا والصقور الشقراء الجارحة تحوم حوله، شئ ضايقنى جدا فى هذا المليونير أنه ظهر فى إحدى الحفلات ومعه ابنته الصغيرة (8 سنوات) وقد ارتدت فستانا عاريا لامرأة ناضجة ورسموا لها الشفتين والعينين وركبوا لها رموش العين.. أظافر الأصابع وعلموها أن تغمز بعينيها.. هذه الطفلة أرادها أبوها أن تكون امرأة ناضجة لماذا؟
منتهى القسوة والوحشية أن يدفع هذه الطفلة التى لم تبلغ العاشرة من العمر فإذا كانت المسكينة الغنية تجد نفسها أنثى وهى لاتزال طفلة فمعنى ذلك أن والدها قد حرمها من أن تكون طفلة إنها جريمة لا يقدر عليها إلا رجل متوحش.. وهو كذلك فعلاً».
تعلم أنيس منصور الفوارق اللغوية بعلامة غائرة على الجانب الأيسر من رأسه.. كان طفلاً لا يجيد ضبط التعبيرات والمعانى بدقة فسألته جدته إن كان خاله فى غرفته؟ فأجابها: لا. أنه طلع وضربته جدته حتى سال الدم من رأسه لأنه لم يقل لها إنه خرج.. فالطلعة والطلوع فى ريف الدقهلية تعنى جنازة الميت.
منذ صدور كتابه الأول «وحدى ومع الآخرين» وهو مشغول بكيمياء التفكير وفى معظم قصصه القصيرة لم ينشغل بإعطاء الأبطال أسماء ولا شأن له بالزمان أو المكان فما يعنيه هو الواقع النفسى للناس.. فالحب والخوف والكراهية والغضب ليست لها أسماء عربية وأخرى أوروبية.. فالخوف من وجهة نظره ليس كافكا والغثيان ليس سارتر والقلق ليس كيركجورد.. ولكنه كان دائم العرض لوجهة نظر كيركجورد فى أساتذة الجامعات وكان يرى هذا الفيلسوف الوجودى أنهم أفسدوا الذوق الأدبى.. فهم شوهوا الفلسفة واحتكروا صناعة المعلبات.. كل شىء لابد من دخوله فى قالب من الورق أو علبة من الحديد.. فهم لا يشربون الماء من النهر ولا يشمون الهواء من الجو ولا يأكلون من ثمار الأشجار الطازجة.. لابد من قطفها وسلقها.. فهى أسهل بعد أن تكون قد ماتت وضاعت حيويتها وبهجتها.. ولكنها ليست القاعدة، صحيح أن هناك أجيالاً من الأساتذة كما يقول كيركجورد سيطروا على الفكر وكانت النتيجة صناديق فارغة من المعنى من الأمل فى الخلاص.. فارغة من التحليل والتسجيل.. لكن هناك استثناءات.. كل شىء فى هذا العالم يخضع لقاعدة (إلا قليلاً) هناك مبدعون جامعيون بالطبع وأساتذة أجلاء،كان يحمل تقديرا خاصا للمغامرين والعباقرة الذين جازفوا واقتحموا المجهول فى أصعب الظروف وهم بلا خرائط أو بوصلة أو طعام.. من أحدثوا انعطافة حقيقية فى حياة البشر لم يمل من الحديث عنهم وتذكير الناس بفتوحاتهم فى كل المجالات.. علمته الفلسفة التى درّسها فى الجامعة لأكثر من عقد ونصف ضرورة النظر إلى داخله إذا أراد أن يصبح فناناً وإلى خارجه إذا أراد أن يرصد عالما فذا أو حدثا جديدا يتشكل ولكن إحساسه مستمر بأن ما كتبه من الممكن أن يكون أفضل وكل شىء (ليس بعد) وكل الأفكار والأحاسيس مبتسرة لابد أن يعود إليها الإنسان مرة أخرى، فالموتى وحدهم هم الذين اكتملوا وقالوا ما عندهم لذلك يمكن الحكم عليهم.. مسكوناً بسؤال بيلاطس للسيد المسيح عن الحقيقة.. لم يكف عن السؤال والترحال.
تفتقد المرأة مداعباته الخشنة كل يوم جمعة.. لكنه أنصفها حين قال:» نحن لا نرى المرأة على حقيقتها إلا عندما نكون على حقيقتنا ومن النادر أن نكون كذلك ومن النادر أن نفهم المرأة ونكون على حق معها».
وحين سُئل عن النساء اللاتى يدعوهن لمائدته اختار: نفرتيتى وكليوباترا وشجرة الدر ومارلين مونرو والأميرة ديانا وريتا هيوارث وأم كلثوم وشادية وسعاد حسنى ومى زيادة.
ولأن الإنسان أحياناً يفكر بحكمة ويتصرف بحماقة.. كان يحدثنا عن لحظات ضعف الإنسان حين تطارده الأفكار التى كان يطاردها أو تغلب عليها محذراً إنها مثل الثعبان إذا تعبنا من الضغط عليها بأقدامنا التفت حولنا.. والكلام ينسحب على الاتجاهات والنزعات والميول والسلوكيات السلبية والراديكالية التى يواجهها الأفراد والمجتمعات.
من قمم الهند وجزر هاواى وغرائب مشاهداته فى شرق العالم وغربه، كتب فى حول العالم فى 200 يوم خلاصة مشاهداته ورحلته: «أنه يحب كل الناس وكل مكان ولا يكره أحدا، لقد رأى أن الفوارق بين الناس قليلة جدا.. كل الناس تحت الجلد متشابهون ولم يعرف الكثير جدا من الدنيا، كل الذى استطاع معرفته من دورانه حول العالم هو أنه يستطيع الكثير وكل إنسان يستطيع أن يفعل الكثير وأن يعمل عشرين ساعة دون أن يتعب.. فى كل إنسان كنز من الحيوية والقدرة على الفهم والاحتمال والصبر ونحن لا ننفق من هذا الكنز إلا القليل.. فالإنسان يأكل ويشرب وينام أكثر مما يجب. ويعمل أقل مما يجب ويخاف أكثر مما ينبغى.. وأنه لا يعرف نفسه ولا يعرف حدوده الشاسعة الواسعة وأن هذه العدوى جاءته من فلسفة اليوجا فى الاحتمال والصبر والزهد فى الحياة وهى المرض الوحيد الذى أصابه وهو ينتقل من معبد إلى حانة إلى جبل والناس نيام..وعرف أن بلاده هى أكرم بلد وأهله هم أطيب ناس».
رابط دائم: