رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

بائع البيض

مصطفى البلكى

قالت وهى تمد يدها داخل النملية:
ـ على الله ألاقى عدد كافى.

هى دائما تضع الشىء وتنسى عدده, وأحيانا يغم عليها مكانه, فتظل تبحث عنه حتى تجده, هذه المرة تعرف طريقه, لكن لا تعرف العدد, رغم أنها وضعته منذ قليل, حينما مدت يدها داخل الكن وتناولته من على فرشة التبن المريحة.

ـ مفيش غير تلاتة.

تنظر إليهم, وتقول بحسرة:

ـ يكفوه.

وبينما تستدير يصلها صوت ذوبان قطعة الزبد, فتتحرك فى ثبات إلى مكان البوتاجاز السطحى الموضوع على مصطبة من الحجر الأبيض المرصوص بلا أى مادة لاصقة, تجلس على كرسى حمام صغير, وبسرعة تتقنها تضرب بيضتين ببعضهما فيسيل محتواهما ويسقط على الزبد الذى انتهى تماسكه, وتضرب الثالثة على سن حجر, وتودع ما بها فى الطاسة, وبملعقة تبدأ فى خفق البيض وبين دقيقة وأخرى تأخذ حبات من الكمون, وهى تقول:

ـ مش عارفه إيه اللى عاجبه فيه, مش الملح أحسن!

ولما تماسك, أنزلتْ الطاسة وركنتها على نفس المصطبة, وقامتْ بتثاقل, مرتْ أمام باب الحمام فأغلقته, ومن هناك على برميل مقلوب تستقر عليه مشنة العيش دست يدها تحت الغطاء وسحبت رغيفا وهمست:

ـ واحد كفاية, ما هو عادته كده, فى كل حاجة واحد وبس!.

وعادت لنفس جلستها, فكرت فى أن تخرج وتحضره, وعندما همت فى الخروج, تذكرت الطبلية, فراحت تبحث عنها, مر وقت طويل قبل أن تتغلب على النسيان.

زوجها وبينما هى تبحث عن الطبلية كان قد مل فى الخارج.

ما كف يوما فى جلسته بجوار الجدار القديم عن الشكوى والتأوه, يصاحبانه منذ زمن, وها هو يرى ظله قد تقلص, لدرجة أنه اقترب من الاختفاء, وأصبح صغيرًا, وشمس الشتاء لم تسرقه اليوم, فهى حانية, أثارت الدفء فى بدنه, وحينما خرجت زوجته لتنبهه:

ـ شمس الشتا سراقة.

ضحك, وضرب كفا بكف, وأخبرها:

ـ وهو باقى حاجة عشان تسرقه..ما خلاص.

تذكرها, جعله يدرك أن الوقت قد وليَّ, وأنها لم تنادِ عليه, فطارت عينه إلى باب البيت, وفى صمت كامل تابع كلبًا وهو يقترب منه, دار بعينيه, أمسك بحجر صغير, ملمسه البارد سرب بعض ما فيه لكفة يده, ود لو يبقيه فالبرد يشعره بجسده, لكنه تحت إلحاح الكلب واقترابه من الباب, سحب نفسًا ليستجمع قوته, فوصلته رائحة البيض, صوّب الحجر, فاخطأ الهدف, وأصاب الباب, فنتج دوى جعل الكلب يرتبك, وبدلاً من التراجع, اندفع إلى الداخل.

جعل نظره عند الباب, ينتظر خروج الكلب وخروجها وهى تمسك بعصا أو بعرجون ناشف, لن يكون فى مقدوره إلا أن يختبئ تحت كلمات يتقن قولها, لكنه يتمنى لو يتمدد الوقت, حتى يرتب ردًا يسكتها به, فالذى يخشى منه بعد الكلمات, النظرة, وتلك النظرة بالذات, أصبحت بينهما منذ زمن, تولد بعد الكلمات, فى مجملها تحمل اللوم, وكأنها امرأة لخصت ما قالته, وما سوف تقوله فيها, هما أنفسهما العينان اللتان جعلتاه يقع فى حبها ذات يوم بعيد, يفشل دائمًا فى تحديد الوقت, لكنه يتذكره ويحفظه باليوم الذى وصلت فيه البلدة أول طلمبة إنجليزى تدار باليد, سموها يومها»كرجة», يومها لم تشده ولم تأسره بالكحل الذى كان ظاهرًا, ولا الاتساع الذى يُسحر, ما شده كان ذلك الحزن الدفين الذى كان مستقرًا داخلهما, وخلاف ذلك لم يوجه إليه نظره.

فى قداسة آسرة مضى خلفها من مكان الزحام حول الطلمبة إلى البيت الذى تسكنه, فى أثناء المتابعة كان أهم شيء أضيف إلى ملاحظة الحزن تلك المشية التى لا مثيل لها, جسدها لم يكن يتحرك لم يكن يُظهر ما يملك وما يشد ويفتن, كان قطعة واحدة داخل جلباب بيتى واسع, بمنتهى الحرص تابعها, وعلّم البيت بدغل النخيل الكبير المحاط بسور واطئ.

وعندما وصف البيت لأمه, ضربت صدرها بيدها, وأخبرته أنها امرأة تزوجت مرتين ولم تنجب, حاول أن ينفض طيفها من داخله ويتحرر لكنه لم يستطع, فطوى كل شيء عنها وواجه نفسه, وتصالح معها, وركل كل الأصوات وأنصت لقلبه, وحمل عبء اختياره, وسعد به, ومع العشرة حمل عبء لسانها, وها هو يلاحقه:

ـ طول عمرك ما تعرفش تنشن, ما خلاص راحت عليك, راجل كبر وخرف.

يسكت ويكتفى بلم ساقيه, وبحجر جلبابه يخفى عورته, بينما هى تكمل:

ـ صحيح شابت لحاهم وعمر العقل ما جاهم!!

قبل أن يتجاوز العتبة تذكر غضبها حينما يدخل البيت دون أن ينفض الجلباب من غبار علًق به, تراه وهو يشلح الجلباب, وبقوة يضربه فى الهواء, تكتم ابتسامة ترغب دائمًا فى الانفلات.

ترفض أن تكون على هامش حياته, لذلك درجت على متابعته, وسن قوانين تخصها منذ ذلك اليوم الذى دخل عليها البيت, وحيدًا بلا أهل, لا أم ولا أب, وحيدًا جاء, يومها تندرت وقالت له:

ـ أنا زى سفينة فيَّا فرح وغربة, وارتحال.

ابتسم وضمها وأيقن أنها امرأة روعتها فى صلابة رأيها.

كان يخرج من الصباح إلى دكانه, يبيع ويشتري, يبيع كل شيء, ويشترى البيض فقط, كل شيء يبيعه بالبيض, لدرجة أنه فى نهاية الأسبوع كانت تحضر سيارة من المركز, يمتلئ الكرسى الخلفى بأقفاص البيض, ويظل صوته يتبع السائق حتى يختفى من أمامه, ينبهه إلى تجنب السرعة.

الأيام جعلت ما بينهما أكثر من أن يطلق عليه عشرة, فهو الذى دخل البيت وهو بناء واطئ, مكون من غرفة واحدة ومجاز, وباقى المِلك مسوّر بسور مجدول من البوص, وهو الآن كبر, وزادت غرفه, ورغم ذلك لا يستخدمون إلا مندرة واحدة والمجاز يضمهما معا أغلب اليوم.

يجلسان الآن حول طبلية صغيرة, يبدو هو هادئًا, وقبل أن يَجْبُر الزاد كما تقول له, يُلقى نظرة على المكونات, سرعان ما يرفع وجهه, ويعانق ألق الحزن على وجهها, ويقول:

ـ مفيش بصلة ولا حتة جبن قديمة.

ـ بصل مع بيض!!

وهو يبتسم يرد:

ـ اعمل أيه فى النفس.

تقوم, وقبل أن تستدير, تصطدم قدمها فى الكوب فيندلق الماء, تميل وتلتقطه, يصلها صوت تنفسه, يحترق داخلها قبل أن تغادره لتغرف الماء من البرمة, فهى تدرك وتعرف أن الهروب الآن وليس بعد قليل دون أن تنطق هو أفضل حل, ليتحرك الوقت, ويمر الموقف, وتكتفى بمراقبته, تراه يمد نظره, يعانق المشجب الممدود بين مسمارين, يعانقه بقوة من يتعرف على مكان لأول مرة, يعود إليه وداخله يردد ترانيم قديمة كان قد سمعها, ترانيم حزينة, وبداخله شلال نفس الحزن يهدر بكل ما يتذكر ويعرف, فيغمض عينيه, يجد ما يشبهه يجلس على عتبة البيت, بوجه نضر تكاد الدماء ان تفارقه, يميل إليه ويطبع قبلة على رأسه, ثم على خده, وهو يدخل يرى فيه حلم الغد, يسترد نظره من هناك, ويهمس:

ـ ملعون أنا أزاى أحط ثقتى فى الدنيا.

وبينما هى تراقبه, تبلل وجهه بابتسامة حانية, تتقن رسمها, وعبر فراغ ذاكرة مثقوبة تبحث الآن عن مكان البرمة.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق