أصبح الدولار الأمريكى موصوما بالعقوبات والحروب التجارية، وتحولت العملة التى كانت رمزا لهيمنة القطب الأوحد، إلى مركز لحرب عملات من نوع جديد بين واشنطن ودول كثيرة أعلنت أنه آن الأوان للتخلى عن العملة الخضراء والتحول إلى استخدام العملات الوطنية.
الدولار الذى كان يقبله الجميع ويتعامل به أصبح يحمل عبارة «أدين لأمريكا»، وتحول إلى «عصا للعقاب»، وهو ما لم يعد مقبولا.
وعندما نحت فاليرى جيسكارد دى إيستاينج وزير المالية الفرنسى فى عام ١٩٦٥ مصطلح «الامتياز الباهظ»، كان يقصد حقيقة أن الولايات المتحدة تحصل على ما ترغب فيه من قروض دائمة بدون فائدة من باقى دول العالم طالما تتعامل هذه الدول بالعملة الخضراء، فى الوقت الذى تدفع فيه واشنطن القليل من السنتات لطباعة ورقة فئة ١٠٠ دولار، وتدفع الدول الأخرى أكثر من هذه القيمة من كرامتها وسيادتها.
ومع تولى الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، استهدفت العقوبات الأمريكية والحروب التجارية الكثير من الدول، فى مقدمتها الصين وروسيا وإيران وتركيا، وتعددت الأسباب، والنتيجة واحدة حيث قررت هذه الدول التخلى عن الدولار.
وخلال ٢٠١٨، تراجع الروبل الروسى واليوان الصينى والريال الإيرانى والليرة التركية والبيزو الأرجنتينى والبيزو الشيلى والراند الجنوبى إفريقي، وكل دولة من هذه الدول تعانى من «قنبلة موقوتة» من الديون المقومة بالدولار الأمريكي.
وهذه الأزمة ليست وليدة اليوم، بل تعود إلى أكثر من ٣٠ عاما، عندما راكمت العديد من الدول كميات ضخمة من الديون بالدولار، وكانت هذه طريقة فعالة لدفع النشاط الاقتصادي، طالما كانت العملة المحلية قوية نسبيا مقابل العملة الأمريكية، كما أنها كانت خالية من المخاطر إلى حد ما.
وفى الفترة من ١٩٩٠ إلى ٢٠٠٠، تضاعفت الديون المقومة بالدولار ثلاثة أضعاف من٦٤٢ مليارا إلى ٢٫١٧ تريليون دولار.
,الأزمة الآن أن هذه الديون تحولت إلى برميل بارود، حيث وصلت الديون فى العالم، حسب التقرير الأخير لبنك “التسويات الدولية»، إلى ١١٫٥ تريليون دولار فى مارس ٢٠١٨، وهو رقم قياسى منذ٥٥ عاما.
ومع ذلك، زادت قوة الدولار خلال التعافى العالمى المتفاوت من الأزمة المالية الدولية فى ٢٠٠٨، ومع تراجع عملات الدول المثقلة بالديون، أصبح من الصعب على هذه الدول دفع ديونها.
هذا يمكن أن يكون «فقاعة» على وشك الانفجار، خصوصا فى حالة إذا كانت الدول المهددة لا تملك خيارات لسياسة نقدية يمكن أن تحميها.
إلا أنه منذ تولى ترامب، أظهر الدولار علامات على الانهيار، فالقادة السياسيون الذين قبلوا فى يوم ما هيمنة العملة الأمريكية يتراجعون الآن.
ففى مارس الماضي، تحدت الصين هيمنة الدولار بتوجيه ضربتين قويتين للعملة الأمريكية، الأولى عندما افتتحت بورصة عالمية فى شنجهاى للطاقة يتم تداول عقود البترول فيها باليوان، والثانية تمثلت فى تسارع تدفق الاستثمارات من السندات الحكومية الأمريكية إلى الأوراق المالية الصينية المقومة بالعملة الصينية، كما خفضت روسيا ودائعها من الدولار خلال العام الحالي، حيث إن العملة الأمريكية أصبحت من وجهة نظرها أداة خطرة فى تسوية القضايا الدولية، وحذر الرئيس الروسى فلاديمير بوتين من مخاطر حصر الحسابات التجارية بعملة واحدة وهى الدولار، داعيا إلى استخدام العملات الوطنية فى التجارة العالمية للحد من هذه المخاطر، ودافع عن هذه السياسة الجديدة قائلا إنها ليست مسألة سياسية، وإنما اقتصادية.
وأعلنت روسيا أنها استخدمت العملات الوطنية فى تجارتها مع الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا، أما تركيا فقد دعت دول مجلس تعاون الدول الناطقة بالتركية إلى استخدام عملاتها الوطنية فى التجارة بينها.
كما أعلن العراق وإيران انتقالهما إلى عملات أخرى مثل اليورو فى التجارة بين البلدين، بعد فرض واشنطن عقوبات شديدة على طهران بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووى فى مايو الماضي.
ويمكن النظر إلى انزلاق الدولار كعرض من أعراض السياسة الانعزالية للولايات المتحدة، لكن أكبر خطر قائم ضد العملة الأمريكية هو مبالغة الإدارة الأمريكية فى فرض العقوبات.
وفى ٢٠١٦، حذر جاكوب لو، وزير الخزانة فى إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، من أن الاستخدام المفرط للعقوبات سوف يقوض قيادة الولايات المتحدة داخل الاقتصاد العالمي، وسوف يضر فاعلية العقوبات ذاتها.
وأكبر تحد يواجه الدولار على المدى البعيد هو ما يسميه الاقتصاديون “معضلة تريفين»، حيث لاحظ الاقتصادى الأمريكى من أصل بلجيكى روبرت تريفين فى عام ١٩٥٩ أنه لكى توفر أمريكا الدولارات لباقى العالم، فإن عليها أن تسد عجزها التجاري، وألا يدخر الشركاء التجاريون العملة الأمريكية التى يربحونها من صادراتهم فى حسابات الاحتياط، بل ينفقونها على السلع والخدمات الأمريكية.
وتدريجيا، فإن العجز التجارى المزمن يقوض الثقة فى الدولار، وهو ما أجبر الرئيس الأمريكى الأسبق ريتشارد نيكسون على التخلى عن تغطية الدولار بالذهب فى عام ١٩٧١.
وسيواجه الدولار اختبارا جديدا خلال نوفمبر المقبل مع فرض عقوبات على قطاع البترول الإيرانى وعلى الشركات والدول التى تستورد البترول من طهران، وسط رفض واسع خصوصا من الاتحاد الأوروبى لهذه الخطوة، وهو ما سيدفع الكثير من الدول إلى المراهنة على عملاتها المحلية.
رابط دائم: