لم تؤت السنة من قبل الأحاديث الموضوعة؛ لأن المخلصين من علماء الأمة كشفوا عوارها وتصدوا لأصحابها، الذين وقعوا فى كثير من الأحيان فى سوء الفهم الذى قد ينشأ من الجهل، أو من اتباع الهوى، أو منهما معا، أو عدم النظر فى فقه المآلات أو الأولويات، أو اتباع شيخ يقف عند ظاهر الحديث لا يغوص فى معناه للوصول إلى قصد الشارع.
وقد راجت شروح وتفسيرات خاطئة لبعض الأحاديث، وحاول أهلها تحقير غيرها، وأعلنوا أن ما يفهم من الظاهر، حتى ولو خالف القرآن والمقاصد، هو الصواب الذى يجب التمسك به والدعوة إليه، مما دفع الدكتور محمد إبراهيم الحفناوى، أستاذ أصول الفقه بجامعة الأزهر، إلى تفنيد هذه الشروح التى شاعت وانتشرت.. ومن أبرز الأمثلة على هذا الفهم السقيم حديث النهى عن إلقاء السلام على أهل الكتاب: «لا تَبْدَأُوا الْيَهُودَ وَلا النَّصَارَى بِالسَّلامِ، فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ».
يقول الدكتور الحفناوى إن ظاهر الحديث يدل على عدم جواز إلقاء السلام على اليهود والنصارى، وقد أخذ بهذا الظاهر بعض العلماء وقالوا: إن فى ابتداء إلقاء السلام عليهم إعزازا لهم، ولا يجوز إعزازهم.
والحق أن هذا فهم سقيم؛ لأن للحديث سبب ورود ذكره الإمام أحمد فى مسنده، والبخارى فى الأدب المفرد، وهو: عن أبى بصرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إِنِّى رَاكِبٌ غَدًا إِلَى يَهُودَ، فَلَا تَبْدَأوهُمْ بِالسَّلَامِ».
فسبب الحديث بين سبب النهي، حيث قيده بحالة الحرب، فلا نبدأهم بالسلام فى حالة الحرب، ونضطرهم إلى أضيق الطرق، أما فى حالة السلم فيعاملون بكل مودة ورحمة كما أمر القرآن الكريم.
وقد روى البيهقى فى (شعب الإيمان) أن أبا أمامة كان إذا انصرف إلى بيته لا يمر بمسلم ولا نصراني، ولا صغير ولا كبير إلا سلم عليه، فقيل له فى ذلك، فقال: أمرنا أن نفشى السلام.
وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ السَّلامَ تَحِيَّةً لأُمَّتِنَا وأَمَانًا لأَهْلِ ذِمَّتِنَا».
ويتساءل الدكتور الحفناوى: ألم يقل القرآن للنبى صلى الله عليه وسلم فى شأن المشركين (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ).! ألم يقل القرآن: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ)!. كيف لا أبدأ بالسلام ذميا تربطنى به صلة قرابة، أو جوار، أو سفر، أو عمل؟
كيف لا يلقى الرجل السلام على زوجته المسيحية أو اليهودية؟!
أتبيح الشريعة لى الزواج بها، وتنهانى عن إلقاء السلام عليها؟!
إن القرآن الكريم أجاز الأكل من ذبائحهم والزواج بنسائهم، قال تعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ).
ومن لوازم هذا الزواج وثمراته: وجود المودة بين الزوجين، كما قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً).
وكيف لا يود الرجل زوجته، وشريكة عمره، وأم أولاده؟!
إن أفعاله، صلى الله عليه وسلم، وصحابته من بعده تدل على أن حديث النهى عن ابتداء اليهود والنصارى بالسلام خاص بحالة الحرب، فرسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان يحضر ولائم أهل الكتاب، ويغشى مجالسهم ويواسيهم فى مصائبهم، ويعاملهم بكل أنواع المعاملات التى يتبادلها المجتمعون فى جماعة يحكمها قانون واحد، فقد كان يقترض منهم نقودا ويرهنهم متاعا، تعليما للأمة، وتثبيتا عمليا لما يدعو إليه من سلام ووئام، وتدليلا على أن الإسلام لا يقطع علاقات المسلمين مع مواطنيه من غير دينهم.
وأمر عمر بن الخطاب رضى الله عنه أن يعطى من الصدقات قوم من النصارى مصابون بالجذام، وأن يرتب لهم القوت.
وكان عثمان بن عفان رضى الله عنه يعطف على شاعر نصرانى هو أبو زبيد.
ويضيف د. محمد الحفناوى: هذه المعاملة الطيبة من النبى صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده كان لها أثر طيب عند أهل الكتاب، فقد كتب المسيحيون فى الشام إلى أبى عبيدة يقولون: (يامعشر المسلمين أنتم أحب إلينا من الروم، وإن كانوا على ديننا، أنتم أوفى لنا، وأرأف بنا، وأكف عن ظلمنا، وأحسن ولاية علينا، ولكنهم غلبونا على أمرنا وعلى منازلنا». وغلق سكان (حمص) أبواب مدينتهم حتى لا يدخلها جيش (هرقل) وأعلموا المسلمين أن ولايتهم وعهدهم أحب إليهم من ظلم الرومان وتعسفهم.
وفى موقعة الجسر سنة 13 هجرية كاد المسلمون ينهزمون هزيمة ساحقة وهم محصورون بين الفرات والجيش الفارسي، وإذا بزعيم مسيحى من قبيلة طيئ ينضم إلى المثنى القائد المسلم ويساعده فى النجاة والارتداد المنظم. هذه نماذج للمعاملة الطيبة المتبادلة بين المسلمين وأهل الكتاب، فهل يجوز لأحد بعدها أن يتمسك بظاهر الحديث الذى ينهى عن ابتدائهم بالسلام؟.
رابط دائم: