حتى التدخل الخارجى فى شئون الدول ومحاولة التأثير على مصائرها وتوجيه مواقفها «مع أو ضد» أصبحت له صيحات وطرق مبتكرة تتناسب وسمات العصر الحديث.
وأهم هذه الصيحات ما يأتى مغلفا متخفيا بعيدا عن استراتيجيات «مؤامرات القصر» و»الاغتيالات». فعندما أصبح الغرب ذاته هدفا، بات الأمر يتطلب «تدخلا» يليق بأهم مبادئ العمل السياسى هناك، وهما الحق فى «الاختيار الحر»، و»الحق فى المعرفة»، فيتم تفريغ المبدأين من مضمونهما واستغلالهما فى خدمة الطرف الخارجي، فلا الاختيار يصبح «حرا» حقا و»المعرفة « أصبحت أخبارا «مفبركة».
خلال الأيام الماضية، أصدر الرئيس الأمريكى دونالد ترامب أمرا تنفيذيا بفرض عقوبات على أى دولة أو جهة أو فرد يتأكد محاولته التدخل بأى شكل للتأثير على الانتخابات الأمريكية.
القرار يستهدف، أولا، تخفيف حدة الانتقادات ضد ترامب بسبب موقفه المتهاون مع الأدلة المتراكمة حول تدخل روسيا لدعمه ضد منافسته السابقة هيلارى كلينتون، وثانيا، فرض سياج أقوى لحماية انتخابات التجديد النصفى بالكونجرس فى نوفمبر القادم.
وفقا لما نقلته وسائل الإعلام عن مسئولى أجهزة المخابرات الأمريكية، فإن محاولات التدخل الخارجى لتوجيه انتخابات نوفمبر لا تشبه بأى حال من الأحوال ما كان فى 2016، ولكن الإفادة ذاتها تشير إلى أن روسيا لم تعد وحدها، وأن الساعين للتدخل والتأثير بينهم الصين وإيران وكوريا الشمالية.
إدراج دول أخرى بخلاف روسيا تأكد أكثر فأكثر نهاية أغسطس الماضى بإعلان أكبر مواقع «التواصل الاجتماعي، «فيسبوك» و»تويتر» إلغاء المئات من الصفحات والحسابات التى تأكد أنها تتبع جهات محسوبة على الإعلام ومؤسسات الدولة فى كل من طهران وموسكو وأنها كانت تستهدف نشر أخبار مضللة بين أوساط مواطنى الولايات المتحدة وبريطانيا، بل إن بعضها كان يخاطب أهالى أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط برسائل تصب فى مصلحة الأجندة السياسية لقوى بعينها دون أخرى.
ويضاف إلى هذا كله ما كشفته أحد عمالقة أنظمة الكمبيوتر دوليا، وهى مايكروسوفت، التى أكدت أن عناصر قرصنة محسوبة على موسكو تسعى لاختراق الحسابات والبريد الإلكترونى لعدد من المجموعات السياسية فى أمريكا قبيل انتخابات نوفمبر المنتظرة.
كل هذا قد يكون تطورات حديثة، لكنها حتما ليست بجديدة، فهذا كله موصول بما كان من التسريب المتعمد للرسائل الإليكترونية لكلينتون خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وما كان من رواج قصص أخبارية «ملفقة» عبر مواقع التواصل الاجتماعى تستهدف دعم فرص ترامب والنيل من سمعة منافسته.
واللافت أن هذه القصص نالت، وفقا لتقارير الرصد الإعلامي، معدلات متابعة أعلى بالمقارنة مع نظيرتها التى صدرت عن منصات إعلامية معروفة وموثق بها مثل صحف «واشنطن بوست» و»نيويورك تايمز». والمسألة ذاتها تكررت فى ألمانيا خلال الانتخابات العامة نهاية 2017 من الترويج إلى قصص كاذبة أو مبالغ فيها فى أفضل الأحوال حول انتهاكات قام بها المهاجرون وطالبو اللجوء لتحفيز القاعدة الانتخابية ضد المستشارة الألمانية آنجيلا ميركل، فى محاولة لإضعاف قيادة الاتحاد الأوروبى التى تعد المستشارة إحدى دعائمها، وهى المحاولة التى تكررت مؤخرا خلال أزمة أعمال العنف بين ألمان ومهاجرين فى مدينة «كيمنتس» الألمانية.
والأمثلة المشابهة تكررت على هامش تصويت « البريكست» فى المملكة المتحدة قبل عامين، وكذلك ما كان من محاولة التأثير على الداخل الأوكرانى خلال أزمة كييف المستمرة مع روسيا، وغير هذا الكثير.. التدخل الخارجى يستخدم بعض تكتيكات الزمن الماضى مثل استغلال الخلافات السياسية والأزمات الاجتماعية والاقتصادية والنفاذ منها لإحداث تغيير لمصلحته.. الجديد أن التغيير أصبح «أنعم» و«أكثر هدوءا» يضرب مبادئ الديمقراطية الغربية، لكن أهلها لا يدرون، فهم يضربونها بأيديهم.
رابط دائم: